[اضغط/ي هنا لقراءة الجزء الأول].
المقالة بجزئيها عبارة عن نصّ محاضرة بيسان التي أُلقيت في 13 نوفمبر 2024. يستعرض فيها ديدييه فاسان بعض العناصر الواردة في كتابه "هزيمة غريبة. حول القبول بسحق غزة"، الذي نُشر في خريف عام 2024 عن دار النشر "لا ديكوفيرت". وستصدر نسخته الإنجليزية في يناير 2025 عن دار النشر "فيرسو" بعنوان "التخلي الأخلاقي، كيف فشل العالم في وقف تدمير غزة". يمكن الاطّلاع في هذا الكتاب على المراجع التي استند إليها التّحليل الوارد في نصّ المحاضرة.
ديدييه فاسان، عالم أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا وطبيب، أستاذ في كوليج دو فرانس، كرسي "القضايا الأخلاقية والتحدّيات السياسية في المجتمعات المعاصرة"، وأستاذ في معهد الدراسات المتقدّمة في برينستون.
ترجمة الشاعر التونسي علي اللواتي.
لا شكّ أنّه لا حاجة إلى البحث عن سوابق، هي حقًّا غاية في الوضوح، لخيانة القيم تلك التي تعتبرها البلدان الغربيّة ذات بعد أساسيّ. لكن المهمّ بالتأكيد التّذكير بالاستنكار الدّولي الذي أعقب تدمير تماثيل بوذا في باميان على يد حركة طالبان في العام 2001 أو قصف ماريوبول من قِبَلِ القوات الرّوسية سنة 2022 – وهي أحداث قيل إنّها "همجية" – لنفهم بطريقة أفضل موقفَ السّلطات الأوروبية والأمريكية الشمالية المتّسم باللاّمبالاة إزاء تدمير المسجد الكبير في غزة الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر، وقصف مستشفى الشّفاء، أكبر مستشفى في المنطقة، في عام 2023. فمن الضّروري، إذن، محاولة فهم ما الذي جعل ذلك التخلّي الأخلاقي أمرًا ممكناً من خلال تحليل المنطق الذي تستند إليه الحجّة الرئيسية المبرّرة لِحَقِّ إسرائيل غير المشروط في الدّفاع عن نفسها من جهة، ومن جهة أخرى بتحليل التّعليلات التي تفسّر تصديقَ العديد من الحكومات على تلك الحجّة والقبول بنتائجها القاتلة.
لقد دفعت هجمات السّابع من أكتوبر الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأنّ الأمن الذي ظنّوا أنهم قد حققوه إنّما هو في الواقع هشٌّ ومهدّد ويكتنفه الغموض؛ وقد كشفت الشّهادات والتعليقات في الأسابيع التّالية أنّ ذلك الشعور الذي تقاسمهُ العديد من اليهود في جميع أنحاء العالم، كان يتجاوز الرّعب من الحدث نفسه؛ كانوا يردّدون أنّ الأزمة وجودية، إذ، فجأة، بات وجود الدولة الإسرائيلية ذاته مهدداً. فإنْ كانت الإجابة على ذلك، حسب قول رئيس جهاز المخابرات السابق في الموساد، أنّ خطر الاختفاء غير محتمل إلى حد كبير بفضل الجيش عالي التّجهيز والدّعم الثابت من الغرب، فليس من شأن ذلك أن يؤثّر في قناعة يغتَذي منها الشعور بضرورة استئصال العدوّ. وفي حديثي مع زملاء إسرائيليين يعملون بالولايات المتحدة وفرنسا، أدركتُ إلى أيّ درجة كانت عمليّات تحريفِ التاريخ وفَلْتَرَةِ المعلومات التي تعرّضوا لها في أُسَرِهم وفي المدارس وعبر وسائل الإعلام، موازيةً لما عرفه الرّوس في الاتحاد السوفياتي. ولقد كانت الحكومة الإسرائيلية تعمل على تغذية قناعة التهديد الوجودي قصد استخدامها لتبرير حرب غير محدودة، حيث كان موت عشرات الآلاف من المدنيين أمراً ضرورياً للتغلب على بضعة آلاف من المناضلين. لقد كانت الحجّة التي تغذي شبح خطر وجودي على إسرائيل هي نيّة حماس المعلنة في ميثاقها لعام 1988 الذي يتّسم بنبرة نظرية المؤامرة ومعاداة السّامية ويدّعي كامل فلسطين التاريخية للمسلمين. ومع ذلك فإنّ الحجّة الإسرائيليّة تنطوي على مغالطتين: إسقاطُ ما يفعله المرء ذاته على الآخر، وتنبؤٌ بأمرٍ يُخشى وقوعه فيتحقّق لكثرة التّفكير في مجابهته.
أولاً، لقد تم تقديم نسخةٍ معدّلة من ميثاق حماس من قِبَلِ زعيمها في العام 2017. ولئن لم يذكر الميثاق اعترافَا واضحًا بدولة إسرائيل كما فعلت فتح، فهو يشير إلى موقف يميل إلى "حل سياسي" للنزاع، يتضمن إنشاء دولتين، إذْ يتيحُ للفلسطينيين الأراضي التي حدّدتها الأمم المتحدة على أساس حدود 1967، مع تذكيرهم بالمطالبة التاريخية بكامل فلسطين. ولا يخلو ذلك الانفتاح السّياسي من التناقضات النّاتجة عن التسويات داخل الحركة، لكنها سمحت بفتح بابٍ لـِمُفاوضاتٍ ممكنةٍ على أساس القانون الدولي، وهو ما رفضته الحكومة الإسرائيلية التي اعتادت رفض قرارات الأمم المتحدة، حتى أنّها أعلنت أمينها العام شخصاً غير مرغوب فيه. لقد فضّلت إسرائيل وحلفاؤها قبل السابع من أكتوبر، اعتبارَ موقف حماس المائلَ للصّلح غير صادق، وبعد السابع من أكتوبر، شعروا حتما بتحقّق شكوكهم بينما تجاهلوا الرّفض من جانبهم للمفاوضات مع الفلسطينيين وعدم تطبيقهم لاتفاقيات أوسلو. وفي الواقع كان المشروع الإسرائيلي منذ الخمسينيات يرمي إلى احتلال كامل فلسطين. لقد وُصِمَتْ عبارة "من النهر إلى البحر" كدعوة إلى الإبادة الجماعية عندما أطلقها نشطاءٌ مؤيدون لفلسطين، والحال أنّ برنامج حزب الليكود لعام 1977، أي قبل أحد عشر عاماً من ميثاق حماس الأوّل، كان ينصّ على العبارة ذاتها حرفياً: "بين البحر والأردن، لن تكون هناك سيادة إلا إسرائيلية"، وتمّ تكرار هذه العبارة عدة مرات من قِبَلِ رئيس الوزراء الإسرائيلي في العام 2023، بما في ذلك المرّة التي عرض فيها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أيام قليلة من هجمات السابع من أكتوبر، خريطةً اختفت منها الأراضي الفلسطينية المحتلّة. هذا وإنّ ضمّ كامل فلسطين إلى الدولة الإسرائيلية يحظى بتأييد 42 % من مواطني هذا البلد وفقاً لاستطلاع رأي حديث، لكن تلك السياسة ظلّت في الواقع، سارية المفعول لأكثر من خمسين عاماً، ومنذ خمسين عاماً بعد انتهاء حرب 1967، استقر 700,000 إسرائيلي بشكل غير قانوني في 279 مستوطنة بالضفّة الغربية والقدس الشرقية، منها 147 مستوطنة تتعارض حتى مع القانون الإسرائيلي، في حين أنّ أكثر من 5 ملايين فلسطيني محرومون من حرية التّنقل في وطنهم؛ وبالتالي فإن المغالطة الأولى بخصوص "التهديد الوجودي" الزعوم تتمثّل في أن الحكومة الإسرائيلية، برفضها التّغيير في موقف حماس، تستطيع اتهام الفلسطينيين بأنهم يتخيلون ما تقوم به هي نفسها.
ثانياً، إنّ الحكومة الإسرائيلية تساهم من خلال مواصلة مشروعها تدمير غزة وسكّانها في تدهور صورة بلادها يوماً بعد يوم، وبالتالي في تدهور صورة حلفائها. وقد بدأ هؤلاء في الابتعاد عن دولةٍ يدأبون على تسميتها بالصديقة، لكنهم أصبحوا يدركون أنها تقودهم إلى الهاوية. كان ابتعادهم ذاك قولاً دون فعل إذ لم يتّخِذْ أحدٌ منهم إجراءات جادّة لإيقاف الحرب، كاتخاذ عقوبات ضد إسرائيل، مثلا، كما يطالب بذلك بشجاعة أكثر من 3500 إسرائيلي يهودي. لقد أدّت مذابح المدنيين وتدمير الأراضي ومعها خطابات الكراهية ضد الشعب الفلسطيني، إلى تقويض شرعية الحكومة الإسرائيلية على الصّعيد الدّولي، بل تعدّى ذلك لينال المجتمع الإسرائيلي برُمّته، حيث أن غالبيته، بما في ذلك ما كان يُسمى سابقاً باليسار، يدعم أسلوب إدارة الحرب. وفي افتتاحية حديثة لصحيفة هآرتس عنوانه : "إسرائيل على طريق التوحش"، إشارةٌ إلى تسلّل أفكار تفوّق عرقي إلى الشعب والجيش والنوّاب والحكومة الإسرائيلية، وأكّدت الصحيفة أنه إذا استمرت البلاد في هذا الطّريق، فإن "السّقوط النّهائي لإسرائيل لن يكون سوى مسألة وقت". وتختم الصحيفة بالقول: "لقد بدأ العد التنازلي". وقد أظهرت استطلاعات دولية أيضاً أن الصّورة الإيجابية لإسرائيل تراجعت بمتوسّط أكثر من 18% في 43 من أكبر دول العالم، بين سبتمبر وديسمبر 2023. إذن، فالمغالطة الثانية تبدو هنا في كون الدّولة الإسرائيلية ومدافعيها يسرِّعون بشكل رمزي التهديدَ الوجودي الذي يدّعون أنهم يريدون تجنُّبه.
لماذا دعمت معظم الحكومات الغربية في هذه الظروف، ليس فقط حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها، ولكن أيضاً خطّتها لتدمير غزة؟ لماذا لم تردّ تلك الحكومات الفعل عندما صرّح الرئيس الإسرائيلي بأنّ الأمّة بأكملها مسئولة، وعندما قال وزير الدّفاع الإسرائيلي إنّ سكّان غزّة حيوانات بشرية ويجب محاربتهم على هذا الأساس، مما مهّد الطّريق للقتل الجماعي الذي بات وشيكاً؟ ولماذا قال الرئيس الفرنسي في اليوم السابق للاحتفال بذكرى مرور ثلاثين سنة على الإبادة الجماعية للتوتسي، إن فرنسا وحلفاءها الغربيين والأفارقة كان بإمكانهم إيقافها ولكن أعوزتهم الإرادة لفعل ذلك؛ دون أن يربط بين هذا وبين حقيقة أنّه كان، خلال ستة أشهر، في موقع التدخّل لمحاولة إنهاء ما اعتبرتْهُ أعلى محكمة دولية تهديداً محتملاً بالإبادة الجماعية في غزة، وأنه لم يكن فقط يفتقد الرّغبة في التّدخّل، بل إنّه كان داعمًا للحرب – ممّا قد يعرضه بعد ثلاثين عاماً للمسائلة من قِبَلِ خلفه؟ وبعيداً عن الانفعال العميق والمشروع الذي أثاره عنف هجوم حماس وطبيعته المفاجئة، فغالباً ما يُسْتَشْهَدُ بما كانت تذكره المستشارة السّابقة أنجيلا ميركل في عام 2008 حول "أمن إسرائيل" باعتباره "مصلحة دولة"؛ وإنّ ما ينطبق على بلدها من حيث مسؤوليته عن إبادة اليهود في أوروبا، ينطبق، وإن بدرجة أقل، على دول أخرى بما في ذلك فرنسا التي تعاونت مع النّازيين. لكن، ودون إنكار إخلاص العديد من أولئك المقتنعين اليوم، وخاصة في ألمانيا، بضرورة دعم إسرائيل، يجب أن تخضع رغبتهم النّبيلة في غسل الذّنب لفحصٍ نقدي ذي صلةٍ بالواقعية السياسية، وهو أمر مارسته ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكما يذكر الكاتب الهندي بانكاج ميشرا (Pankaj Mishra)، فإن التعويضات المالية الكبيرة التي قُدِّمت آنذاك لإسرائيل والدعم غير المشروط للدّولة النّاشئة لم يكن الدّافع إليه اهتمام أخلاقي بقدر ما كان "فيلوسيميتية إستراتيجية" (أي محبّة لليهود لهدف ما). وكان المستشار كونراد أديناور يبرّر ذلك برغبته في استعادة "الصورة الدولية" لألمانيا، وبحرصه على جعل إسرائيل "حصن الغرب"، في الوقت الذي كان يتخلّى فيه عن سياسة مسح أثر النازية في بلاده، محاولا حتى حماية بعض الشخصيات النازية السابقة. وفي نقده للنّسيان الذي يواجه ذلك الغموض التاريخي، يسلّط إيال ويزمان (Eyal Weizman) الضوء على التناقض المزعج لمسؤولين سياسيين ألمان يتهمون أطفال أو أحفاد الناجين من تدمير اليهود في أوروبا بمعاداة السامية، في الوقت ذاته الذي يوافقون فيه على تدمير الفلسطينيين بغزّة.
إضافةً إلى الأسباب التاريخية، هناك رهانات جيوسياسية تلتقي فيها مصالح الأوروبيين والشمال أميركيين مع مصالح العديد من دول الشرق الأوسط، خاصّة منها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، وكذلك، ومنذ وقت طويل، مصر والأردن. وتعمل تلك الدّول معاً لإنشاء سوق إقليمي كبير، ممّا يتطلب تطبيع العلاقات مع إسرائيل وإقامة جبهة مشتركة ضد إيران وحلفائها، كما ظهر ذلك في التعاون العسكري بين الجيوش الغربية والعربية خلال هجوم الطائرات المسيرة والصواريخ الذي شنّه نظام الملالي رداً على الضربة الجوية الإسرائيلية على قنصليته في دمشق. وبحسب هذا التّرتيب الذي له تداعيات اقتصادية وعسكرية هامة بالنسبة لجميع الأطراف، فإنّ تعزيز الشّراكات التي أضفت عليها اتفاقات إبراهام الطابع الرسمي، يتضمن الإجهاز على قضية فلسطين بدلاً من حلّها. وقد كانت الوضعية قبل السابع من أكتوبر مواتية لذلك، حيث كان العالم قليل الاهتمام بالفلسطينيين وبإمكانية أن تكون لهم سيادة، وكان لإسرائيل تمام الحريّة في مواصلة توسيع مستوطناتها، بما فيها الـمُـقامة في القدس وخنق سكان غزة والضفة الغربية. ومن الواضح أنّ الأفضل بالنّسبة للولايات المتحدة تقديم هذه القضايا الجيوسياسية على الأسباب التاريخية التي قد تكشف عن أوجه تشابه حسّاسة بين نشأة الدّولة الأمريكية ونشأة الدولة الإسرائيلية، حيث وُلِدَت الدّولتان فوق رماد التّطهير العرقي والمذابح الجماعية، وتأسستا بفعل الاستعمار الاستيطاني كما كانتا ضالعتين في الحروب منذ نشوئهما. والواقع أنّ الحكومة الأمريكية معنية بشكل رئيسي، في سياق إعادة تشكيل التحالفات الدولية، بعلاقات نفوذ في إطار عودة الإمبريالية والأطلسيّة.
هناك جانب مهمّ غالبًا ما يتم تجاهله بخصوص الدّعم الذي تحظى به إسرائيل، وهو المساهمة في صناعة الأسلحة العالمية، وفي اقتصاديات الحرب على نحو أعمّ. ولقد كانت فرنسا، أيّام الجمهورية الرابعة، هي التي مكّنت الدّولة النّاشئة من الحصول على السّلاح النووي – وقد أوقف الجنرال ديغول ذلك البرنامج رسميًا في العام 1960، لكنه استمر بشكل غير رسمي حتى العام 1968. وتُعَدُّ اليوم مساعدات الولايات المتحدة لإسرائيل الأضخم حجما حيث تتجاوز بكثير جميع المساعدات الأخرى التي تقدّمها لِدُولٍ أجنبية. فمنذ عام 1946، بلغت 310 مليار دولار وفي السنوات الأخيرة، قُدِّرَتْ بحوالي 3.3 مليون دولار سنويًا، منها نسبة 99.7% مُخصَّصة للقطاع العسكري، بالإضافة إلى 500 مليون دولار لتعزيز القبّة الحديدية ضد الهجمات الجوية. وتمثّل تلك المساعدة في المتوسط 71% من المساعدات الدّولية التي تتلقاها إسرائيل. غير أنّ السّنة الأولى من الحرب في غزة شهدت منح 22 مليار دولار إضافية، أي ستة أضعاف المبلغ السّنوي في الأوقات العادية. وبموجب قانون ليهي الأمريكي، فإنّ لمساعدات العسكرية لا تُقَدَّمُ إلى الحكومات الأجنبية المتّهمة بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مما يشير إلى أن واشنطن تعتبر إسرائيل حكومة تحترم تلك الحقوق. وكما هو الشّأن بالنّسبة لكلّ الإعانات التي تقدّمها الولايات المتحدة في مجال الدفاع، فإنّ على المستفيدين أن ينفقوا المبالغ المخصّصة لهم لِشراء معدات وخدمات أمريكية، مع السّماح ببعض الاستثناءات لإسرائيل؛ مما يعني أن المساعدات إنّما هي في الواقع إعانة للمجمّع الصناعي العسكري الأمريكي. وكما هو حال الحرب في أوكرانيا، فإنّ حرب غزة تمثّلُ مصدرًا مهمًا لشركات هذا القطاع، ولكن أيضًا للخبرة التي يطوّرها البنتاغون في سباق التسلّح العالمي. ومن جهة أخرى، فإن التّعاون بين الولايات المتحدة في مجال المخابرات ووجود قوات أمريكيّة في إسرائيل، خاصّة لتركيب النّظام الجديد المضادّ للصواريخ، يجعل من تلك البلاد ساحة اختبار رائعة للحروب القادمة. وعلى نحو أوسع وبالإضافة إلى العوائد المالية التي توفّرها تلك المساعدات للولايات المتحدة وكذلك لألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، فإن مبيعات الأسلحة والخدمات العسكرية لإسرائيل تسمح باختبارها في حالات القتال الحقيقيّة.
إنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي على تمام المعرفةِ بكيفيّة الاستفادة من هذه الأبعاد المتعدّدة للدعم الغربي؛ فبالإضافة إلى التذرّع بالتّهديد الوجودي الذي يواجه بلاده فهو لا يتردّد في التأكيد على أنه يمثّل "العالم المتحضّر" ويدافع عنه في المنطقة ضدّ "البرابرة" المسلمين، وذاك أمرٌ له تأثيره. وفي سياق تصاعد أشكال الاستبداد والقومية ومع التقدّم اللاّفتِ في جزء كبير من أوروبا للأحزاب اليمينية المتطرّفة التي وصل العديد منها الآن إلى سُدّة الحكم، يمكن تفسير التّسامح وحتى التّعاطف مع هذا الحليف للغرب لكونه يمارس سُلْطةً تُمجِّدُ تلك الاتّجاهات اليمينيّة المعادية لسيادة القانون ومبادئ الحريّات، ممّا يفسّر العلاقة الوثيقة، التي قد تبدو متناقضة في نظر البعض، بين رئيس الوزراء المجري المعادي للسامية ورئيس الوزراء الإسرائيلي العنصري.
وفيما يتعلّق بالولايات المتحدة، يمكن تفسير دعم الإدارة الدّيمقراطية للسّياسة الإسرائيلية على نحوٍ أكثر بساطة، فذلك الدّعم يرتبط باللّجنة الأمريكية للعلاقات العامّة مع إسرائيل (AIPAC)، التي وعدت بإنفاق 100 مليون دولار لهزيمة المرشّحين الذين يدعمون وقف إطلاق النار، وقدّمت تبرعًا كبيرًا لحملة الرئيس الجمهوري لمجلس النواب بعد أن حصل على قبول مشروع قانون يمنح 14 مليار دولار من المساعدات العسكرية لإسرائيل. وفي الجامعات تهيمن الأسباب المالية نفسها، حيث ألغى المتبرعون الأثرياء تبرعاتهم، أو استقالوا من مجالس الإدارة، أو هدّدوا على الأقل بذلك إذا لم تُوقف الإدارة الاحتجاجات المؤيِّدة لوقف إطلاق النار من أجل السّلام العادل، ولم تُعاقب الطلاب الذين شاركوا فيها.
بالإضافة إلى تلك المنطقيات المختلفة - التاريخية والجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية - التي تتفاوت ترتيباتها بحسب السّياقات الوطنية، يوجد عنصرٌ أيديولوجي مشترك بين الدول الغربية يتمثّل في العداء تجاه المسلمين والعنصرية ضد العرب. ويشكّل هذان العنصران جزءًا من الإرث الاستعماري، وخاصة منه المتّصل بالإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية، بل هو كذلك من مخلّفات ما قبل الاستعمار في الغرب المسيحي كما يسميه ماكسيم رودنسون. لقد تمّ تحليل هذا العداء في حالة الولايات المتحدة من قِبَلِ إدوارد سعيد في نصه القصير "العربيّ مُصوّرًا" بعد حرب 1967. لكنه اتّخذ معنى آخر بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 حيث تمّ ربطُ الإسلام بالإرهاب والمسلمين بالخطر على أمن الدّول الغربية، وربط الشعوب العربية بالتّهديد للهوية الأوروبية. وقد تكاثرت الخطابات المعادية التي تستهدفهم بالتّحديد، منها نشر فكرة "الاستبدال العظيم" على غرار ما عُرِف بمؤامرة اليهود-الماسونيين في السّابق ومنها القيود على الحدود مثل "حظر المسلمين" في الولايات المتحدة وحظر الرّموز الدّينية المتعلّقة بالإسلام في فرنسا وتصاعد الإسلاموفوبيا كما تم توثيقه في تقرير حديث في ألمانيا والإعلان عن سحب الجنسية البلجيكية من الأطفال الفلسطينيين المولودين في بلجيكا، إلخ. إنّ السياسات الانتقائية الأوروبية للهجرة تكشف عن ذلك التمييز ضد المسلمين كما يتّضح ذلك من المعاملة المميّزة للاّجئين الأوكرانيين الفارّين من الغزو الروسي، الذين اسْتُقْبِلوا بحفاوة، بينما عومِلَ اللاّجئون الأفغان الفارّون من قمع طالبان بعنف عند الحدود اليونانية والكرواتية والمجرية. وفي المقابل يعزّز العداء تجاه المسلمين التعاطف مع الحكومة الإسرائيلية كما يظهر في دعم قمعها للشعب الفلسطيني في أماكن أخرى من العالم. وهكذا ترى رئيس الوزراء الهندي، الذي يتّبع سياسة تعادي المسلمين علنا في بلاده، يرتبط بعلاقة ودية مع نظيره الإسرائيلي حيث بلغ الأمر بوسائل الإعلام إلى وصفها بـ بلفظ "برومانس" ويعني"أقصى درجات الألفة بين رجلين".
لقد أصبحت عبارة "المسلمون هم اليهود الجدد" شائعة في الأدبيات الاجتماعية منذ فترة قريبة في إشارة إلى الفكرة القائلة بأن معاداة السّامية التاريخية في أوروبا قد اسْتُبْدِلت اليوم بالإسلاموفوبيا. وفي الواقع، فإنّ هاتين الصّيغتين للعنصرية تخضعان لمنطقين متمايزين وتتطوران حسب أنساق مختلفة. إنّ معاداة السامية لا تزال موجودة، ومع ذلك، فالريبة والنّفور وكذلك التمييز من قِبَلِ المواطنين والحكومات، هي سلوكيات تمسّ اليوم المسلمين أكثر من اليهود؛ وهو الحال في فرنسا خاصّة حيث أظهر استطلاع أجْري في العام 2021 أنّ الأشخاص الذين يعتقدون أن العنصرية ضد المسلمين واسعة الانتشار كانوا تقريبًا ضعف أولئك الذين يعتقدون الشيء ذاته بخصوص معاداة السّامية؛ كما أظهر أنّ عدد الذين قالوا إنهم كانوا سيشعرون بعدم الارتياح لو كان لهم جيران مسلمون، أكثر بأربعة أضعاف من أولئك الذين قالوا الشيء ذاته لو كان الجيران يهودًا. ومن الظواهر الملحوظة في تطور هاتين الصيغتين من العداء الإثني-الديني، التّقارب الذي حدث مؤخرًا بين اليمين المتطرف الذي حلّ لديه هوس الإسلاموفوبيا محلّ معاداة السامية وهي من أسُسِ عقيدته، وبين جزء من اليهود الفرنسيين؛ ويتعلق الأمر ببعض شخصيّاتهم الأكثر تمثيليّة وتفويضا ممّن يجاهرون بميولهم إلى التجمع الوطني، حزب مارين لو بان، وبجزء من الناخبين اليهود الفرنسيين أو المقيمين في إسرائيل الذين يصوّتون بنِسَبٍ هامّة لصالح حزب "استعادة (Reconquête)" الذي يقوده إريك زمُّور (Éric Zemmour). هناك تقارب مشابه يحدث في ألمانيا إلاّ أنّه يهمُّ جزءًا من اليسار المتطرّف. ومن المثير للاهتمام، في الولايات المتحدة، حيث يدعم الناخبون اليهود منذ عام 1924 المرشح الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، أنّ 78% منهم منحوا أصواتهم لكامالا هاريس، وهو تفضيلٌ يسمح لبعضهم بالجمع بين الأفكار الليبرالية ودعم إسرائيل.
ففي هذا السياق، حيث تلتصق بالفلسطينيّين في المخيال الغربي ثلاث وصمات - كعرب، وكمسلمين، وكمنتسبين لأحزاب سياسية كانت أو لا تزال تصنف كـ"إرهابية" - ليس من المستغرب إن كانت القضية الفلسطينية تجد صعوبة في إبلاغ صوتها قبل السّابع من أكتوبر وأنْ لا يدافع أحدٌ بعد هذا التاريخ حتّى عن بقاء الشعب الفلسطيني. ولقد تجلّى التّعبير عن العنصرية ضد الفلسطينيين في فرنسا بوضوح بعد التكريم الوطني الذي أقامته الحكومة للمواطنين الفرنسيين الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم في السّابع من أكتوبر، عندما اعتبر الرئيس الاشتراكي السابق أنه لا يمكن التفكير في إقامة حفل مشابه للمدنيين الفلسطينيين الفرنسيين الذين قُتِلوا خلال الحرب في غزة، لأنه يجب التفريق بين من يُقتَلُ "كمدافع عن أسلوب حياة"، في الحالة الأولى، وبين من يموت "كضحية جانبيّة"، في الحالة الثانية. إنّ التّهوين من الحداد الفلسطيني بهذا الشكل مقارنة بالحداد الإسرائيلي يكشف عن ظلم المعاملة حتى في الموت، رغم أنّ التّفاوت العددي المذهل في الخسائر البشرية بين الجانبين، والذي بلغ نسبة مائتين إلى واحد كما هو الحال في الحروب السابقة ضد غزة، يناهز اليوم عددا مطلقًا أكبر بمائة مرة.
ولكن وكما كتب رجل القانون الإسرائيلي حاييم غانس (Chaim Gans): "لم يكن الفلسطينيون هم من اضطهد اليهود باستمرار طوال الألفية الثانية في أوروبا، ولم تكن مجتمعاتهم هي التي فشل فيها تحقيق الحرية المدنية لليهود في القرن التاسع عشر والعشرين". لذا فهو يسأل: "أيّ مبرّر لفرض هذا الثّمن عليهم دون موافقتهم الصريحة على دفعه؟" قد يكون المفتاح النّهائي لتفسير موافقة الدول الغربية على محو غزة هو التّكفير عن مشاركتها في الهولوكوست، حتى لو كان ذلك يعني السّماح بارتكاب نكبة ثانية ضد شعب كان العالم قد قبِلَ التّضحية به.
كتب رينهارت كوسيليك: "على المدى القصير، قد يصنع المنتصرون التّاريخ ولكن المهزومين هم الذين يكتسبون فهما أفضل له على المدى البعيد". فمنذ 7 أكتوبر، تاريخ المنتصرين هو الذي يُكتب من قِبلِ إسرائيل على الأرض، ومن قِبَلِ الدُّول الغربية عبر بناء سرديّة لا تقبل أي معارضة. لكن تاريخًا آخر سيكتب يومًا ما ويضع في سياقهِ عقودًا من القمع والمقاومة والحرمان والأمل، والنّضالات السّلمية والثورات العنيفة لثقافة وهوية كُتِبَ لهما البقاء رغم العواطف المتأجّجة والمدمِّرة. وبغض النّظر عن القرار النهائي لمحكمة العدل الدولية الصّادر تحت ضغطٍ من الحكومات الغربية، سيقوم الباحثون في العلوم الاجتماعية بتحليل الأدلّة الشّاهدة على مشروع الإبادة الجماعية وتنفيذه وعلى التطهير العرقي ضدّ سكّان غزة. وسيُعْطَى للفلسطينيين صوتٌ من جديد، ومعه ستولَدُ لغةٌ جديدة. ستستعيدُ الكلماتُ معانيها الحقيقية. لن يُسمح آنذاك بوصف حربٍ شاملة بـ"الرّدّ"، ولن تُستخدم معاداة السامية لوَصْم طلبٍ ما لنيل العدالة والكرامة. ولن يجرؤ أحدٌ على الادّعاء بأنّ حياة بعض النّاس أقل قيمة من حياة بعضهم الآخر، وأنّ موت أولئك ليس مؤلـِمـًا مثل موتِ هؤلاء؛ وسيُفْهَم أنّ تجريد العدو من إنسانيته معناه فقدان إنسانية أولئك الذين يفعلون ذلك. وكما كتب فالتر بنيامين عن الملاك: "وجهه يلتفت نحو الماضي"، حيث يرى "كارثة لا تفتأ تُكَدِّسُ الأنقاض فوق الأنقاض"، بينما لا يرى الآخرون سوى "سلسلةً من الأحداث"؛ وسندرك آنذاك حجم الهزيمة الغريبة التي عاشها الغرب، وهي أسوأ بكثير من تلك التي وصفها مارك بلوخ (Marc Bloch) في حديثه عن الجيش الفرنسي عام 1940 - إنها هزيمة التنازل الأخلاقي.