سرقة إنسانية الفلسطيني
لكي يتمكن المحتل من سرقة الأرض والحياة وأي فرصة للازدهار في محيطه يحتاج إلى العمل مثل المافيا؛ عتاده مجهّز بالأسلحة والمجرمين والرُّشى. في مقدور الرشوة أن تنال من الساسة والقضاة لكنها لا تكفي لإقناع الشعوب بقبول وتطبع الفظاعات الممارسة ضدهم. ولإقناع الجماهير أو لتشتيت انتباههم، تعمل عصابات المحتل على إعداد فريق من المحامين الذين يتغلغلون في مفاصل الثقافة لإنشاء نظام مجازيّ إلى جوار الواقع المادي الغاصب، نظام مليء بالأغلوطات المنطقية الرسمية وغير الرسمية، القديمة والمبتكرة، يهدف إلى سرقة تختلف عن التي نعرفها جميعاً، سرقة مصوّبة نحو أهم ما يملكه الفلسطيني، إنسانيته. هذه السرقة هي الجريمة التي يفضحها كتاب محمد الكرد الجديد "ضحايا مثاليون: سياسات المناشدة".
يعاين الكتاب امتداد النظام الصهيوني المجازي عبر الأوساط الغربية، وكيفية سرقته لإنسانية الفلسطيني، سرقة لا تقتصر على التشبيهات الحيوانية، وإنما هي نهج يتستّر في ثنايا الكلام، ويعرّفه الكرد بامتناع الغربي عن التحديق في أعيننا. مَثَل ذلك للجميع أثناء حرب الإبادة حين ضجّت الصحف بعناوين أبدع كتّابها في الصياغات المبنية للمجهول. قد لا نحتاج لكتاب يخبرنا بذلك، لكن المميّز في طرح الكرد هو تعمّقه في آثار تلك السرقة. لهذا، يأتي الكتاب في الوقت الأنسب ليراجع الفلسطيني نفسه وآثار تنكّر العالم لدمائه وأسباب تحوّل حياته، من أولها إلى آخرها، إلى تحقيق بوليسيّ مطوّل.
تتزامن ثنائية رؤية الآخر لنا ورؤيتنا لأنفسنا مع ثنائية تحصرنا بين الإرهابي والضحية؛ على الضحية أن تكون ميتة أو بريئة براءة مفرطة، مثل محمد الكرد وجدته في الوثائقي الذي ظهرا فيه أيام طفولته. بهاتين الثنائيتين يُعرّف الكرد "سياسة المناشدة" على أنها استخدام كلمات أو أفكار معينة تنطلق من تصوّر الضحية المثالية أو لاستعادة الإنسانية المنزوعة. من الأمثلة المباشرة على سياسات المناشدة تذكير المستمع الغربي في البرامج الحوارية مثلاً بالفلسطينيين المسيحيين، لدحض تهمة المسلم الإرهابي عن الفلسطيني المقاوم، أو بتذكير الأمريكي أن ضرائبه تتبعثر في دعم الكيان الصهيوني، وما إلى ذلك من مناشدات بعضها ناجح وبعضها جبريّ مثل تبديل البسملة بمحاباة السامية.
تعني سياسات المناشدة السير على الخيط الرفيع الذي يحمله الصهيوني الغربي، ببهلوانية تحتاج إلى مستوى دراسي متقدم أو طبقة اقتصادية مرتفعة، وهذا يحصر ساسة المناشدات في فئة صغيرة من الشعب ويترك معظمه في غياهب اللاإنسانية. سرقة الإنسانية تجعل "فلسطينية" المرء بمثابة الخطيئة الأولى، مما يعني أن الأنسنة تتطلب تخلياً عن "الفلسطينية" جزئياً أو كلياً. والمثال الأمثل هو في قصة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حين سارعت الأخبار الغربية للتلويح بجواز سفرها الأمريكي في سعيٍ لأنسنتها، وكأن الجريمة تُعتبر جريمة فقط إن لم تكن الضحية فلسطينية. وبما أن التجربة الفلسطينية هي تجربة مقاومة للاحتلال، يتشكّل نوع آخر من الأنسنة الذي يُخفي في طياته نزعاً للـ"فلسطينية" يتمثّل في المسارعة نحو تبرئة الضحية من "تهمة" المقاومة. هنا، يمكننا فهم الجانب الآخر من تشرّبنا لهذه الثنائيات، فعندما تقتل أذرع الاحتلال فلسطينياً وتتهمه بمحاولة طعن أحد المحتلّين تكون ردة الفعل الأولية هي نفي التهمة.
لقد تطبعت هذه العلاقة العكسية بين الأنسنة والفلسطينية حتى اعتادت عضلات الفلسطيني نفسه على ردّات الفعل هذه. يشخّص الكتاب عدة أعراض لتسمّم الوعي الفلسطيني بهذه الثنائية، مثلاً عندما يحمل المحتل، سواء برتبة مجند أو رئيس، نسخة من كتاب كفاحي ويزعم بأنه وجدها في منزل فلسطيني تتلاشى كل التعديات والانتهاكات التي أوصلت المجرم الصهيوني إلى البيوت وغرف النوم، ويتمحور النقاش حول جرم النازية. على المستوى الفني، يشير الكرد إلى عادة مواظبة الغربي على مكافأة الأفلام التي يتشارك فيها الفلسطيني مع قاتله، أو التي تستعين بالكُتّاب الصهاينة، وكأنهم مصادر موثوقة أكثر من الكتّاب الفلسطينيين. وهذا ما ألاحظه عندما أجد أي قائمة كتب تتناول القضية الفلسطينية ويتصدرها كُتّاب مثل فينكلستاين وبابيه. بالإضافة إلى التركيز على شهادة جندي تائب قضى حياته في تعذيب الفلسطيني بدلاً من الإنصات لمن تعذّب، أو منح مستوطن نياشين الأخلاق عندما ينتقد المستوطنين الأسوأ منه، وكأن ذلك يجعله صاحب الأرض، مثل الناشط في الوثائقي المذكور.
رأي العبد الفقير بالكتاب
ما سبق ليس سوى تلخيص لأهم فكرة في الكتاب، لكن على الرغم من قصره فالكتاب يحتوي على العديد من الأفكار التي تصيب في تقدير حساسية المرحلة وتطرح الأسئلة الملائمة. لقد كانت قراءة كتاب بهذه الجرأة تجربة منعشة، إذ لا يمارس الكاتب أياً من سياسات المناشدة، ويوافق بين الأسلوب والعبرة، كما وُفّق في الحديث عن غزة بشكل مباشر وعن الدَين الذي يشعر به كل فلسطيني خارج غزة لها.
لقد نسج الكرد تجاربه الشخصية في السرد بدقة لكي يكشف عن التجربة الفلسطينية، مع وعيه بمكانته وامتيازاته -إن صح التعبير-، أي أنه لم يتحدث بالنيابة عن الجميع كما لم يحاول أن يقلّم كلماته وينمّقها ليرضي أي طرف على حساب شعبه، ومع أن الكتاب يركز على فلسطين لكنه لم يتظاهر وكأنها جزيرة بل ذكر شراكة جنوب لبنان في عدة سياقات.
برأيي، أفضل فصل في الكتاب هو الفصل الخامس لأنه يمتثل لما يدعو إليه من رفض سعي الضحايا وراء المثالية من أجل استعادة الإنسانية. يتناول الفصل أعلى درجات التأهب المطلوبة من الفلسطيني والتمييز بدقة جراحية بين اليهودية والصهيونية. ويضرب مثالاً مُعبّراً عن مدى تشرّب شريحة من المثقفين الفلسطينيين في الغرب لهذا عندما خطّوا رسالة إدانة لتصريحات محمود عباس المعادية للسامية وتجاهلهم للجرائم الأخرى التي اقترفها بحق شعبه، أو الجرائم التي اقترفتها الصهيونية باستخدام رموز ومزاعم يهودية بحتة لا شأن لها ببعض الجذور الأوروبية للصهيونية. بدلاً من أن تكون رسالة لذم اغتيال الشجاع حتى الشهادة نزار بنات، اختار المثقفون أحاسيس اليهود لتكون الراية التي توحدهم.
المميز في هذا الفصل هو أن الكاتب تخطّى حقل الألغام سليماً، فهو لم يتصنّع ليراعي مشاعر المحتلين لأرضه والقاتلين لشعبه، ولم يتسرّع ويبالغ كردة فعل على محاباة السامية بمعاداتها بشكل فظ كما يفعل بعض المتحمسين ظناً منهم بثورية هذا الفعل، وإنما سلكَ الطريق بتوازن يجمع بين الثورية ضد الصهيونية وعدم الاكتراث بالتهمة أصلاً. هذه الوتيرة هي الأسلم في نظري حتى قبل قراءة كتابه، لكنني لم أجد مثقفين فلسطينيين مشهورين يسلكونه قبل الكرد. وأرجّح أن التوازن بهذه الصورة غير مسبوق خصوصاً في الحلبة الغربية، وهذا الصوت المتوازن هو الطفرة التي يحتاج الفلسطيني لتعزيزها ليطوّر متراسه على ثغر الوعي.
ماذا عن النظرة العربية أو المسلمة؟
ماذا عن السياق الإعلامي والثقافي العربي أو المسلم؟ يبدو لي أن هناك قراءة متسرعة وسطحية تجعل هذه الشيطنة والصهينة في صميم الثقافة الغربية بدلاً من تتبع العروق الصهيونية في ثقافة لم يعد بعد الحرب من الممكن تسطيحها كما كان الحال، فكم هارون بوشنيل عربي ومسلم وجدنا؟
من السهل على المتلقي العربي كشف نسيج البروباغندا الغربية لأنها ليست موجهة له، ولأنه يشترك مع الفلسطيني بمعظم الجذور، لذا، فهو لا يُعير اهتمامه لتهمة الإرهاب عندما تُلقى على الفلسطيني. ومع ذلك، لقد تشرّب الجميع البروباغندا إسموزياً أو بسبب اختلال موازين القوى وما يتبعه من اختلال الموازين الثقافية والقيمية، كما تشرّب الفلسطيني تلك التهم حتى صارت ردات فعله العضلية تقتصر على محاولة دحضها والتقرّب إلى صورة الضحية المثالية. وفي الوقت ذاته، يصعب على المتلقي العربي استيعاب قباحة قرارات حكوماته التي جعلت هذه الحرب من أفظع ما يكون، ويستصعب فهم تمهيد بروباغندات محلية لتلك القرارات.
إذا كان كتاب الكرد يدعونا لمراجعة أنفسنا وتبعات تصويرنا بثنائية مصطنعة من وجهة النظر الغربية، ثنائية الإرهابي أو الضحية المثالية، والسير بتوازن دون التطرف في الوداعة أو النكاية، ألا يُحتمل وجود سياسات مناشدة في العالم العربي والإسلامي تنبع من ثنائيات مختلفة؟ لا تنبع هذه الثنائيات المختلفة إن وجدت من سرقة الأنسنة كما الحال في الغرب، بل مثلاً قد تنبع من العار الملاحق للقاعدين وعدم تقديم ما هو كافٍ لإيقاف المقتلة أو الذنب من وجهة نظر دينية، ومن الحاجة الماسة لغسل العار أو الذنب. هنا، تلام الضحية على نحو مختلف عن الملامة الغربية، لا تلام على "إرهابها" وإنما على أمور أخرى، وقد صدر منذ ساعات الطوفان الأولى لوم المقاومة الفلسطينية على كل ما جرى وسيجري لها، وبعد عامٍ من الطوفان أكثَر البعض من منشورات تضمنت أو صرحت بالندم على فرحتها الأولى -وهو أمرٌ عرج عليه الكرد في سياق المثقفين-.
إذا عكسنا الصورة سنكتشف نوعاً آخر من سياسات المناشدة. مثلاً، على الفلسطيني أن يناشد العرب والمسلمين بتذكيرهم بالروابط وبأنه "يدافع عن الأمة"، لكن ماذا لو كان الفلسطيني يدافع عن روحه وأرضه وحقه ولم تكن "الأمة" في خطر؟ هل هذا يعني أن دعمه لم يعد ضرورياً؟ ماذا لو صدق الكيان وهو كذوب في أن مشكلته هي مع الفلسطيني حصراً وأنه بعد إبادة أحفاد العماليق سيعيش بسلام مع غيره؟ ماذا يخبرنا الحياد مع كيان إبادي وتركه يتمّم حلمه الدموي عن قيم مثل هذه "الأمة العربية"؟ وما يليها من أسئلة أشد خطراً عن "الأمة الإسلامية"؟ ما هذا الدين الذي لا يمانع إبادة ملايين من أبنائه؟
يمكننا أن نلاحظ أن سياسة المناشدة لا تعني بالضرورة علةً ما في الحجة، تذكير الأمريكي بأن أموال ضرائبه تنهبها الصهيونية هو تذكير بحقيقة لا يخفيها سوى أولئك المصرّون على أن الكيان يعود بالمنفعة التي تحلّل المعونات، أو تذكير العرب بأن الكيان له أطماع ونظرة توسعية تدميرية أو أن المسلمين في كل أصقاع الأرض مفروض عليهم السعي لإقامة العدل والتعاضد. التذكير بحقائق كهذه ليست توسلاً أو كذباً، لكن الإفراط في المناشدة مع مرور الوقت يجعل المرء يخلط بينها وبين تجربته المباشرة وقضيته بجوهرها العادل.
المطلوب أيضاً طمس لهويته وإنسانيته، إلى حد أن يشترك مع الآخرين في خلطة تتخذ قالباً كوميدياً، نجد فيها بعض العرب يشكون للفلسطيني من عيشهم هم أيضاً "تحت الاحتلال"، وأي اعتراض من الفلسطيني يؤدي إلى افتتاح أولمبياد المعاناة وانتهاك المعاني لإقحام الواقع في ذلك القالب، مما ينقلنا إلى المنبع الثاني للثنائيات المحلية، وهو وضوح الحق والباطل في القضية الفلسطينية لدى الثقافة العربية والإسلامية، مما يجعل أي حديث عن الشرعية أو القيم خارج القضية مستحيلاً دون توضيح الموقف من القضية، وهذا يجبر المطبعين أو الزاحفين نحوه، أو من اتفقتْ مصالحهم مع الكيان الصهيوني على نزع الأنسنة بشكل أدق مما تفعله الأوساط الغربية، فهم بصفتهم عرباً ومسلمين لا يستطيعون نزع الإنسانية عن العرب أو المسلمين، لذا نجدهم ينزعونها بشكل مباشر عن الفلسطيني، فيشككون في عقيدته أو مدى عربيته، والعاقل فيهم يثقف نفسه بتاريخ القضية ليسرد أخطاء الحركات الفلسطينية وكأن أخطاء الحركات تبرر قرناً من الظلم والإبادة.
يتضاعف الخطر عند تشرّب الوعي الفلسطيني لكل هذه التهم ونحت هويته عبر نفيها. كم مرة وجد الفلسطيني نفسه مطالباً بأن يحلف الأيمان بأنه لا يؤمن بقدسيّة دمه على دم أي شقيق عربي؟ ولماذا نجد تفاعلات بين الفلسطينيين وغيرهم على شكل جلسات استجواب؟ في الجلسات الغربية، على الفلسطيني أن ينفي معاداته للسامية وينزع عن نفسه صفة الإرهاب. أما في الجلسات العربية أو المسلمة، عليه أن يكون نسخة طبق الأصل عن المحقق الذي أمامه، يتفق مع موقفه حول كل مواضع الجدل والاقتتال، ويبصم على آرائه العقائدية والسياسية، فإن لم يفعل فهو المذنب الذي استحق كل هذا الظلم والقتل طوال كل هذا الوقت وإلى أجل غير مسمى.
أخطر ما في تشرّب هذه التناقضات هو تشتيت ما هو مشتت أصلاً. تنتسب بالتدريج كل مجموعة لشعب آخر بمواقفها بدلاً من أن تكون هناك أسس صلبة ومسلمات لا مساومة فيها تجعل من الفلسطيني فلسطينياً. ففي سعي الفلسطيني للمناشدة يُطلب منه الإصرار على عدم التفرقة بين العرب، رغم مرور قرن اختلفت فيه ظروف العرب في دولهم اختلافاتٍ جذرية، وبما أنه نفى شيئاً من فلسطينيته ليرضي طرفاً آخر سيصطدم دون شك بفلسطيني آخر نزع شيئاً آخر من فلسطينيته. سيخبره الأشقاء العرب أن تمسكه بفلسطينيته أو تعصبه لشعبه الذي تعرض للإبادة وهويته المهددة بالضياع ما هو إلا عنصرية، ويثقلونه بمشاعر الذنب التي هم أولى بها. وإن لم تكن الأسس واضحة قد يضطر الانتقاص من بعضها، ففي مناشدته للمسلمين عليه ربما أن يقلل من منطق الدول الحديثة، هذا المنطق الذي تسير عليه كل الحكومات حوله. وعليه أن ينتقص من الهويات الوطنية ليؤكد رابطة الدين، كي لا يُتهم في عقيدته ويلام على سقوط الخلافة العثمانية. وبذلك، سواء أدرك أم لم يدرك، يعبّد الطريق بتصريحاته ومواقفه لمشاريع تتعارض مع قضيته وعليه أن يرضى بأقل المجهود بل ويُجبَر على أن يحمد المقصرين عليه، ويكرر أقاويل تدعم أسس الكيان بدلاً من قضيته، تماماً كما يحصل عند المبالغة بمعاداة معاداة السامية.
إذا فهمت العبرة من الكتاب فهي في مراجعة ذاتية لرفض النظام المجازي الذي ينزع الإنسانية ويجعلنا إما ضحايا أو إرهابيين أو المدافعين عن أمة مليارية. أتفهم أن بعض الفلسطينيين والمقاومين الواقفين معهم صاروا بقامات الأساطير، فأصبح الفلسطيني وخصوصاً الغزاوي في حالة غريبة يطلب منه الجميع الاتفاق لاقتباس الشرعية. ما لا أفهمه هو مصيره إن رفض، حينئذ تمتد الأيادي لتفتت جثته. على أي حال، قد لا يتفق القارئ مع إضافاتي، لكن هذا لا يعيب حجة الكتاب الرصينة، ويبقى الواجب على القارئ فلسطينياً كان أم شقيقاً أم حليفاً أن يراجع نظرته مستخدماً الترياق من الكتاب، ويستوعب أن إيقاف خطط تهجير الفلسطيني من أرضه يحتاج لهجرة الفلسطيني من عالم المُثُل.