[كُتب هذا المقال بتاريخ 31 تشرين الأول/أكتوبر 2024، ونُشر على منصة مجتمع الأنثروبولوجيا الثقافية، ضمن سلسلة "الأنثروبولوجيا في زمن الإبادة الجماعية: حول النكبة والعودة"].
مصطلح "الأزمة" هو أحد أكثر المصطلحات استخدامًا لوصف المآسي التي تتكشف حاليًا في غزة، وفلسطين/إسرائيل، والشرق الأوسط. وغالبًا ما يستخدم المعلقون في الإعلام الغربي، والمتخصصون في المجال الإنساني، وصناع السياسة، والأكاديميون، وقادة المجتمع المدني مصطلح "الأزمة" للاستدلال على الظروف التي تواجه الشعب في الأراضي الفلسطينية. سأتناول في هذا المقال إشكالية المنطق الكامن وراء هذا الاستدلال بالإضافة إلى تداعياته، وتحديدًا ما ينتج عن الاحتلال العسكري الإسرائيلي من إقصاء وتطبيع لقمع الفلسطينيين. يوفر مجال الأنثروبولوجيا أطرًا مفاهيمية غنية لفهم حدود الخطاب المتعلق بالأزمة وإمكانياته.
بينما نتحدث الآن، تمارس إسرائيل أعنف الإبادات الجماعية في قطاع غزة وإبادة جماعية متصاعدة في الضفة الغربية، الأمر الذي حول الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مناطق مروعة من الانهيار. لقد أصبح الموت والدمار متواجدين في كل مكان في غزة، حيث تم قتل وجرح وحصار تحت الأنقاض لعشرات الآلاف غالبيتهم من المدنيين (وأقلية من مسلحي حماس). وقد استهدف الجيش الإسرائيلي بالاغتيالات الأطباء، والممرضين والممرضات، والعلماء، والصحافيين، والشعراء، وعمال الإغاثة، وعددًا لا يحصى من الأشخاص الآخرين. وتم تدمير جميع الجامعات الآن، ومعظم المدارس محطمة، وتتعرض المساجد والكنائس للهجوم، والبنية التحتية الرئيسية كالمستشفيات، والمباني السكنية، ومرافق الصرف الصحي والمياه، وشبكات الكهرباء والاتصالات، وحتى المخابز أصبحت كلها ركامًا. يشعر المجتمع الدولي بقلق عميق إزاء تفشي الأمراض والنقص الحاد في الغذاء والمستحضرات الطبية في غزة. وتتجلى الآن عملية إبادة المعرفة عن طريق محو الكثير من الأرشيفات في فلسطين، بالإضافة إلى تدمير أنظمة إنتاج المعرفة الفلسطينية (موسوس 2024).
وفي هذه الأثناء، نشهد أيضًا استباحةً شمال الضفة الغربية على غرار ما يجري بغزة، حيث أفضت حملات الحصار والاجتياحات الإسرائيلية إلى تدمير مناطق مثل جنين وطولكرم. ويعيث المستوطنون الإسرائيليون فسادًا في جميع أنحاء الضفة الغربية، ويروعون الفلسطينيين أثناء محاولتهم التنقل من مكان إلى آخر في أراضي أجدادهم، ويهاجمون قرى بأكملها، ويواصلون الاستيطان على المزيد والمزيد من المساحات والموارد الطبيعية.
قتلت إسرائيل المئات من الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، واعتقلت في الوقت نفسه الآلاف من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة في الزنازين الإسرائيلية، وأخضعوا السجناء لأشكال مختلفة من التعذيب، بما في ذلك الاغتصاب. وقد تم توثيق كافة هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان بشكل ممنهج من قبل المنظمات الدولية، والكثير منها يتم بثها بشكل مباشر وتوثيقها على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك من قبل الجنود الإسرائيليين أنفسهم، بعدما استبعدت إسرائيل تقريبًا وجود جميع الصحافيين الأجانب من غزة. إن استخدام مصطلح الأزمة لاختزال الديناميكيات الجزئية والكلية التي يكابدها الفلسطينيون نتيجة لهذه الوحشية قد أخفى أكثر مما كشف.
يرتبط التعتيم على قوة إسرائيل وهيمنتها من خلال الاستدلال بمصطلح الأزمة ارتباطًا وثيقًا بإضفاء الطابع الإنساني على فلسطين منذ إنشاء إسرائيل في 1948. فقيام إسرائيل على أرض فلسطين قد أفضى إلى النكبة، أو الكارثة، التي تمثلت في تهجير الشعب الفلسطيني، وسلب ممتلكاته، وحرمانه من حقوقه، ويدرك كل فلسطيني بأن هذه العملية لا تزال متواصلة حتى وقتنا الحاضر.
لقد تجاوبت المؤسسات الإنسانية الغربية على مدى هذه السنوات الست والسبعين من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي من خلال سياسة الإغاثة التي أدت لإضفاء الطابع الإنساني على الأراضي الفلسطينية (فيلدمان 2018). سواء كان ذلك عبر تقديم الإغاثات للاجئين النازحين داخليًا وخارجيًا في عام 1948، أم لأولئك الذين نزحوا عام 1967، أم للذين نزحوا مجددًا في عام 2024، وفي المنعطفات الحرجة الواقعة بين هذه التواريخ، لقد تم تقنين صناعة المساعدات وإضفاء الطابع المهني عليها، على اعتبار أن المعاناة الفلسطينية سلعة مركزية يمكن تسويقها والتعامل معها. إن هذه الصناعة وما يصاحبها من اقتصاد سياسي يهدف للتبعية وتقويض التنمية يتم الترويج لها من قبل جميع الجهات الرئيسية الفاعلة في الصراع، بما في ذلك المؤسسات المتعددة الجنسيات، والجهات المانحة الغربية، والدولة الإسرائيلية، والسلطة الفلسطينية، وحركة حماس، والمنظمات غير الحكومية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويمكن تتبع مناشداتهم لتقديم المساعدات للفلسطينيين منذ عام 1948، ودائمًا ما كانت مناشداتهم تتسم بكونها ملحّة، مع وجود حالات طارئة مزمنة، وبالتالي أزمة مزمنة. ويستمر هذا الخطاب المتعلق بالأزمة حتى الوقت الحاضر.
إن السؤال حول ما إذا كانت "الأزمة" الحالية في غزة حادة بشكل خاص يعد سؤالاً مشروعًا في ظل انهيار مسائل الحجم. فقد بلغت مستويات ومقاييس الخسائر في الأرواح وسبل العيش في الأراضي الفلسطينية معدلات غير مسبوقة. لقد وصل الخطاب الإنساني للشأن الفلسطيني إلى مستوى جديد من المصطلحات المفرطة للغاية والتي تُستخدم للتعبير عن قسوة الاعتداءات الإسرائيلية على أهالي غزة من أطفال ونساء ورجال، مع مخاوف من تهديدات تلوح في الأفق للضفة الغربية، وتصورات دولة إسرائيل اليمينية المتطرفة المدعومة من الولايات المتحدة حول ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مصر ومن الضفة الغربية إلى الأردن. وفي حين ترفض هاتان الدولتان المجاورتان التواطؤ مع مثل هذا التطهير العرقي، تشير التقديرات إلى أن مئة ألف من سكان غزة قد فروا إلى مصر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولطالما كانت غالبية سكان الأردن من الفلسطينيين.
يقوم الخطاب الرسمي الإسرائيلي حول هذه المسائل على افتراض أنه لا شيء قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر يمكن أن يبرر أحداث ذلك اليوم، وأن أحداث ذلك اليوم تبرر كل الأحداث التي حدثت بعده. يتوافق خطاب الطابع الاستثنائي مع منطق "الأزمة". من الناحية الأخلاقية، نقر بأن جرائم الحرب التي ارتكبتها حماس تستحق الشجب، ولكن تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لم يبدأ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ولا شيء يمكن أن يبرر ذبح إسرائيل للأطفال في غزة باسم محاربة حماس التي حظيت لسنوات بدعم نتنياهو وقادة إسرائيليين من قبله.
ومع ذلك، وتمامًا كما هو اختزال قضية فلسطين إلى حالة إنسانية طارئة ينطوي على تجاهل للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي حول الكثير من الفلسطينيين إلى معدمين ومعرضين للخطر، فإن اختزال النسخة الحالية من النكبة إلى "أزمة" يتجاهل العمليات الإسرائيلية التي عملت بشكل ممنهج على هندسة ظروف الإبادة الجماعية التي أثرت على الشعب الفلسطيني برمته.
لطالما وضع علماء الأنثروبولوجيا نظريات بشأن أزمات المجتمعات (رويتمان 2013)، بما في ذلك الاختلافات بين الأزمات الطبيعية مقابل الأزمات الثقافية، بالإضافة إلى واقع الأزمات الأخلاقية. إن الكارثة التي حلت بغزة لم تنجم عن إعصار، وإنما هي عاصفة من صنع البشر وقامت بهندستها الآلة الإمبريالية الأمريكية والآلة الإسرائيلية الاستعمارية. إن هذه الأزمة ليست جزءًا منفصلاً عن الزمانية الخطية أو انقطاعًا عَرَضيًا منها، وإنما هي من دلائل القوى السياسية والاقتصادية المحركة المتوطنة في فلسطين كتجمع من المكان والزمان والبشر.
تذكّرنا الأنثروبولوجيا أن "الأزمة الإنسانية" التي تواجه الشعب الفلسطيني هي ذروة الطاقة التي تهدف إلى "الإدارة بدلًا من الإزالة" و"استقرار الوضع القائم بدلًا من حلّه" (ماسكو 2017). تعد مأساة غزة من حيث الجوهر أزمة أخلاقية لنظام عالمي يرسخ إفلات إسرائيل من العقاب حيث أصبحت الإنسانية بديلاً عن السياسة والمساءلة.
وتكشف الدراسات الأنثروبولوجية كذلك كيف يمكن للأزمة كتشكيل خطابي أن تكون جزءًا من التغيير الاجتماعي "كاصطلاح مؤثر" (ماسكو 2017) حيث تسمح التصورات السياسية بإيجاز الجذور التاريخية للأزمة من خلال الذاكرة الجماعية والحاجة إلى المقاومة والتغيير البنيوي. يمكن للأزمة في نهاية المطاف أن تحفّز على "إعادة تنظيم المجتمع" (بيك ونيكت 2016) وتسلسله الهرمي والتأكيد على السيادة على المستويين الفردي والجماعي. إن إضفاء الطابع الإنساني على فلسطين من خلال الأزمات المزمنة قد أدى إلى شلل مستقبلي. ومن شأن إعادة صياغة الأزمة كعامل مسرّع للتغيير الاجتماعي أن تقود الفلسطينيين نحو التخلص من الاستعمار، وتقرير المصير والكرامة.
المراجع:
-
Beck, Stefan, and Michi Knecht. 2016. “‘Crisis’ in Social Anthropology: Rethinking a MissingConcept.” In The Handbook of International Crisis Communication Research, edited by Andreas Schwarz, Matthew W. Seeger, and Claudia Auer. New York: Wiley.
-
Feldman, Ilana. 2018. Life Lived in Relief: Humanitarian Predicaments and Palestinian Refugee Politics. Berkeley: University of California Press.
-
Masco, Joseph. 2017. “The Crisis in Crisis.” Current Anthropology 58, no. S15: S65–S76.
-
Moaswes, Abdulla. 2024. “The Epistemicide of the Palestinians: Israel Destroys Pillars ofKnowledge.” Genocide in Gaza, Palestine Square. Institute for Palestine Studies.
-
Roitman, Janet. 2013. Anti-Crisis. Durham, N.C.: Duke University Press.