(ترجمة وتوثيق: جمال جمعة، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 2023).
أن يُقرأ السياب، إيقونة الثقافة الحداثية في العراق، خصوصا في سنواته الأخيرة، كفاعل محلي في حرب الولايات المتحدة الأمريكية الباردة ضد الشيوعية، وأن تُقرأ رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، العلامة الفارقة في الأدب العربي ما بعد الاستعماري كنماذج على التماهي الثقافي لمشروع الحداثة الأدبية في العالم العربي مع المشروع الثقافي الأمريكي في مرحلة الحرب الباردة لهي ضربة صادمة لمشروع الحداثة العربية واصطفافاته الإيديولوجية المغلفة بستار من التقدمية الليبرالية. يأتي هذا الحفر المعرفي في الأيديولوجيات الكامنة في لا وعي (وربما وعي وإرادة) كتّاب النصوص المذكورة أعلاه في سياق من الكتابات العالمية التي فككت الاصطفافات الإيديولوجية الكامنة أو حتى السياسية البيّنة لمشروع الثقافة الليبرالية العالمية (الغربية على وجه الدقة) في النصف الثاني من القرن العشرين. من الكتب الرائدة في هذا المجال كتاب فرانسيس سوندرز (من الذي دفع للزمَّار - الحرب الباردة الثَّقافية) وفيه تنقب المؤلفة في آلاف من الوثائق والشهادات والمصادر المتنوعة حول دور وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في التأثير على، إن لم نقل تشكيل، المشهد الثقافي والفني والأدبي في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم في إطار مشروعها الأكبر في الوقوف بوجه التمدد الثقافي للشيوعية، مشروع الاتحاد السوفيتي الإيديولوجي إبان الحرب الباردة. يكشف الكتاب المذكور كيف ساهمت المؤسسات الثقافية المختلفة التي مولتها وأثرت عليها وكالة المخابرات المركزية في تغيير اصطفافات الأدباء والمثقفين والفنانين في مختلف أرجاء العالم واستخدامهم كأدوات في الترسانة الستراتيجية من القوة الناعمة التي جيشتها الوكالة إبان الحرب الباردة.
وبعيدا عن الاتهامات الجاهزة والإسقاطات الإيديولوجية لصراع المعسكرات الثقافية في تلك المرحلة المضطربة فإن الكشف الأرشيفي التحليلي لوثائق المرحلة وشهادات المطلعين على بعض كواليس المشهد الثقافي العالمي في حينه يعزز من قيمة هذا الحفر المعرفي الكاشف لأنساق ثقافية مضمرة تحرر وعي القارئ من مسلمات ثقافية راكدة وتعيد تشكيل وعيه إزاء رموز مكرسة وأصنام غير قابلة للمساس أو النقد.
في هذا السياق، وفي سعي حثيث لكشف الستار عما شابه ذلك من تماهي المشاريع والرموز الثقافية في منطقتنا العربية والعالم-ثالثية مع المشروع الثقافي لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية إبان الحرب الباردة، صدر عن دار المأمون للترجمة والنشر في 2023 للكاتب والمترجم العراقي جمال جمعة كتاب شعراء الحرب الباردة. ضم الكتاب مجموعة من الدراسات النقدية المترجمة، شهادات ووثائق صحفية ثقافية تناولت مرحلة مهمة من مراحل الأدب العربي واشتباكه مع السياق الثقافي والاستراتيجي العالمي عاكسا حالة الاستقطاب التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين وذوبان بعض الأسماء والمشاريع الثقافية المهمة في مشروع الحرب الباردة الأمريكية.
يستعيد الكتاب الجدل الثقافي لمرحلة الستينيات من القرن الماضي، الأمر الذي نُسي تقريبا في عصرنا الحالي أو كاد أن ينسى في أوساطنا الثقافية التي تتعامل مع مشروع الحداثة الثقافية العربية عموما كحالة مسلّم بها. إن استعادة الجدل الذي كاد أن ينسى إزاء التمويل المشبوه لمؤسسات ثقافية "عالمية" تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعدد من المجلات والنشرات الثقافية الرائدة لمشروع الحداثة الأدبية في العالم العربي معززا بشهادات للمطلعين على شبكة العلاقات المشبوهة تلك يعرّي المشروع الحداثي ويزعزع مسلماته التي ننزع إلى تناسيها عادة.
يضم الجزء الأول من الكتاب ثلاث دراسات مهمة: أولى الدراسات التي ترجمها جمعة هي "الخبز والحرية: المنظمة العالمية لحرية الثقافة ومجلة حوار"، تتحدث فيها إليزابيث م. هولت عن تجربة مجلة "حوار" اللبنانية التي أسسها الشاعر توفيق صايغ عام 1962 وترأّس تحريرها حتى توقفها عام 1967، وكانت، كغيرها من المجلات الثقافية "الرائجة" في العديد من بلدان العالم الثالث، مرتبطة بالمنظمة العالمية للحرية الثقافية الممولة من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية.
يستعير المترجم عنوان الكتاب (شعراء الحرب الباردة) من عنوان واحدة من أهم مقالاته وهي "بدر شاكر السياب شاعر الحرب الباردة" للأكاديمي الأمريكي المختص بالأدب العربي في جامعة جورج تاون في واشنطن إليوت كولا. يتناول كولا في دراسته عن رائد الحداثة الشعرية في العراق "بدر شاكر السياب: شاعر الحرب الباردة"، العلاقة بين نشر الشاعر لمذكراته الشهيرة "كنت شيوعيًا" والتي هاجم فيها تجربته السياسية في العمل مع الحزب الشيوعي العراقي. ورغم ركاكة المذكرات وضعف التقدير النقدي الذي حظيت به بالمقارنة مع المشروع الشعري الأكبر للسياب إلا أن كولا يركز على أهميتها كشهادة ثقافية تكشف تغلغل أنشطة المنظمة العالمية لحرية الثقافة خلال الحرب الباردة، ووصولها إلى تشكيل مواقف السياب المناهضة للشيوعيين (أو الاستفادة منها/توظيفها على الأقل) في حربها الثقافية الأقل كلفة ضد الاتحاد السوفيتي. يؤكد كولا أن السياب لم يتطوّع تلقائيًا في تلك الحرب الثقافية، وأنه جُنّد بسبب الظروف الصعبة وعدم وجود خيارات أفضل.
تعنون الكاتبة إليزابيت م. هولت دراستها بـ"موسم الهجرة إلى الشمال والحرب الباردة الثقافية"، وتتناول فيها علاقة الروائي السوداني الطيب صالح بمجلة "حوار"، ورئيس تحريرها توفيق صايغ، وعدة مجلات أخرى ممولة من قبل المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وتتناول كذلك دوره كروائي خلال الحرب الباردة، والجدل الذي أثارته مجلة "حوار" التي نشرت روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" بعد وقت قصير على فضيحة ارتباطها بالمنظمة الممولة أمريكيا.
رغم أهمية الموضوع الذي يتناوله كتاب "شعراء الحرب الباردة"، إلا إنه يؤخذ على الكتاب افتقاره إلى الوحدة الهيكلية، إذ إنه، باستثناء كلمة الناشر التمهيدية، لا نجد فيه حتى مقدمة للمؤلف/المترجم تفسّر وتؤطّر اختيار المقالات والمواد التي اكتفى الكتاب بتجميعها وعرضها بدون جهد تحريري إضافي. وهذه المؤاخذات تسجل عموما على كثير من الدراسات المعاصرة التي تستعجل النشر بلا إنضاج وحدة هيكلية موضوعية ما، مكتفية بتجميع مواد صحفية وانطباعات مختلفة بدلا من إنضاج مشاريع بحثية مكتملة.
وفيما عدا السياب، لا نجد في الكتاب مقالا عن شاعر آخر ممن يغطي عنوان الكتاب شعرهم! بدلاً من ذلك، تتابع الوثائق الصحفية والشهادات التي ضمها ملحق الكتاب (وجزؤه الأكبر) قضية تمويل مؤسسات ثقافية تابعة لوكالة المخابرات المركزية عددا من المجلات الثقافية مثل مجلة حوار لتوفيق الصائغ وغيرها من مجلات ثقافية مشابهة في العالم الثالث.
يقع الكتاب في 211 صفحة من القطع المتوسط، ويُفاجأ القارئ أن الكتاب ينتهي في الصفحة 80 ليبدأ بعد ذلك (ملحقه) الذي امتد إلى نهاية الكتاب وتضمن شهادات ووثائق ثقافية مهمة ومكملة للموضوعات التي طرحتها الدراسات الثلاث المترجمة في الجزء الأول من الكتاب. تعكس هذه الفوضى التنظيمية (مع الاعتذار للمؤلف والناشر اللذان لا ينكر مجهودهما في هذا المجال) الفوضى التي تعم المشهد الثقافي العام وخصوصا في مجال تأليف الكتب والدراسات الجادة والحاجة إلى استعادة دور (المحرر) الذي تفتقده الساحة الثقافية والأدبية بشكل كبير.
يؤخذ على الكتاب أيضا عدم وضع الأمور في نصابها التاريخي أحيانا، إذ يحاكم الموقف من المشروع الأمريكي في الخمسينيات من القرن العشرين بأحكام وإسقاطات الوقت الراهن، بحمولة كل ما مارسته السياسة وماكنة الحرب الأمريكية من كوارث وحروب عانت منها كل مناطق العالم وبالأخص منطقتنا العربية. لذلك، قد يكون من الإنصاف أن يؤخذ هذا بنظر الاعتبار عند قراءة والحكم على مواقف المثقفين في ذلك الوقت وعدم إسقاط مواقفنا الحالية عليهم. فموقف السياب مثلا انبنى على تجربة مريرة مع الحزب الشيوعي العراقي ودور أمريكا الذي كان بعيدا عن المنطقة وأقل وضوحا مما هو عليه الحال في وقتنا شجعه على الاصطفاف معه في انتقاد الشيوعيين الذين عانى الأمرين منهم لأسباب يبين بعضها مقال كولا.
كل هذا لا يقلل من قيمة الكتاب بما يضيفه من إضاءة مغايرة لمرحلة مهمة من تاريخنا الثقافي وبيان لأثر المؤسسات الثقافية الأمريكية إبان الحرب الباردة في تشكيله أو التأثير عليه في سياق صراعها الاستراتيجي مع المحور الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. إذ كانت الولايات المتحدة قد أدركت أن الحرب الباردة أقل كلفة من المواجهة العسكرية ما دفع إلى تركيز الجهود على إدارة حرب ثقافية، إلى جانب أشكال أخرى لا مجال للتفصيل فيها هنا، عبر تمويل المجلات الأدبية والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية تحت عناوين الحداثة وحرية التعبير، فإن مجمل النتاج الثقافي العربي لتلك المرحلة، خصوصا المصطف منه مع المواقف الليبرالية الأمريكية بحاجة ماسة إلى المراجعة وإعادة النظر.