نص رواية أزهر جرجيس "وادي الفراشات" الصادرة عن دار الرافدين-ومسكلياني لعام 2024، والتي دخلت القائمة القصيرة للبوكر العربية للعام الحالي، يزخر بمعان وإشارات تتوارى خلف عتبات نصية متعددة. يبدأ هذا بالعنوان "وادي الفراشات" في تلميح لا يصرح بالمعنى الكامل في التباس المفارقة بين الوادي المنخفض المستقر وبين فكرة الطيران لدى الفراش مما يثير الفضول لدى القارئ لفهم هذه المفارقة. ثم يأتي الاستهلال الثاني في الإهداء "إلى الأرواح الغريبة أينما حلت" لينتقل بنا إلى تساؤل حزين عن ماهية هذا العالم الذي يقودنا إليه، وعن تلك الأرواح الغريبة لتأتي العبارة الأولى، والتي تعتبر حجر الزاوية في النص السردي، وبها يعلق معه القارئ في خط التشويق "احتفظ بهم كي لا تقف عارياً في الريح". ثم يستعيد ذكرى القول الملغوم من خمس وعشرين سنة في مشهد أولي نرى فيه البطل "عزيز عواد" في السجن في آخر زيارة من خاله "جبران"، أو أبيه الروحي الذي سانده في كل مراحل حياته، يعود بنا إلى حياته السابقة منذ يفاعته التي اتسمت بفقدان الأب بسن باكرة وضيق حال أسرة مكتظة بالأفراد لا تسمح بخصوصية لأي منهم. يتلقف كلام أمه للدراسة عند خاله صاحب المكتبة وهنا يتغير مجرى حياته في لوثة الولع بالكتب التي جعلته يلتحق بالمعهد المسرحي بدلاً من الطب مسبباً الخيبة لأسرته، الأمر الذي لم يؤهله لعمل يقي شر الحاجة، فشهادة المسرح بلا قيمة في مجتمع لا يقدر الفن ولا يفهمه، مما جعله يتنقل في عدة أعمال كالبيع على أرصفة الكرادة، وبيع أفلام التثقيف الجنسي على الرغم أن المخاطرة فيها أقل من الكتب الممنوعة، و-العمل على ماكينة بيبسي لينتهي به الأمر إلى وظيفة رسمية في أرشيف دائرة الفنون مما هيأه ليرتبط بحب حياته زميلته في المعهد المسرحي "تمارا" بعد رفض متكرر من أسرتها الأرستقراطية.
غواية الحلم ووضع المثقف الفاشل توضحان حالة عزيز عواد "كشخصية هشة تعجز عن صنع أقدارها وتلاحقها الخيبات في كل عمل تمتهنه وتقع في المطبات بشكل متكرر لسوء تصرف أو تقدير" في سعي منه كي لا يبقى هامشياً في الحياة التي يقابلها بسخرية رغم المرارة والفشل الذي يرافقه ليطرد أخيراً من وظيفته بتهمة التحرش مضحيًا باستقرار أسرة وزوجة تحولت بعد الزواج من عاشقة رقيقة ربطها به وهم الحب والكلمات الجميلة، إلى أنثى تتطلع للأمومة بكل ما فيها من حنان ورغبة ليصطدم كلاهما بقسوة الواقع الذي يتطلب كفاحاً مريراً.
في وضع كهذا من الطبيعي أن تتعثر حياته العائلية نتيجة عدم وجود مورد ثابت يؤمن من خلاله أمانًا لزوجته التي تفقد أجنتها واحدًا إثر الآخر إلى أن يكتمل الطفل أخيراً ويأتي للوجود وتقر أعينهم به لكن "الطفل سامر" يفقد بعدها ويضيع مما يتسبب في انهيار الأسرة وطلاق الحبيبين السابقين، ليشرف الكاتب من هنا على واقع العراقيين المعيشي الذي ينحدر باستمرار ويجسد فيه تحولات المجتمع العراقي حيث يسلط الضوء على حالة التدين المتفشية وتقلص الاهتمام بالموسيقا. فبدلاً من أشرطة أعلام الفن كأم كلثوم وعبد الحليم وإياس خضر وسواهم سيطرت كاسيتات الأدعية وخطب الفقهاء والرقى الشرعية وما يجره ذلك من الانصراف عن الحياة الواقعية والدنيوية وما يرافق الأمر من إبعاد وتغييب مشاكل الحاضر الحقيقية للبشر، الأمر الذي أفرز بنى عابثة قادت إلى ضياع الطفل الذي لن يستطيع مجتمع خارج من حرب طائفية ومن احتلال وثروات مسروقة أن يحميه وأن يهيئ لغد آمن، في إشارة للمراحل السياسية بالبلد التي تؤطر زوايا النص مرورًا بمرحلة السقوط والاحتلال والواقع الديني المتشدد.
توضحت الهشاشة والعبث في رسم الشخصية المحورية "عزيز" وعدم قدرته على ثقل الموت والعزاء وتراخيه تجاه حقوقه في إرث أهله الذي منعه عنه أخوه صبيح وما تكشفت عنه السخرية المضمرة وجو العبث رغم الواقع المضطرب لعالمه والذي أضفى رشاقة وسلاسة على النص خففت من الثقل القاتم للمعاناة على مستوى البلد والفرد على غرار قوله: " يكفي أن أنفي يسير أمامي إذا سرت" في تهكمه على شكله البعيد عن الجمال؛ وقول خاله في احتمال تناوش الموت لكل منهما "إلى اللقاء في جهنم"؛ و"الزواج عمل شاق"، مما جعل واقعه المتعب والفشل الذي يلاحقه نوعاً من كوميديا سوداء أو على مبدأ "شر البلية ما يضحك" وخاصة أن كل حل يقوم به لحل مشاكله الحياتية يوقعه في مصيبة أكبر وقد سبب له هـذا دخول السجن أكثر من مرة وفقدانه لوظيفته وثالثة الأثافي فقدانه لعائلته كحاضنة إنسانيه تخفف عنه ثقل الوجود بعد ضياع ابنه وانفصال زوجته عنه، ليصبح عارياً متجردًا من كل شيء ووحيداً في إشكالية تعثره بالحياة.
ثم ننتقل منه إلى الخال جبران، الشخصية الثانية المؤثرة في العمل التي مثلت وجهاً للحكمة والتوازن، كان فيها للعلاقة مع الكتاب دور كبير في تصوير ملامحه مما أكسبه رزانة ووقاراً وإنسانية بالغة على قدر عال من الوعي من خلال عبارتين لخصت أفكاره:
"الجنة مفتوحة لمن يقرأ" و"ما الحياة إلا كتب وحفنة أصدقاء" وإيمانه بأن السارق لا يقرأ والقارئ لا يسرق في تضمين لفكرة الكاتب لطريق الخروج من متاهة الفشل والسلبية حيث الكتاب والقراءة شعار خفي يبتغي صاحب "النوم في حقل الكرز" قوله على لسان الخال.
يتناول الكاتب حصار العراق وتسلط المؤسسات؛ وجو الوساطات؛ والفقر، وفي كل مفصل من الأعمال التي مارسها البطل كان يصور جزءًا من واقع الحال لدى العراقيين فلكل عمل مافيا خاصة به تجند من يريد العمل في مجالها، لذا لا يستطيع أي كان طرق أي مجال عمل فكل الطرق مسدودة.
الكاتب هنا لم يطرح البطل مفكرًا أو منظراً وإنما كشاب تعثرت أحلامه ولم تطعمه الثقافة خبزاً الأمر الذي أرجعه إلى رصيف العاطلين مجددًا في تناوب المباشرة والتورية بين الواقع البائس وجنوح الروح تجاه أحلام نابضة ورغبة عارمة بالحياة، الحياة التي لم تبق له خيارات للعيش.
بعد أن خذله أخوه وصديقه مهند؛ وزوجته؛ وشخصيات أحبها ولم يستطع أن يكرهها رغم الخيبات المتتالية، يقع أخيراً في حب أرواح فراشات قضت، لا يطلب منها شكراً ولا عرفاناً، الفعل الذي يجعله متوازنًا بعد سيل الإخفاقات التي تراكمت في حياته.
في الجزء الأخير ينحو النص صوب الغرائبية في لقائه بشخصية النقاش الذي يهيئ للأطفال الموتى كفنهم الأخير في وادي الفراشات وينسى عند عزيز كتابه دفتر الأرواح الذي دون فيه كلمات شاعرية عن أرواح الأطفال التي تسامت إلى باريها مما جعل عزيز يضيف عليه ويتابع عمله في تكفين جثث الأطفال المشردين الذين وإن لم نستطع أن نؤمن حياة وادعة لهم فعلى أقل نؤمن موتاً يحترم طفولتهم البريئة ويوسدهم مكانًا مريحًا.
مشهدية شفافة وقاسية تجعل الذات المتشظية تلملم أقدارها في محاولة لفعل تسوية مع الحياة حيث العجز والفشل يلاحقانها فتنتقل لعمل تسوية مع الموت وهنا كان وادي الفراشات هو الفعل الإيجابي للأرواح القلقة التي لاقت مصيرها في عالم هيمنت القسوة على فضائه، ليبقى حلم الولادة والأمل بطفل يفقد بعد مجيئه بإشارة رمزية لموت المستقبل وخاصة في الحروب التي تتالت على العراق، فعند ولادة الحلم – المستقبل يضيع الولد وتبدأ رحلة البحث عنه ولكنه الواقع ولا مهرب من العجز عن تغييره، ولكن أضعف الإيمان أن نكفنه برفق، في إدانة لهذا الزمن الذي ترمى فيه جثث الأطفال في الشوارع، ولكن يبزغ أمل جديد عندما تتفتح إحدى لفائف الطفولة في الوادي عن نسمة حياة قد تكون إشارة لأمل مرتقب، فمن وسط الموت تنبثق الحياة في تجاور نقيضين بمقلب آسر يجعل الأمل بصيصًا غائمًا ولكنه موجود رغم كثافة الضباب.