كمال داود: كاتب جزائري مفتون باليمين المتطرف الفرنسي

[كمال داود]. [كمال داود].

كمال داود: كاتب جزائري مفتون باليمين المتطرف الفرنسي

By : فارس لونيس

ما الذي يستطيع كاتب من الجنوب العالمي، لا بل وعربي، أن يتفوه به في "العالم الحرّ"، خاصّة في فرنسا؟ له كلّ الحق في توجيه سهام النقد نحو الأنظمة الدكتاتورية العربية والتشدد الديني وعنفه الدموي، أو استبداد الحكومات الصينية والروسية؛ كلها قضايا عادلة وهو موقف مرحب به وحتى ضروري.

في المقابل، لا نجد مجالا لمواضيع أخرى مثل مساءلة تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الدّموي السّافر في الشرق الأوسط، أو سجن جوليان أسانج التعسفي لأكثر من عقد من الزمن، أو صعود الأيديولوجيات الفاشية في صفوف اليمين واليمين المتطرف الفرنسي والأوروبي عامة.

هنا لا يبقى النقد مستحبّاً، بل هو بالتأكيد غير مقبول، وحتى مستحيل في أغلب الأحيان.

لكي يتمكن كاتب من الجنوب العالمي فعلاً الكلام، وأن يجد آذانا صاغية لدى الإعلام التقليدي، ما عليه إلّا محاكاة كمال داود، فيكيّف قلمه للمساهمة في إثراء مرجع حقيقي في الأفكار المسبقة يعرف باسم "القوس الجمهوري"، ويقدّم حزب "التجمع الوطني" الذي ينتمي إلى اليمين المتطرف على أنه بديل أكثر "وطنية" و"جمهورية" من ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري وحزب "فرنسا الأبية" لجان لوك ميلانشون "المتحمّس لحماس" (24 مايو/أيار 2024.)

ويكرّر داود بالتحديد هذه الفكرة في مقالتين نشرهما في مجلّة "لوبوان" بعنوانين موحيين هما "غلطة الشيخ ميلانشون" (20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) و"هل أن مسلمي فرنسا هم ’المغفل المفيد’ لحزب فرنسا الأبية؟" (14 يونيو/حزيران 2024).

ويؤمن داود بوجود "تصويت مسلم" قوامه "معاداة السامية ونيّة تدمير دولة إسرائيل" وطبعاً "الحقد" المفترض على الحضارة الفرنسية والغربية.

اليمين المتطرف خير من اليسار الراديكالي

ومن المقالات المتنوعة التي تجسّد منعطف الكاتب الإيديولوجي، نذكر "مليكة صوريل-سوتر وريما حسن والموضوع المخفي" المنشور في "لوبوان" في الثامن من أبريل/نيسان 2024 (كل الاقتباسات في هذا المقال متأتية من هذا النص) وهو ربما أكثر نصّ يفضح انبهار الكاتب باليمين المتطرف الفرنسي.

ففي محاولته لشرح ما يمكن أن تكون عليه مقاربة "نيّرة" لا "تتبنّى منطق الضحية وليست في المطالبة الدائمة" للهجرة والعلمانية في فرنسا، يمنح كمال داود شهادة "وعي جمهوري" للنائبة الأوروبية عن "التجمع الوطني" مليكة صوريل-سوتر، على حساب ريما حسن، المرشحة من أصول فلسطينية عن "فرنسا الأبية" -والتي صارت ممثلة عنه في البرلمان الأوروبي.

إذ يشرح داود أن هذه الكاتبة الهجائية من اليمين المتطرف تمثّل "مثالاً للمهاجرة التي تجرؤ على القول بأن الهجرة [إلى أوروبا] كما تُمارس اليوم، في ظل الخضوع الأيديولوجي والديني، تُشكل خطراً رئيسياً على الجميع"، وهي هجرة تقاوم المشروع السياسي "لدين ما" - أي الإسلام، لنسمي الأمور بمسمّياتها - يسعى إلى "ابتلاع مفهوم الجمهورية نفسه ثم بقية العالم".

ووفقا "للمعيار الجمهوري" لكمال داود، فإن مليكة صوريل-سوتر هي العلاج المثالي للأفكار التي تروّج لها ريما حسن، تلك المحامية الفرنسية-الفلسطينية التي تجّسد "المهاجر المتحرّر من الاستعمار، المتجمد في موقف الضحية والمطالِب بالحقوق" وحصان طروادة الذي "تحاول فرنسا الأبية احتكاره" لاستقطاب "العاطفة المؤيدة لفلسطين والناخبين ’المسلمين’- إن لم يكن الإسلاميين- [من أجل] إثارة الشعور بالذنب لدى الآخرين دون أن يشعروا أنفسهم بالذنب". وذهب الكاتب إلى حدّ اعتبارها العلامة الأكيدة على "انحراف اليسار المتطرف نحو الراديكالية".

صحيح أن كتابات مليكة صوريل-سوتر تدور حول مواضيع مثل "لعنة حق الأرض" (أي الحق في الحصول على الجنسية لكون الشخص قد وُلد على الأراضي الفلسطينية) و"تحوّل الشعب الأصلي تدريجيا إلى أقلية"، كما تدعو إلى وضع حدّ لسياسة "تفضيل الأجانب" التي "تكثّف من الهجرة من خارج أوروبا"، لكن هذا لا يمنع داود من منحها شهادة "وعي جمهوري شديد"، إذ تواجه فرنسا خطر "أن ’يبتلعها’ إسلام ’لا نعرف ما نفعل به’".

وفي مواجهة هذا الخطر، لا يمكن لـ"الراديكالية الفرنسية الخالصة" لحزب "فرنسا الأبية" أن تعارض سوى تجميد النقاش "على مستوى الجدل العقيم حول معاداة المسلمين وكره الأجانب والهجرة والجنوح أو التطرف السياسي".

لا تتعدّى كتابات هذا المؤلف "التقدمي من العالم الإسلامي" حدود مواضيع هوس اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، وهي رباعيّته الثقافوية التي لا تتزحزح: الإسلام-الضواحي-الهجرة-انعدام الأمن

وبعيدا عن تقديم نقد بنّاء ومبرّر لبرنامج ومبادئ حزب "فرنسا الأبية" وجان لوك ميلانشون وريما حسن، ومن دون أدنى كلمة حول العنصرية والنّزعة الثقافوية البيولوجية التي تتبناها مليكة صوريل-سوتر والتجمع الوطني علناً، يفضّل داود تلقين قرّائه دروسا حول نهاية العالم التي ستضرب فرنسا حتما؛ وهي نهاية لن تكون إلّا على يد ميلانشون والمسلمين والمهاجرين وحركة "الووك" [الحركة المناهضة للعنصرية والمطالبة بالعدالة الاجتماعية].

وفي نَفَس واحد، يُطمئن داود قرّاءه مؤكدا لهم أن الانخراط في صفوف "التجمع الوطني" سيسمح بكسر "قيود الصمت والمساومة باسم الطائفية" وبالتعبير عن "رفض وهم الهجرة والتشدّد الإسلامي". وهو هنا يستحضر أفكار مليكة صوريل سوتر حول "انتحار" فرنسا التي تصنع "همجية أحفاد المهاجرين، وهي همجية ستنتهي بفنائها".

خلال برنامج "المكتبة الكبيرة" بتاريخ 15 مايو/أيار 2024 على قناة فرانس 5 العمومية كان محوره تكريم الكاتب سلمان رشدي، شدّد كمال داود على الحاجة الملحّة للنضال من أجل الحفاظ على الحريات الفنية وحقّ الحلم، ومقاومة "تأنيب الضمير المتفشّي في الغرب". وهو تكرار للغة جديدة تهدف إلى تطهير صورة "التجمع الوطني" لدمجه في "القوس الجمهوري"، ووصم لحزب "فرنسا الأبية" وللجبهة الشعبية الجديدة بختم "الإرهاب" ومعاداة السامية و"التحيّز للهجرة".

المواطن المجَنَّس المتفوّق

يمكننا العودة إلى مقالات داود التي يتداول فيها، دون التحقق منها، أخباراً لا مكان لها من الصحة، روّج لها اليمين المتطرف الألماني حول "المهاجرين الذين يغتصبون بحكم القدر الثقافي والديني" ؛ أو إلى انزلاقه في الصحافة الجزائرية من ناقد للنظام إلى ناقد للشعب الجزائري، راسما منه صورة همجية ومختلّة بالفطرة ؛ أو إلى عجز داود المعرفي عن تسمية الاستعمار ونظام الفصل العنصري الإسرائيليين في فلسطين في مختلف كتاباته المخصصة لهذا الموضوع مثل "لماذا لستُ مناصراً لفلسطين" (12 يوليو/حزيران 2014) و "خسارة القضية الفلسطينية" (13 أكتوبر/تشرين الأول 2023) أو مقاله "الإسلاميون أكبر المستفيدين من المأساة الفلسطينية" (17 مايو/أيار 2024) الذي يصف فيه الإبادة الجارية في غزة وقتل المدنيين "بأخطاء قصف (...) ضحايا جانبية"، لأن "غزة تبقى مسألة ساخنة عند ’التدخّل فيها’ لكن ’عدم التدخّل’ يظل حلّا كارثيّا وخطرا على مستقبل إسرائيل".

ومنذ حصوله على الجنسية الفرنسية في 2020، تبنّى داود ما يمكن تسميته بأسلوب "الكاتب الهجائي الجمهوري" بمعنى أسلوب "المواطن المجنَّس المتفوق"، الذي يُعتبر "فائق الاستحقاق" بالفطرة، والمتفطّن المتصدّي لكل "إساءة للجمهورية" من قِبل الفرنسيين "قليلي الاستحقاق" الذين يصفهم الخطاب العنصري -لبعض القادة السياسيين و"المثقفين" المتملقين- "بالمهاجرين المسلمين الذين يعيشون على المساعدات الاجتماعية" أو "فرنسيون على الورق فقط" و"حلفائهم الموضوعيين" من أقصى اليسار من صناعة ميلانشون وحركة "الووك"، المتواطئين مع "الإرهاب الإسلامي" و"معاداة السامية الجديدة".

ما يلفت الانتباه من قراءة سطور كمال داود هو أولا غياب أي اهتمام له بالأدب والفنون (بالرغم من أن أتباعه ومعجبوه يقدمونه كالنموذج الكامل للمؤلف العربي) ثم لامبالاته التامة بالوقائع التاريخية وحتى بالواقع، لصالح كتابات متملقة تتناول جدالات مختلفة صُنعت في قاعات تحرير وسائل الإعلام، والتي لا هدف منها سوى إغراق الحياة الاجتماعية والفكرية في التعليق على الأخبار المتفرقة والكاذبة.

وبعيدا من أن يعكس صورة "وعي الرجل الذي عرف الإرهاب الإسلامي في بلاده" -كما يقدمه المعجبون به من دون كلل، المفتونون غالباً بمجرد سماع عبارة "الإسلام السياسي"- لا تتعدّى كتابات هذا المؤلف "التقدمي من العالم الإسلامي" حدود مواضيع هوس اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، وهي رباعيّته الثقافوية التي لا تتزحزح: الإسلام-الضواحي-الهجرة-انعدام الأمن.

بمعنى آخر، هي تكرار أعمى لأنماط اعتبار المهيمنين تجاه المهيمن عليهم، هذا "التطرف السياسي الجديد" للـ"وسط المتطرف"، الذي حلله بدقة الفيلسوف جان فابيان سبيتز في كتابه "الجمهورية، أية قيم؟" (دار غاليمار، 2022) والمؤرخ بيار سيرنا.

جائزة غونكور

ولا تعد رواية كمال داود "حوريات" – والتي تتعرّض حاليّاً لاتهامات بالسرقة الأدبية — استثناء، هي التي صدرت للتو عن دار غاليمار وحظيت بإشادة الصحافة التقليدية. ففي رواية سابقة اسمها "يا فرعون" (دار الغرب، 2005) والتي لا تظهر في كتاباته في فرنسا، يدافع داود عن نظرية تزعم أن "الجنود وحدهم قاموا بعمليات قتل" خلال حرب الجزائر الأهلية (1990/2002). في روياته "حوريات" ذات الأسلوب المفخم المتكلف الغامض، يطرح فكرة معاكسة تماماً وهي أن "الإسلاميين فقط قاموا بالقتل" ويواصلون القتل. والدليل على ذلك آلاف الأضاحي التي تقدَّم خلال عيد الإضحى...

نتساءل دائما: ما يبرر أن يحظى كاتب كان يرى في تصريحات ميشيل ويلبيك العنصرية المتعصبة بلورة أفكار المؤلف الفرنسي "الأكثر وعيا" في عصره والذي "هو محق في التمتع بحقه في تخطّي الحدود والإفراط والاستفزاز" في حقبة "يكون فيها الوعي ذريعة للغباء". للتذكير، هذه هي كلمات المؤلف ميشيل ويلبيك المعنية:

"في رأيي ما يريده الشعب الفرنسي الأصيل، كما يقال، ليس أن يتأقلم المسلمون لكن أن يكفوا عن نهبه والتحرش به، أن يقل عنف المسلمين وأن يحترموا القانون والناس. هناك حل أحسن هو أن يرحلوا."

وإن كان من الواجب التصدي للتيارات المحافظة والمتشددة الجزائرية، التي اتهمت كمال داود بال"حركي" و"الخائن"، فمن الصحي تحديد موقعه ضمن التشكيل السياسي الذي يتحرك فيه حاليا، ذلك الذي يدّعي الدفاع عن الديمقراطية والتحرر الاجتماعي والمدني باستخدام الأدوات الأيديولوجية لليمين المتشدد والمتطرف، وهو مفيد لوضع حدّ للروايات الأسطورية عن "الديمقراطيّين" و"التقدّميين" المزيفين في العالم العربي والإسلامي.


[ترجمت المقالة عن الفرنسية فاطمة بن حمد].

[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع أوريان 21].

ظاهرة "التكويع" السورية

بعد سقوط الأسد المفاجئ عم ابتهاج لدى غالبية الشارع السوري بكافة أطيافه، حتى لدى من عرف بالموالاة وبعضهم ممن كان يعلن تأييده الكامل للنظام، ولهذا سرعان ما بدأ جرد حسابٍ للمواقف خلال أربعة عشر عاماً من الحرب السورية. وانبرى من يود سلب ليس المؤيدين فقط محاولة التعبير عن فرحهم، بل حتى كل من بقي بالبلاد أو لم يتعرض لأذى النظام ومن صمت عن المقتلة السورية معتبرين ذلك تغيير مواقف، متناسين الأسباب التي تركت الناس بين سندان النظام ومطرقة بطشه، وأن صمت الكثيرين تحت سقف النظام كان دافعه الأول الخوف من بطش النظام الأسدي الذي أدرك الجميع وحشية منظومته الأمنية بعد فتح السجون.

وظهر حس السخرية من المؤيدين وخاصة الشخصيات العامة من فنانين ورموز عرفت بتأييدها الكامل للنظام المخلوع في مصطلح التكويع، وهو لفظ عامي يعني تغيير الموقف والالتفاف 180 درجة لتغيير جهة السير عند حدوث طارئ.

تأذى من ذلك كثيرون ممن فرحوا حقاً بسقوط النظام وكانوا قد وصلوا إلى أوج المعاناة الاقتصادية وبدأوا بالتململ منذ فترة ليست بالقليلة قبل سقوطه، ولا يحق لأحد أن يتجاهل كثيراً من الأسر التي باعت منازلها لتستطيع تهريب أولادها إلى خارج البلاد هرباً من خدمة العلم التي صارت كابوساً. ومع سحب حق إشهار المواقف ضد النظام بعد سقوطه في عبارة لازمة: “وين كنتو في السنوات الأربع عشر الماضية حين كان الأسد يقتلنا”، كان من الطبيعي أيضاً أن تتوقف الأنظار عند تناسي مواقف أشخاص كانوا داعمين للنظام، بل في مكنته العسكرية وقبول وجودهم مجدداً، وظهورهم العلني إلى جانب شخصيات في الإدارة السياسية وفي نشاطاتها دون خجل. 

ويبدو أن هذا التكويع صار أسلوباً سورياً، فمن الملفت للانتباه اليوم بعد ما جرى في الساحل السوري أن كثيراً من الشخصيات في المقلب الآخر موجودة في أوروبا بدأت تمارس نفس السلوك، إذ بعد أن كانت تمارس الخطاب الطائفي والتجييش والحض على القتل والانتقام حتى وصل بها الأمر إلى حد التفاخر بالإبادة للطائفة العلوية، والتحريض عليها علناً دون خجل، ظهرت بعد أيام متباكية ومعتذرة بعد أن اكتشفت أن الدول الأوربية لا ترضى بهذا السلوك وتعتبر ذلك خطراً على أمنها و فعلاً بدأت بملاحقة من يثبت أنه يفعل ذلك لإعادته إلى بلاده.

ما الذي يجعل السوريين على مفترق طرق:

إن صمت الحكومة والإدارة السياسية الجديدة عن محاكمة ومحاسبة رموز وداعمي النظام القديم ترك للشارع الشعبي مهمة منح الانتماء الوطني للبعض وسحبه من الآخر حسب رؤية متحركة وليست ثابتة إذ هي عرضة للمزاج والمنظور الشخصي والطائفي ولا يحكمها القانون. ولعل هذا تبدى للبعض على أنه حالة ديموقراطية في التعبير، ولكنه في الحقيقة لا يتماشى مع سلوك الدولة التي عليها أن ترعى عقداً اجتماعياً يصون ويحمي المجتمع والحقوق على قدم المساواة والعدالة مع جميع المكونات. ولهذا كان شعار العدالة الانتقالية ملحاً لإنقاذ الشارع السوري من الانقسام والتردي في مهاوي التخوين والإقصاء.

والجدير بالذكر أن سكان حي التضامن خرجوا في تظاهرة رافضة لظهور المسؤول عن مرتكبي مجزرة التضامن مع مسؤولين من الإدارة الجديدة في الحي وأصدرت مجموعة السلم الأهلي بياناً ضد ذلك.

هذا الانقسام بالشارع السوري كان سببه تأخر القضاء عن القيام بمهمته في تحقيق العدالة الانتقالية التي كانت ستكون فيصلاً في وضع الإدارة الجديدة أمام مسؤولياتها في المجتمع الجديد، وسحب شهادات الانتماء للوطن من يد جهة معين منه.

لم يقتصر التشوه على الحياة السياسية ومستوى الأفراد، بل تعدى ذلك إلى المنظمات المدنية التي عليها أن تكون حيادية وتحافظ على دورها الإنساني وأهدافها التي ترعاها منظمات عالمية وتقرها حقوق الإنسان

أما عن ظاهرة التكويع الجديدة الحاصلة بين المحرضين على الكراهية كما وصفتهم الدول الأوروبية، فهي تعكس ما وقع فيه الشباب المهاجر من انغماس شديد بالفكر المتطرف الإقصائي والحقد الطائفي الكبير، والقدرة على تسويغ العنف بمبرر ديني وإلهي. لا نختلف أن النظام السابق زرع الحقد الطائفي ليحافظ على بقائه لكن التطرف استلمه ورعاه واستثمره في نهجه ومشروعه على مدى السنوات الأربعة عشر السابقة وذهب به نحو تشويه حقيقة الصراع بين السلطة والشعب إلى صراع بين طائفتين. ورغم حجم الدعاية للتطرف الديني الكبير في الخارج، لم تقم أوروبا بمحاصرة هذا الفكر إلا في الإطار الذي يخدم مصالحها فهي تخاف على نفسها منه ومن العمليات التي يقوم بها من حين لآخر لكنها حريصة على تصديره إلى بلدان العالم الثالث حين تود توظيفه في سياستها.

تتفق نسبة عالية من السوريين على أن هذا الفكر الحاقد غريب عليها وأنهم يميلون للتعايش إلا أن قمع السلطة التي احتمت بالطائفة العلوية جعل الطرف الآخر يميل للاحتماء بالفكر الديني الذي يتراوح بين الاعتدال وبين التطرف. وكما قال المفكر محمد كامل الخطيب إن الإنسان عند فقدانه الانتماء للمواطنة سيلجأ للانتماء الذي يحقق له الأمان من انتماء طائفي أو ديني أو قبائلي أو عائلي لأن هذا يحقق له الأمان في ظل غياب الانتماء للوطن وغياب المنظمات والأحزاب السياسية التي تهتدي بفكر سياسي يقوم بوضع هدف للنضال والسعي إليه.

منظمات مدنية تحض على الكراهية والعنف والتجييش الطائفي:

لم يقتصر التشوه على الحياة السياسية ومستوى الأفراد، بل تعدى ذلك إلى المنظمات المدنية التي عليها أن تكون حيادية وتحافظ على دورها الإنساني وأهدافها التي ترعاها منظمات عالمية وتقرها حقوق الإنسان.

ظهر منذ فترة فيديو لفريق يدعى عبق يعمل في منطقة الباب وريف حلب يقوم بتوزيع وجبة إفطار على الناس المارين في الشوارع، كتب على أكياس الوجبة عبارات طائفية وتحض على العنف.

وبعد أن تمت إدانة ذلك بشدة من قبل صفحات التواصل الاجتماعي قدم الفريق اعتذارين متتاليين عن فعلته، ثم قيل إنه تم إيقاف عمل الفريق ونشر نبأ اعتقال أفراد منه ليظهر مرة أخرى في صورة متداولة تحت عبارة ساخرة من نبأ الاعتقال.

ليس هذا بالتحديد ما يثير الاستنكار لدى المتابعين، بل لأن سخرية الفريق من نبأ اعتقاله لا تعني فقط الاستمرار بالنهج والقناعة بهذا الفكر بل هو أيضاً شبه تنصل من الاعتذارين وعدم اعتراف بالخطأ الذي تم ارتكابه بل وتحدي للرأي العام.

كانت عملية سقوط النظام السوري مدوية وكاملة كبنيان سياسي لكن متى يسقط بناء التعصب والإقصاء الذي غرسه أولاً النظام داخل الأفراد وأفرزته سنوات الحرب منذ اندلاع الثورة مع كل معاناة الناس الممتدة عبر هذه السنين، وهل ستقوم السلطة الجديدة بما يخفف الاحتقان خاصة بعد الإبادة الجماعية التي جرت في الساحل السوري على خلفية تأجيج الوضع الأمني من قبل شرذمة فتيحة وأعوانه. هل ستكون لدينا سلطة تتجه نحو بناء الدولة التي تحقق أماني كافة أفراد المجتمع؟


[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].