(رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2025)
[باحث وشاعر سوري، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
محمد ديبو (م. د.): بعد يومين من خروجي من المعتقل في نيسان/إبريل عام ٢٠١١، ذهبت إلى القرية لزيارة أمي. استيقظنا صباح اليوم التالي لنجد عبارة "يسقط الخائن العميل محمد ديبو" وعبارات أخرى مكتوبة على جدران المنزل وبعض الجدران في القرية. حفر هذا الأمر في روحي كثيرًا وترك ظلالًا من الأسى، ليس لأنه يستهدفني فحسب، بل لأنه أيضا كان موجّها إلى أهلي كرسالة تهديد بسبب مقاومتي الاستبداد، حيث يمكن للمرء أن يتحمّل تبعات أفعاله، لكن أن يُؤذى ويُستهدف أشخاص آخرون تحبّهم بسبب هذا النشاط، كان هذا أكبر من طاقتي على تحمّله، ولهذا ترك في داخلي جرحًا لم يزل مفتوحًا.
بعد عودتي إلى دمشق لمواصلة الانخراط في الثورة والمعارضة ضد نظام الأسد، بدأت تصلني أخبار عن تكرار نفس الأمر (الكتابة على الجدران) ضد معارضين وناشطين آخرين، الأمر الذي دفعني لتتبّع هذه المسألة وجمع المعلومات والوثائق حولها، حتى تراكمت لديّ حصيلة معلومات ووثائق كانت المادة الأولية لروايتي التي صدرت مؤخرا تحت عنوان "خيانات لم يرتكبها أحد" عن دار رياض الريس مؤخرا. في البداية، لم أفكر بالكتابة بقدر ما كنت أحاول أن أفهم آليات ودوافع الاستبداد من ذلك، إلا أنه عند نقطة معينة، بدأتُ أفكر جدّيا بكتابة رواية حول هذه المسألة. وهكذا بدأت الأحداث والوثائق والأفكار تختمر في ذاكرتي حتى جاءت أزمة كورونا، فوجدت (أو وجدت الكتابة) أن الوقت قد حان لتفريغ ما تراكم في الرأس والخيال. وأذكر أني في فبراير من عام ٢٠٢٠ بدأت كتابة أولى السطور من هذه الرواية التي تغيّرت أحداثها ومساراتها كثيرا خلال مرحلة الكتابة، لتتحول من رواية لا يتجاوز عدد صفحاتها ١٥٠ صفحة كما كنت قد قرّرت في البداية، إلى حوالي ستمئة صفحة، قبل أن أعود لاختصارها إلى ٤٣٠ صفحة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. د.): ليس هناك من ثيمة رئيسية واحدة لهذه الرواية، بقدر ما أنّ هناك أكثر من ثيمة، على الرغم من أني حين اتخذت قرار الكتابة كان هناك ثيمة واحدة مركزية هي ثيمة الخيانة، حيث تتفاجأ بطلة الرواية مريم، وهي الطبيبة المؤيدة لنظام الدكتاتور أن أخاها ليس شهيدا كما توقّعت، وكما توقع أهل القرية أيضا، بل هو خائن، الأمر الذي دفعها لبدء رحلة بحث عن أسباب ذلك (هذه كانت فكرة الرواية الأولى). ولكن الذي حصل أنه خلال الكتابة، توسّعت الخيوط والمساحة الزمنية التي تغطيها الرواية، لتعالج، إضافة إلى ثيمة الخيانة، موقع الطائفة العلوية (حيث تنتمي مريم) ضمن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي لسورية الحديثة، على امتداد مئة عام تقريبا، مع عودة جزئية إلى الماضي البعيد لتاريخ الطائفة، حيث حاولت الرواية في هذا الجانب، الإجابة عن عدّة أسئلة: كيف استغل نظام الأسد هذه الطائفة ليجعل منها أحد الأحجار الرئيسية في حكمه الاستبدادي؟ أيّة أدوات استغلها لتفريغ الطائفة من عناصر قواتها ومقاومتها لنظامه؟ ماذا عن مخاوف الطائفة من الآخر؟ ماذا عن مخيال الطائفة وخوفها الذي تشكّل على امتداد قرون وقرون منذ هجراتهم الأولى نحو جبال الساحل السوري؟ ما موقع الدين العلوي السرّي مما حصل؟ هل نجح الأسد في اختراقه وتطويعه لصالح حكمه؟ هل كانت الطائفة كلّها موالية له؟ ماذا عن الأصوات المعارضة؟ هذا ما تحاول الرواية الإجابة عنه في هذا الجانب، وطبعًا بشكل روائي بحت، ومن خلال مصائر الشخصيات وحكاياتها في عائلة مريم، حيث كان جدها أحد الرجال/الشيوخ الذين قاتلوا في ثورة الشيخ صالح العلي ضد الفرنسيين، فيما أبناؤه الثلاثة؛ حسن مناضل بعثي قديم (من الجيل المؤسّس لحزب البعث وهو والد مريم)، محمود معارض يساري قضى عشر سنوات في سجون الاستبداد لمعارضته، فواز رجل أمن يراقب الأخ الأول ويلاحق الثاني.
كما أنّ الرواية ترصد التغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لسورية الحديثة من خمسينات القرن الماضي إلى ثمانينات القرن الماضي حيث كان هناك انتفاضة إسلاموية مسلّحة ضد النظام لعبت دورا بارزا في تشكيل مخيال الأقليات والطائفة العلوية، إلى لحظة انطلاق الثورة السورية، التي تشكّل أيضا أحد موضوعات الرواية الرئيسية، حيث تحكي الرواية تاريخ نضال أربعة أجيال (ما قبل الاستقلال، سنوات الاستقلال الأولى، الثمانينات، الآن). كما تتوزّع الرواية بين ثلاثة فضاءات مكانية، الساحل السوري، دمشق، حماه حيث عاشت مريم طفولتها قبل أن تضطر لمغادرة المدينة بعد أن تعرّض أبوها لما ظنّ آنذاك أنه خيانة من أعز أصدقائه، في لحظة ستغيرّ مسار حياته إلى الأبد، وتدفعه في اتجاه معاكس تقريبا لما كان يؤمن به.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(م. د.): الكتاب هو رواية، وقد اخترت الرواية لأنّها الأقدر على التعبير عمّا تريد الشخصيات قوله، فهي تتيح لك اللعب في مساحات واسعة جدا، وتتيح لك عجن الأنثروبولوجيا مع السياسة والتاريخ والجغرافيا والخيال وعلم النفس.. والتي تشكّل بدورها الفضاء/الفضاءات التي تسبح وتتحرّك ضمنها شخصيات الرواية. أنا أكتب الشعر والقصة والرواية والبحث والمقال، والموضوع دائما هو من يحدّد الجنس الأدبي الذي يُكتَب من خلاله. ولكن ميزة الرواية أنها تستطيع أن تدمج وتعجن وتستوعب كل ما سبق في طينتها، فالقصيدة والقصة والبحث والمقال، لا يحتمل أكثر من موضوعه، في حين أن الرواية قادرة حقا على استيعاب كل ذلك، من دون أن يلغي أي جنس الأخر.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(م. د.): كان ثمّة تحديات وصعوبات كثيرة رافقتني أثناء الكتابة. بعضها متعلّق بطبيعة الكتابة نفسها، وبعضها متعلّق بالمراجع المتعلّقة بالرواية وبعضها تقني بحت متعلّق بالوقت الذي عليك أن تخترعه لتتمكّن من إنجاز الرواية وأخرى سنتحدث عنها بعد قليل، أو عن أهمها على الأقل.
قلت أعلاه، إنني حين بدأت كتابة الرواية، كان موضوعها يتمحور حول الخيانة والثورة السورية، وأن المادة الأولية لها كانت متوفرة، وعليه، لم أعانِ في البداية. ولكن حين بدأت الخيوط تتشعّب والمسارات تتوسّع والشخصيات الجديدة تطالب بحقها بالولادة والحضور، كان عليّ التوقّف عن الكتابة والعودة إلى البحث. والبحث هنا لا يتعلّق بمرجع أو كتاب أو معلومة تعثر عليها ثم تعود للمتابعة، بل كان أشبه بورشة عمل جديدة. فحين قرّرت مثلا، أن تتحدث الرواية عن الطائفة العلوية وموقعها، كان عليّ البحث عن كافة المراجع التاريخية المتعلّقة بهذه الطائفة وقراءة كل ما هو متوفّر حولها، وهنا تأتي مسألة تأمين كلّ هذا، ثم مسألة ملء الفراغات التي تتركها الأسئلة من خلال اللقاء مع أصدقاء ومعارف وباحثين أثق بهم لأكوّن فكرة شاملة عن الفضاء الذي ستتحرك فيه الشخصيات، ثم حين قررت مثلا أن تكون حماة إلى جانب الساحل السوري أحد الفضاءات المكانية للرواية، كان علي القيام بالأمر نفسه من التوقف عن الكتابة والبحث مجددا. وهذا الأمر تكرّر مع كل توسّع جديد، خصوصا أنني من الأشخاص الموسوسين (إن صح التعبير) بالمعلومة والمعرفة والوثيقة، وكيفية توظيف ذلك ضمن فضاء الرواية. وعليه، إنّ عملية الكتابة ثم الانقطاع عنها لأجل البحث ثم العودة للكتابة كانت من أكثر المسائل التي أرهقتني في أثناء عملية الكتابة، خاصة أنه مع كلّ عودة، يتولّد لديك سؤال إشكالي: ماذا تفعل بما كتبته سابقا؟ كيف تكيّفه مع الأحداث الجديدة؟ هل تمحوه أم تعيد كتابته؟ وهنا كان ثمّة الكثير من المحو وإعادة الكتابة من جديد.
أيضًا، أحد التحديات التي فرضت نفسها عليّ وكنت واعيا لها أثناء عملية الكتابة، هي العلاقة بين التاريخ والوثيقة والحدث الراهن والرواية كفنّ، خاصة أنّ الرواية تجمع كلّ ذلك في طياتها. كيف أوظّف كل ذلك روائيا؟ كيف أجعله يبدو كأنه جزء من الرواية، لا مجرّد درس تاريخ؟ كيف أكتب عن الآني (الثورة السورية) من دون أن أسقط في فخ الآني نفسه؟
هناك مسألة أخرى، تتعلّق بطبيعة عملي، فأنا أعمل محرّرا في الصحافة. وهنا ثمة تحديان؛ الأوّل أنّ الصحافة هي لغة اليومي/ السريع/ المتدفق/.. في حين أن اللغة الروائية هي لغة مختلفة كليا. كيف أحمي لغتي الروائية من لغتي الصحافية التي أتعامل معها يوميا؟ هل من طريق ثالث؟
ومن الناحية الثانية، العمل اليومي في الصحافة، مع مسؤولياتك في الحياة والعائلة، يُبقي لك القليل من الوقت للكتابة التي تحتاج تفرّغًا غير مُتاح أبدا. وهنا، عليك أن تخترع الوقت اختراعًا بالمعنى الحرفي للكلمة. أحيانا كنت أستثمر نصف ساعة فراغ توفّرت قبل بدء عملي مثلا، لمراجعة صفحة أو صفحتين فقط من الرواية.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. د.): هذا الكتاب هو الرابع لي، إذ صدر لي أولًا كتاب شعر تحت عنوان "لو يخون الصديق" ضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية عام ٢٠٠٨، وصدر لي أيضا مجموعة قصصية "خطأ انتخابي" عن دار الساقي في بيروت (٢٠٠٨)، ثم صدر لي "كمن يشهد موته" عن دار المواطن في بيروت، وهو شهادة أدبية عن الثورة السورية وتجربة الاعتقال القصيرة جدا، وقد ترجم إلى اللغة الإيطالية وصدر في طبعتين. كما أن لديّ عددا من الأبحاث والكتب المشتركة مع آخرين، آخرها كتاب "درويش بين القدر والمصير" (2024)، وهو سجال فكري طويل جدا أجريته مع المفكّر السوري حسام الدين درويش، حول مسائل الفلسفة والعلم والثورة السورية والإسلام السياسي والديمقراطية والعلمانية.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(م. د.): في الحقيقة لقد قرأت مئات المراجع، بين كتب وأبحاث ومقالات وشهادات. وهي مراجع تمحورت حول مواضيع، الخيانة، الثورة السورية، الطائفة العلوية، أحداث الثمانينات، التاريخ السوري الحديث، رابطة حزب العمل الشيوعي، الإخوان المسلمون والطليعة المقاتلة، علم النفس. هذا على المستوى العام. أما على المستوى المباشر، فقد استفادت هذه الرواية بشكل مباشر، من عدّة مراجع تم تثبيتها في بداية الرواية، وهي أولا، كتابات وكتب الباحث السوري الراحل عبدالله حنا. ثانيًا، كتاب الصديق راتب شعبو والمعنون "تجربة حزب العمل الشيوعي في سورية". ثالثا، شهادة الصديق والكاتب وائل السواح وتجربته التي كتبها في سلسلة مقالات رائعة عن مرحلة هامة من تاريخ سورية، والتي يسرني توجيه شكر خاص له هنا لأنّه سمح لي بإذنٍ خاص الاستناد على هذه الشهادات لبناء إحدى شخصيات هذه الرواية. رابعًا، كتاب "تحية لحماة.. قوة العمل السلمي" للصديق الباحث صبر درويش. خامسًا، برنامج "قصة سجين" الذي يقدّمه عبر منصّة يوتيوب، العزيز مروان محمّد، والذي استضاف ويستضيف معتقلين سياسيين، ليحكوا تجاربهم الغنيّة التي استفادت منها هذه الرواية خير استفادة.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(م. د.): لا ونعم.
من جهة أولى، أنا لا أفكر بالقارئ إطلاقًا ولا أسمح له بأن يكون موجودًا أثناء عملية الكتابة. وهذا ليس تعاليًا عليه، بقدر ما أني لا أريد أن أفرض أيّة رقابة على النص. فحين تفكّر بقارئك أو تسمح له بأن يكون موجودًا أثناء عملية الكتابة، فهذا يعني أنّ عليك أن تفكّر أو تتخيّل محرّماته وحدوده. وأنا أؤمن أنّ النص الذي لا يتنفّس حرية لا يستحق الكتابة، وأنّ الكاتب الذي يكتب لقارئ معين هو كاتب حرّيته محدودة بحدود هذا القارئ الذي يتخيّله. والكتابة إن لم تكن حرّة، الأفضل عدم وجودها، فأنا أؤمن أن مهمة الكتابة كسر جميع التابوهات، سواء كانت، دينية أو سياسية أو جنسية.. وهنا، إنّ عملية إقصائي القارئ من تفكيري أثناء عملية الكتابة، هي لمصلحة القارئ الذي ينتظر نصًّا يتجاوز توقّعاته وحدوده ويوسّع مداركه. وإن كان ثمّة طموح هنا، فهذا هو القارئ الذي أتمنى أن يقرأني.
من جهة ثانية، نعم أفكر بالقارئ الذي هو أنا، فأنا قبل أن أكون كاتبًا أنا قارئ، ثمّة روايات لكتّاب أحبّها وأخرى لا أحبها، وثمّة قصائد لشعراء أحبها وأخرى لا أحبها، وثمّة روايات تمنيت لو كنت أنا من كتبها. ولهذا أنا أكتب لذاتي أولا، لكي أرضي القارئ الذي هو أنا، من دون أن يعني هذا الارتكان لنصوص من أحبّ وتقليدها، فالتقليد مقبرة الأدب والكتابة. مثلا، أنا لا أحب الروايات ذات الخط الواحد، ولا الروايات السريعة التي لا تعالج موضوعها أو مواضيعها بعمق معرفي. أحبّ الروايات الشبكية، المعقدة، المتداخلة، المتمكّنة من موضوعها وتاريخها وفضائها، وتلك التي تقلب أحشاء التاريخ وتعيد صياغته من جديد، من وجهة نظر المهمشين والمقصيين، من جهة المغيّب والمسكوت عنه، مع انحياز للعدالة والقيم الإنسانية والتنوير.. والرواية من وجهة نظري يجب أن تقدّم أمرين اثنين، المتعة والفائدة، فالمتعة وحدها تشبه حبة الشكولاطة التي تذوب في الفم سريعا (كما قال الشاعر الراحل نزار قباني)، ومن دون أن تترك أثرا، والفائدة وحدها تكون أشبه بطبق صحي يصفه لك الطبيب لتأكله في فترات المرض بهدف التعافي ومن دون أن تحبّه. وعليه، أنا قد أكون أكتب لهذا القارئ الذي يشبهني، قارئ لا يبحث عن المتعة السهلة ولا المعرفة الجافة، قارئ آمل أن يشتمني بحب كما شتمت الكثير من الكتّاب الذي أحببتهم وأنا أقرأ رواياتهم التي أخذتني إلى فوق حدود الخيال والتوقّعات. مع أمل أن يتمكّن الكاتب الذي في داخلي من كسر وتجاوز ونسف حدود ومحرّمات القارئ الذي هو أنا أيضا، أو نسيانها أثناء عملية الكتابة إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(م. د.): ثمّة الكثير من المشاريع. فأنا حقا كتبت الصفحات الأولى من رواية جديدة. كما أني كنت وقبل كتابة الرواية التي أتحدّث عنها (خيانات لم يرتكبها أحد)، قد كتبت كتابا فكريا يقارب مسائل العلمانية والثورة والديمقراطية والطائفية والحداثة.. أحيانا يناديني لإكماله طالبا مني التوقّف عن خيانته والعودة إليه، وأحيانا تناديني الرواية أو الشعر الذي خنته مرارا وتكرارا. من سينتصر في هذه المعركة؟ لا أعرف حقا. علمتني تجارب الكتابة، أنّ الكتابة هي من يقودني لا أنا.
مقتطف من الرواية
في المقبرة، رفض الشيوخ الصلاة على جثمان حمزة. دفنوه على عجل كمن يريد التخلّص من جيفةٍ، خشيةَ أن تفوح رائحتها. وفور الدفن، عادت مريم إلى البيت الفارغ إلا من الأشباح وظلّ أبيها المُهان، ممسكةً بيد أمها، وقلبها مليء بطبقاتٍ جديدة من الأسى والغصّات والغضب.
سابقاً، كان منزلهم أشبه بمضافةٍ يحجّ الجميع إليها. لم يكن أحد من أهل القرية، يفرّط بأدنى فرصة للتقرّب منهم وزيارتهم، سواء بدافع المحبّة أو المصلحة. فهذا يحتاج دواءً مجانياً لابنه المريض، وذاك يسأل توصية بطبيب عينية أو عصبية، وتلك تطلب واسطة أو مساعدة أبيها، ليحلّ لها مسألة عالقة في دوائر الدولة البيروقراطية، وغيرها من طلبات أهل القرى المتمحورة حول قضايا معيشية صغيرة، وتافهة في أغلب الأحيان. واليوم، تجلس وحيدة، يغزو قلبها الهجر والتخلّي، مصحوبين بغضبٍ نائمٍ تحت لحاءات جلدها، تنمو بذوره وتتراكم طبقاته بفعلِ نظراتٍ حادة وحاقدة، رأتها تشّع من عيون الناس المسلّطة عليها كسيوفٍ لئيمةٍ ومستعدةٍ للفتك بها. نظراتهم الغاضبة والبصاق الخارج من أفواههم، والمنتهي إلى ذات الأمكنة التي كُتبت عليها اللافتات والشعارات الفخورة بأخيها هذا الصباح، كانت تشعرها بالضآلة والتمزّق، كما لو أنّها سكين تشطرها وتفرمها إلى قطعٍ صغيرةٍ ومبعثرةٍ من دون أن تجد من يُلملمها. لم تتوقّع يوماً أن تجد نفسها، في موقفٍ شبيهٍ لما هي فيه، ولم تتخيّل أن يحدث لها ما سمعته سابقا عن عائلات نُبِذت بسبب موقفها المؤيّد للثورة التي اندلعت في البلاد عام ٢٠١١، أو خيانة ابنها كما حدث قبل شهور عندما وصلهم خبرُ استشهاد الشاب حسام العاقل من قرية مجاورة لقريتها. آنذاك، تنادى أهل ضيعتها، ومنهم أبوها وأخوها، للذهاب إلى القرية المجاورة لاستقبال الشهيد والتعزية به، ليعودوا بعد ساعات بوجوه واجمة وغاضبة، يشتمون ويلعنون.
-ليش رجعتوا بكير يا بيي؟ دفنتوا الشهيد الله يرحمو؟
-انشا الله يندفن بجهنم الحمرا. طلع خاين ابن الكلب.
-كيف يعني خاين بابا؟
-خاين يا بابا خاين، شو كيف يعني؟ الخيانة ما بدها سؤال ولا تفسير يا بابا. خاين وبس. الله لا يرحمو ولا يرحم عضامو..
ها هي الآن تواجه التهمة ذاتها، تلك التي لم تتوقع يومًا أن تُوّجه لأحدٍ من عائلتها. صحيح أنّ عائلة عمها كانت على الدوام في مرمى اتهاماتٍ مشابهة بسبب مواقفه، إلا أنّها وعائلتها، طالما كانوا بمنأى عنهم، وطالما تحاشوهم لهذا السبب بالذات. فكرتْ بأننا ننظر دائماً لما يصيب الآخرين من بلاءٍ وكوارث، باعتباره يصيبهم وحدهم فقط، من دون أن نفكر بإمكانية أن يحدث لنا هذا. نحزن معهم، أو نشمت بهم، تبعاً لموقفنا منهم، إلى أن نُفاجأ بذات المصيبة تجتاحنا. حينها، نئن تحت وطأتها وثقلها، ونتساءل: أين الناس؟ لماذا لا أحد يقف معنا؟ متناسين أنّنا كنّا نتفرّج على الألم ذاته يكوي قلوبهم، من دون أن يحظوا منّا بنظرةِ تعاطفٍ أو اهتمام. انتبهت أنّها ذهبت بعيداً في تفكيرها. وبسرعةِ من ينفي عن نفسه تهمةً ما، هزّت رأسها وردّدتْ بصوت عالٍ: إذا كان الآخرون خائنين، فإنّ أخي لا. لا يمكن أن يكون منهم. هذا حمزة، أخي وأنا أعرفه كما أعرف نفسي.
ومثل جدةٍ تفلش بقجةَ حياتها كي تطلّ على محطات عمرها، استحضرت طيفه ولحظات عمرها معه، مدققةً وممعنةً بتفاصيل ومواقف وذكريات لم تكن تعرها اهتماماً في السابق، علّها تجيبها على ما يدور في رأسها من أسئلة لم يعدْ يغيب عنها الشك. تذكرت خجله الطفولي، خوفه الدائم عليها، رقة صوته وبحته، أنوثة لا تُخفي معالمها في تقاسيم جسده، زقزقات الطفولة وشجارات كثيرة تُنسى صباح اليوم التالي وكأنها لم تكن، مفاجأتها بأعياد ميلاد مبتكرة، شراءه الثياب لها، خاصة تلك التي ترفضها العائلة خوفًا من ألسنة الناس... لم تجد ما يغذّي قلقها وشكوكها، فاطمأنت إلى يقين لا يطاله شك بضلال ما يُقال عنه، داخل هذا الخوف من القادم المجهول الذي يغمر قريتها اليوم، والشبيه لما عاشاه قبل ثلاثة عقود عندما غادروا مدينة حماة، هرباً من ماضٍ عاد ليطاردها اليوم، بعدما ظنّت أنها دفنته في صندوق ذاكرتها المُحكم الإغلاق.
أيقظها من التجوال في دهاليز الماضي دخول عمها محمود وابنه مكسيم إلى منزلهم. فاجأها حضورهما، ولم تحتج وقتاً طويلاً لتدرك معنى الانكسار الذي يُذلّ الرجال، إذ رأته توًّا، معرّشا ومتجسّدا في وجه أبيها المكسو بالعار واليأس، والخيبة والضياع. كما عرفت من تعابير وجه عمّها وعينيه اللتين تنظران إلى الأرض وهو يعزّيهم، أنه علم بما يُقال ويُشاع عن أخيها، منهياً بقدومه هذا، تاريخاً طويلاً من الخصام الذي ضرب عائلة الحكيم منذ زمن بعيد.