كتب: خيانات لم يرتكبها أحد

كتب: خيانات لم يرتكبها أحد

كتب: خيانات لم يرتكبها أحد

By : Muhammad Dibo محمد ديبو

(رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2025)


[باحث وشاعر سوري، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية].


جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟

محمد ديبو (م. د.): بعد يومين من خروجي من المعتقل في نيسان/إبريل عام ٢٠١١، ذهبت إلى القرية لزيارة أمي. استيقظنا صباح اليوم التالي لنجد عبارة "يسقط الخائن العميل محمد ديبو" وعبارات أخرى مكتوبة على جدران المنزل وبعض الجدران في القرية. حفر هذا الأمر في روحي كثيرًا وترك ظلالًا من الأسى، ليس لأنه يستهدفني فحسب، بل لأنه أيضا كان موجّها إلى أهلي كرسالة تهديد بسبب مقاومتي الاستبداد، حيث يمكن للمرء أن يتحمّل تبعات أفعاله، لكن أن يُؤذى ويُستهدف أشخاص آخرون تحبّهم بسبب هذا النشاط، كان هذا أكبر من طاقتي على تحمّله، ولهذا ترك في داخلي جرحًا لم يزل مفتوحًا.

بعد عودتي إلى دمشق لمواصلة الانخراط في الثورة والمعارضة ضد نظام الأسد، بدأت تصلني أخبار عن تكرار نفس الأمر (الكتابة على الجدران) ضد معارضين وناشطين آخرين، الأمر الذي دفعني لتتبّع هذه المسألة وجمع المعلومات والوثائق حولها، حتى تراكمت لديّ حصيلة معلومات ووثائق كانت المادة الأولية لروايتي التي صدرت مؤخرا تحت عنوان "خيانات لم يرتكبها أحد" عن دار رياض الريس مؤخرا. في البداية، لم أفكر بالكتابة بقدر ما كنت أحاول أن أفهم آليات ودوافع الاستبداد من ذلك، إلا أنه عند نقطة معينة، بدأتُ أفكر جدّيا بكتابة رواية حول هذه المسألة. وهكذا بدأت الأحداث والوثائق والأفكار تختمر في ذاكرتي حتى جاءت أزمة كورونا، فوجدت (أو وجدت الكتابة) أن الوقت قد حان لتفريغ ما تراكم في الرأس والخيال. وأذكر أني في فبراير من عام ٢٠٢٠ بدأت كتابة أولى السطور من هذه الرواية التي تغيّرت أحداثها ومساراتها كثيرا خلال مرحلة الكتابة، لتتحول من رواية لا يتجاوز عدد صفحاتها ١٥٠ صفحة كما كنت قد قرّرت في البداية، إلى حوالي ستمئة صفحة، قبل أن أعود لاختصارها إلى ٤٣٠ صفحة.

(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟

(م. د.): ليس هناك من ثيمة رئيسية واحدة لهذه الرواية، بقدر ما أنّ هناك أكثر من ثيمة، على الرغم من أني حين اتخذت قرار الكتابة كان هناك ثيمة واحدة مركزية هي ثيمة الخيانة، حيث تتفاجأ بطلة الرواية مريم، وهي الطبيبة المؤيدة لنظام الدكتاتور أن أخاها ليس شهيدا كما توقّعت، وكما توقع أهل القرية أيضا، بل هو خائن، الأمر الذي دفعها لبدء رحلة بحث عن أسباب ذلك (هذه كانت فكرة الرواية الأولى). ولكن الذي حصل أنه خلال الكتابة، توسّعت الخيوط والمساحة الزمنية التي تغطيها الرواية، لتعالج، إضافة إلى ثيمة الخيانة، موقع الطائفة العلوية (حيث تنتمي مريم) ضمن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي لسورية الحديثة، على امتداد مئة عام تقريبا، مع عودة جزئية إلى الماضي البعيد لتاريخ الطائفة، حيث حاولت الرواية في هذا الجانب، الإجابة عن عدّة أسئلة: كيف استغل نظام الأسد هذه الطائفة ليجعل منها أحد الأحجار الرئيسية في حكمه الاستبدادي؟ أيّة أدوات استغلها لتفريغ الطائفة من عناصر قواتها ومقاومتها لنظامه؟ ماذا عن مخاوف الطائفة من الآخر؟ ماذا عن مخيال الطائفة وخوفها الذي تشكّل على امتداد قرون وقرون منذ هجراتهم الأولى نحو جبال الساحل السوري؟ ما موقع الدين العلوي السرّي مما حصل؟ هل نجح الأسد في اختراقه وتطويعه لصالح حكمه؟ هل كانت الطائفة كلّها موالية له؟ ماذا عن الأصوات المعارضة؟ هذا ما تحاول الرواية الإجابة عنه في هذا الجانب، وطبعًا بشكل روائي بحت، ومن خلال مصائر الشخصيات وحكاياتها في عائلة مريم، حيث كان جدها أحد الرجال/الشيوخ الذين قاتلوا في ثورة الشيخ صالح العلي ضد الفرنسيين، فيما أبناؤه الثلاثة؛ حسن مناضل بعثي قديم (من الجيل المؤسّس لحزب البعث وهو والد مريم)، محمود معارض يساري قضى عشر سنوات في سجون الاستبداد لمعارضته، فواز رجل أمن يراقب الأخ الأول ويلاحق الثاني.

كما أنّ الرواية ترصد التغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لسورية الحديثة من خمسينات القرن الماضي إلى ثمانينات القرن الماضي حيث كان هناك انتفاضة إسلاموية مسلّحة ضد النظام لعبت دورا بارزا في تشكيل مخيال الأقليات والطائفة العلوية، إلى لحظة انطلاق الثورة السورية، التي تشكّل أيضا أحد موضوعات الرواية الرئيسية، حيث تحكي الرواية تاريخ نضال أربعة أجيال (ما قبل الاستقلال، سنوات الاستقلال الأولى، الثمانينات، الآن). كما تتوزّع الرواية بين ثلاثة فضاءات مكانية، الساحل السوري، دمشق، حماه حيث عاشت مريم طفولتها قبل أن تضطر لمغادرة المدينة بعد أن تعرّض أبوها لما ظنّ آنذاك أنه خيانة من أعز أصدقائه، في لحظة ستغيرّ مسار حياته إلى الأبد، وتدفعه في اتجاه معاكس تقريبا لما كان يؤمن به. 

(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟

(م. د.): الكتاب هو رواية، وقد اخترت الرواية لأنّها الأقدر على التعبير عمّا تريد الشخصيات قوله، فهي تتيح لك اللعب في مساحات واسعة جدا، وتتيح لك عجن الأنثروبولوجيا مع السياسة والتاريخ والجغرافيا والخيال وعلم النفس.. والتي تشكّل بدورها الفضاء/الفضاءات التي تسبح وتتحرّك ضمنها شخصيات الرواية. أنا أكتب الشعر والقصة والرواية والبحث والمقال، والموضوع دائما هو من يحدّد الجنس الأدبي الذي يُكتَب من خلاله. ولكن ميزة الرواية أنها تستطيع أن تدمج وتعجن وتستوعب كل ما سبق في طينتها، فالقصيدة والقصة والبحث والمقال، لا يحتمل أكثر من موضوعه، في حين أن الرواية قادرة حقا على استيعاب كل ذلك، من دون أن يلغي أي جنس الأخر.

(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟

(م. د.): كان ثمّة تحديات وصعوبات كثيرة رافقتني أثناء الكتابة. بعضها متعلّق بطبيعة الكتابة نفسها، وبعضها متعلّق بالمراجع المتعلّقة بالرواية وبعضها تقني بحت متعلّق بالوقت الذي عليك أن تخترعه لتتمكّن من إنجاز الرواية وأخرى سنتحدث عنها بعد قليل، أو عن أهمها على الأقل.

قلت أعلاه، إنني حين بدأت كتابة الرواية، كان موضوعها يتمحور حول الخيانة والثورة السورية، وأن المادة الأولية لها كانت متوفرة، وعليه، لم أعانِ في البداية. ولكن حين بدأت الخيوط تتشعّب والمسارات تتوسّع والشخصيات الجديدة تطالب بحقها بالولادة والحضور، كان عليّ التوقّف عن الكتابة والعودة إلى البحث. والبحث هنا لا يتعلّق بمرجع أو كتاب أو معلومة تعثر عليها ثم تعود للمتابعة، بل كان أشبه بورشة عمل جديدة. فحين قرّرت مثلا، أن تتحدث الرواية عن الطائفة العلوية وموقعها، كان عليّ البحث عن كافة المراجع التاريخية المتعلّقة بهذه الطائفة وقراءة كل ما هو متوفّر حولها، وهنا تأتي مسألة تأمين كلّ هذا، ثم مسألة ملء الفراغات التي تتركها الأسئلة من خلال اللقاء مع أصدقاء ومعارف وباحثين أثق بهم لأكوّن فكرة شاملة عن الفضاء الذي ستتحرك فيه الشخصيات، ثم حين قررت مثلا أن تكون حماة إلى جانب الساحل السوري أحد الفضاءات المكانية للرواية، كان علي القيام بالأمر نفسه من التوقف عن الكتابة والبحث مجددا. وهذا الأمر تكرّر مع كل توسّع جديد، خصوصا أنني من الأشخاص الموسوسين (إن صح التعبير) بالمعلومة والمعرفة والوثيقة، وكيفية توظيف ذلك ضمن فضاء الرواية. وعليه، إنّ عملية الكتابة ثم الانقطاع عنها لأجل البحث ثم العودة للكتابة كانت من أكثر المسائل التي أرهقتني في أثناء عملية الكتابة، خاصة أنه مع كلّ عودة، يتولّد لديك سؤال إشكالي: ماذا تفعل بما كتبته سابقا؟ كيف تكيّفه مع الأحداث الجديدة؟ هل تمحوه أم تعيد كتابته؟ وهنا كان ثمّة الكثير من المحو وإعادة الكتابة من جديد.

أيضًا، أحد التحديات التي فرضت نفسها عليّ وكنت واعيا لها أثناء عملية الكتابة، هي العلاقة بين التاريخ والوثيقة والحدث الراهن والرواية كفنّ، خاصة أنّ الرواية تجمع كلّ ذلك في طياتها. كيف أوظّف كل ذلك روائيا؟ كيف أجعله يبدو كأنه جزء من الرواية، لا مجرّد درس تاريخ؟ كيف أكتب عن الآني (الثورة السورية) من دون أن أسقط في فخ الآني نفسه؟

هناك مسألة أخرى، تتعلّق بطبيعة عملي، فأنا أعمل محرّرا في الصحافة. وهنا ثمة تحديان؛ الأوّل أنّ الصحافة هي لغة اليومي/ السريع/ المتدفق/.. في حين أن اللغة الروائية هي لغة مختلفة كليا. كيف أحمي لغتي الروائية من لغتي الصحافية التي أتعامل معها يوميا؟ هل من طريق ثالث؟

تتوزّع الرواية بين ثلاثة فضاءات مكانية، الساحل السوري، دمشق، حماه حيث عاشت مريم طفولتها قبل أن تضطر لمغادرة المدينة بعد أن تعرّض أبوها لما ظنّ آنذاك أنه خيانة من أعز أصدقائه، في لحظة ستغيرّ مسار حياته إلى الأبد، وتدفعه في اتجاه معاكس تقريبا لما كان يؤمن به

ومن الناحية الثانية، العمل اليومي في الصحافة، مع مسؤولياتك في الحياة والعائلة، يُبقي لك القليل من الوقت للكتابة التي تحتاج تفرّغًا غير مُتاح أبدا. وهنا، عليك أن تخترع الوقت اختراعًا بالمعنى الحرفي للكلمة. أحيانا كنت أستثمر نصف ساعة فراغ توفّرت قبل بدء عملي مثلا، لمراجعة صفحة أو صفحتين فقط من الرواية.

(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟

(م. د.): هذا الكتاب هو الرابع لي، إذ صدر لي أولًا كتاب شعر تحت عنوان "لو يخون الصديق" ضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية عام ٢٠٠٨، وصدر لي أيضا مجموعة قصصية "خطأ انتخابي" عن دار الساقي في بيروت (٢٠٠٨)، ثم صدر لي "كمن يشهد موته" عن دار المواطن في بيروت، وهو شهادة أدبية عن الثورة السورية وتجربة الاعتقال القصيرة جدا، وقد ترجم إلى اللغة الإيطالية وصدر في طبعتين. كما أن لديّ عددا من الأبحاث والكتب المشتركة مع آخرين، آخرها كتاب "درويش بين القدر والمصير" (2024)، وهو سجال فكري طويل جدا أجريته مع المفكّر السوري حسام الدين درويش، حول مسائل الفلسفة والعلم والثورة السورية والإسلام السياسي والديمقراطية والعلمانية.

(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟

(م. د.): في الحقيقة لقد قرأت مئات المراجع، بين كتب وأبحاث ومقالات وشهادات. وهي مراجع تمحورت حول مواضيع، الخيانة، الثورة السورية، الطائفة العلوية، أحداث الثمانينات، التاريخ السوري الحديث، رابطة حزب العمل الشيوعي، الإخوان المسلمون والطليعة المقاتلة، علم النفس. هذا على المستوى العام. أما على المستوى المباشر، فقد استفادت هذه الرواية بشكل مباشر، من عدّة مراجع تم تثبيتها في بداية الرواية، وهي أولا، كتابات وكتب الباحث السوري الراحل عبدالله حنا. ثانيًا، كتاب الصديق راتب شعبو والمعنون "تجربة حزب العمل الشيوعي في سورية". ثالثا، شهادة الصديق والكاتب وائل السواح وتجربته التي كتبها في سلسلة مقالات رائعة عن مرحلة هامة من تاريخ سورية، والتي يسرني توجيه شكر خاص له هنا لأنّه سمح لي بإذنٍ خاص الاستناد على هذه الشهادات لبناء إحدى شخصيات هذه الرواية. رابعًا، كتاب "تحية لحماة.. قوة العمل السلمي" للصديق الباحث صبر درويش. خامسًا، برنامج "قصة سجين" الذي يقدّمه عبر منصّة يوتيوب، العزيز مروان محمّد، والذي استضاف ويستضيف معتقلين سياسيين، ليحكوا تجاربهم الغنيّة التي استفادت منها هذه الرواية خير استفادة.

(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟

(م. د.): لا ونعم.

من جهة أولى، أنا لا أفكر بالقارئ إطلاقًا ولا أسمح له بأن يكون موجودًا أثناء عملية الكتابة. وهذا ليس تعاليًا عليه، بقدر ما أني لا أريد أن أفرض أيّة رقابة على النص. فحين تفكّر بقارئك أو تسمح له بأن يكون موجودًا أثناء عملية الكتابة، فهذا يعني أنّ عليك أن تفكّر أو تتخيّل محرّماته وحدوده. وأنا أؤمن أنّ النص الذي لا يتنفّس حرية لا يستحق الكتابة، وأنّ الكاتب الذي يكتب لقارئ معين هو كاتب حرّيته محدودة بحدود هذا القارئ الذي يتخيّله. والكتابة إن لم تكن حرّة، الأفضل عدم وجودها، فأنا أؤمن أن مهمة الكتابة كسر جميع التابوهات، سواء كانت، دينية أو سياسية أو جنسية.. وهنا، إنّ عملية إقصائي القارئ من تفكيري أثناء عملية الكتابة، هي لمصلحة القارئ الذي ينتظر نصًّا يتجاوز توقّعاته وحدوده ويوسّع مداركه. وإن كان ثمّة طموح هنا، فهذا هو القارئ الذي أتمنى أن يقرأني.

من جهة ثانية، نعم أفكر بالقارئ الذي هو أنا، فأنا قبل أن أكون كاتبًا أنا قارئ، ثمّة روايات لكتّاب أحبّها وأخرى لا أحبها، وثمّة قصائد لشعراء أحبها وأخرى لا أحبها، وثمّة روايات تمنيت لو كنت أنا من كتبها. ولهذا أنا أكتب لذاتي أولا، لكي أرضي القارئ الذي هو أنا، من دون أن يعني هذا الارتكان لنصوص من أحبّ وتقليدها، فالتقليد مقبرة الأدب والكتابة. مثلا، أنا لا أحب الروايات ذات الخط الواحد، ولا الروايات السريعة التي لا تعالج موضوعها أو مواضيعها بعمق معرفي. أحبّ الروايات الشبكية، المعقدة، المتداخلة، المتمكّنة من موضوعها وتاريخها وفضائها، وتلك التي تقلب أحشاء التاريخ وتعيد صياغته من جديد، من وجهة نظر المهمشين والمقصيين، من جهة المغيّب والمسكوت عنه، مع انحياز للعدالة والقيم الإنسانية والتنوير.. والرواية من وجهة نظري يجب أن تقدّم أمرين اثنين، المتعة والفائدة، فالمتعة وحدها تشبه حبة الشكولاطة التي تذوب في الفم سريعا (كما قال الشاعر الراحل نزار قباني)، ومن دون أن تترك أثرا، والفائدة وحدها تكون أشبه بطبق صحي يصفه لك الطبيب لتأكله في فترات المرض بهدف التعافي ومن دون أن تحبّه. وعليه، أنا قد أكون أكتب لهذا القارئ الذي يشبهني، قارئ لا يبحث عن المتعة السهلة ولا المعرفة الجافة، قارئ آمل أن يشتمني بحب كما شتمت الكثير من الكتّاب الذي أحببتهم وأنا أقرأ رواياتهم التي أخذتني إلى فوق حدود الخيال والتوقّعات. مع أمل أن يتمكّن الكاتب الذي في داخلي من كسر وتجاوز ونسف حدود ومحرّمات القارئ الذي هو أنا أيضا، أو نسيانها أثناء عملية الكتابة إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

(ج): ما هو مشروعك القادم؟

(م. د.): ثمّة الكثير من المشاريع. فأنا حقا كتبت الصفحات الأولى من رواية جديدة. كما أني كنت وقبل كتابة الرواية التي أتحدّث عنها (خيانات لم يرتكبها أحد)، قد كتبت كتابا فكريا يقارب مسائل العلمانية والثورة والديمقراطية والطائفية والحداثة.. أحيانا يناديني لإكماله طالبا مني التوقّف عن خيانته والعودة إليه، وأحيانا تناديني الرواية أو الشعر الذي خنته مرارا وتكرارا. من سينتصر في هذه المعركة؟ لا أعرف حقا. علمتني تجارب الكتابة، أنّ الكتابة هي من يقودني لا أنا.

مقتطف من الرواية

في المقبرة، رفض الشيوخ الصلاة على جثمان حمزة. دفنوه على عجل كمن يريد التخلّص من جيفةٍ، خشيةَ أن تفوح رائحتها. وفور الدفن، عادت مريم إلى البيت الفارغ إلا من الأشباح وظلّ أبيها المُهان، ممسكةً بيد أمها، وقلبها مليء بطبقاتٍ جديدة من الأسى والغصّات والغضب.

سابقاً، كان منزلهم أشبه بمضافةٍ يحجّ الجميع إليها. لم يكن أحد من أهل القرية، يفرّط بأدنى فرصة للتقرّب منهم وزيارتهم، سواء بدافع المحبّة أو المصلحة. فهذا يحتاج دواءً مجانياً لابنه المريض، وذاك يسأل توصية بطبيب عينية أو عصبية، وتلك تطلب واسطة أو مساعدة أبيها، ليحلّ لها مسألة عالقة في دوائر الدولة البيروقراطية، وغيرها من طلبات أهل القرى المتمحورة حول قضايا معيشية صغيرة، وتافهة في أغلب الأحيان. واليوم، تجلس وحيدة، يغزو قلبها الهجر والتخلّي، مصحوبين بغضبٍ نائمٍ تحت لحاءات جلدها، تنمو بذوره وتتراكم طبقاته بفعلِ نظراتٍ حادة وحاقدة، رأتها تشّع من عيون الناس المسلّطة عليها كسيوفٍ لئيمةٍ ومستعدةٍ للفتك بها. نظراتهم الغاضبة والبصاق الخارج من أفواههم، والمنتهي إلى ذات الأمكنة التي كُتبت عليها اللافتات والشعارات الفخورة بأخيها هذا الصباح، كانت تشعرها بالضآلة والتمزّق، كما لو أنّها سكين تشطرها وتفرمها إلى قطعٍ صغيرةٍ ومبعثرةٍ من دون أن تجد من يُلملمها. لم تتوقّع يوماً أن تجد نفسها، في موقفٍ شبيهٍ لما هي فيه، ولم تتخيّل أن يحدث لها ما سمعته سابقا عن عائلات نُبِذت بسبب موقفها المؤيّد للثورة التي اندلعت في البلاد عام ٢٠١١، أو خيانة ابنها كما حدث قبل شهور عندما وصلهم خبرُ استشهاد الشاب حسام العاقل من قرية مجاورة لقريتها. آنذاك، تنادى أهل ضيعتها، ومنهم أبوها وأخوها، للذهاب إلى القرية المجاورة لاستقبال الشهيد والتعزية به، ليعودوا بعد ساعات بوجوه واجمة وغاضبة، يشتمون ويلعنون.

-ليش رجعتوا بكير يا بيي؟ دفنتوا الشهيد الله يرحمو؟

-انشا الله يندفن بجهنم الحمرا. طلع خاين ابن الكلب.

-كيف يعني خاين بابا؟

-خاين يا بابا خاين، شو كيف يعني؟ الخيانة ما بدها سؤال ولا تفسير يا بابا. خاين وبس. الله لا يرحمو ولا يرحم عضامو..

ها هي الآن تواجه التهمة ذاتها، تلك التي لم تتوقع يومًا أن تُوّجه لأحدٍ من عائلتها. صحيح أنّ عائلة عمها كانت على الدوام في مرمى اتهاماتٍ مشابهة بسبب مواقفه، إلا أنّها وعائلتها، طالما كانوا بمنأى عنهم، وطالما تحاشوهم لهذا السبب بالذات. فكرتْ بأننا ننظر دائماً لما يصيب الآخرين من بلاءٍ وكوارث، باعتباره يصيبهم وحدهم فقط، من دون أن نفكر بإمكانية أن يحدث لنا هذا. نحزن معهم، أو نشمت بهم، تبعاً لموقفنا منهم، إلى أن نُفاجأ بذات المصيبة تجتاحنا. حينها، نئن تحت وطأتها وثقلها، ونتساءل: أين الناس؟ لماذا لا أحد يقف معنا؟ متناسين أنّنا كنّا نتفرّج على الألم ذاته يكوي قلوبهم، من دون أن يحظوا منّا بنظرةِ تعاطفٍ أو اهتمام. انتبهت أنّها ذهبت بعيداً في تفكيرها. وبسرعةِ من ينفي عن نفسه تهمةً ما، هزّت رأسها وردّدتْ بصوت عالٍ: إذا كان الآخرون خائنين، فإنّ أخي لا. لا يمكن أن يكون منهم. هذا حمزة، أخي وأنا أعرفه كما أعرف نفسي.

ومثل جدةٍ تفلش بقجةَ حياتها كي تطلّ على محطات عمرها، استحضرت طيفه ولحظات عمرها معه، مدققةً وممعنةً بتفاصيل ومواقف وذكريات لم تكن تعرها اهتماماً في السابق، علّها تجيبها على ما يدور في رأسها من أسئلة لم يعدْ يغيب عنها الشك. تذكرت خجله الطفولي، خوفه الدائم عليها، رقة صوته وبحته، أنوثة لا تُخفي معالمها في تقاسيم جسده، زقزقات الطفولة وشجارات كثيرة تُنسى صباح اليوم التالي وكأنها لم تكن، مفاجأتها بأعياد ميلاد مبتكرة، شراءه الثياب لها، خاصة تلك التي ترفضها العائلة خوفًا من ألسنة الناس... لم تجد ما يغذّي قلقها وشكوكها، فاطمأنت إلى يقين لا يطاله شك بضلال ما يُقال عنه، داخل هذا الخوف من القادم المجهول الذي يغمر قريتها اليوم، والشبيه لما عاشاه قبل ثلاثة عقود عندما غادروا مدينة حماة، هرباً من ماضٍ عاد ليطاردها اليوم، بعدما ظنّت أنها دفنته في صندوق ذاكرتها المُحكم الإغلاق.

أيقظها من التجوال في دهاليز الماضي دخول عمها محمود وابنه مكسيم إلى منزلهم. فاجأها حضورهما، ولم تحتج وقتاً طويلاً لتدرك معنى الانكسار الذي يُذلّ الرجال، إذ رأته توًّا، معرّشا ومتجسّدا في وجه أبيها المكسو بالعار واليأس، والخيبة والضياع. كما عرفت من تعابير وجه عمّها وعينيه اللتين تنظران إلى الأرض وهو يعزّيهم، أنه علم بما يُقال ويُشاع عن أخيها، منهياً بقدومه هذا، تاريخاً طويلاً من الخصام الذي ضرب عائلة الحكيم منذ زمن بعيد.


جويس بلو: امرأة من نسيج خاص

كم خدعت من ضباط شرطة وقضاة في مصر، وفي فرنسا، وحتى في الاتحاد السوفييتي بعبارة: "بشرفي!"، مظهرة على وجهها علامات الدهشة؟ كم عدد الأشخاص، من نساء ورجال وأطفال، الذين أسرتهم بذكائها، وثقافتها، وروح دعابتها، إضافة إلى كرمها؟ بدأت جويس بلو مسيرة حياتها في مصر وانتهت في فرنسا، مروراً ببلجيكا وكردستان، حيث كانت التزاماتها متعددة: فقد كانت شيوعية في القاهرة، أممية إلى جانب المناضلين الجزائريين، وداعمة لكل المظلومين الباحثين عن المساعدة، وناشطة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وناقلة للثقافات. حتى أنها كانت هي من أدخلت دراسة الحضارة واللغة الكردية في الجامعات الفرنسية. حياة جويس بلو تشبه خرائط جغرافية تتجه دائماً نحو الشرق والبحر الأبيض المتوسط، مليئة بالعائلات والأصدقاء المتعددين، وتتخللها لحظات من الضحك والفكاهة الكامنة دائماً خلف المآسي.

وُلدت جويس بلو في 18 مارس/آذار 1932 في القاهرة. أحد أجدادها قدم إلى مصر في القرن التاسع عشر من فالتشي (التي أصبحت فيما بعد جزءاً من رومانيا)، زاول تعليمه بجامعة السوربون قبل انتدابه من النظام الملكي المصري الذي كان تحت الحماية البريطانية آنذاك. أما جدها الآخر، فقد جاء من تونس وكان يعمل مدرساً هو الآخر، وقد جذبته حركة تحديث المدارس التي قام بها الخديوي إسماعيل باشا في القرن التاسع عشر.

رغم تواضع أصول العائلة، حرص والداها على تعليم أطفالهما الثلاثة - ولد وابنتان. انتقلت جويس من مدرسة تديرها الراهبات الفرنسيات إلى مدرسة دينية إنكليزية. وفي الوقت الذي كانت أوروبا تستيقظ فيه من كابوس الحرب العالمية الثانية، عادت جويس إلى حظيرة الناطقين بالفرنسية، فالتحقت بمدرسة "الليسيه" الفرنسية في القاهرة.

تأثرت مصر بأهوال الصراع العالمي، الذي خرج منه الاتحاد السوفييتي منتصراً. وكما حدث في بلدان أخرى، انجذب المعلمون في مصر إلى الماركسية. وكان لأحد مدرسي مدرسة "الليسيه" الفرنسية تأثير كبير على الشابة جويس، مما دفعها وهي في الخامسة عشرة من عمرها للانضمام إلى تنظيم "إيسكرا" (الشعلة) في عام 1947.

لقاؤها مع هنري كورييل وبداية علاقة طويلة

في تلك الفترة، بدأت التنظيمات الشيوعية بالظهور في العاصمة المصرية واحدة تلو الأخرى، وحدثت خلافات بينها حول تفسيراتها ومواقفها السياسية، خاصة بشأن قرار تقسيم فلسطين الذي أقرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947. اختارت جويس الانضمام إلى تيار هلال شوارتز، المناهض للصهيونية، والذي كان منافساً لهنري كورييل، الذي كان هو أيضاً مناهضاً للصهيونية، لكنه كان يؤيد قرار التقسيم.

كان حبيب جويس الأول من المعجبين بكورييل. وروت جويس ضاحكة أنه خلال إجازتهما في باريس عام 1953، قال لها خطيبها: "سأعرّفك على شخص مهم جداً، ولا ينبغي لكِ إخبار أحد عن هذا اللقاء". كان هذا الشخص هو هنري كورييل. فصرخت جويس قائلة: "ماذا؟ الصهيوني؟" صفعها خطيبها، فردتها عليه، وسقطا أرضاً وهما يتشاجران. حينئذ دخل هنري كورييل الغرفة.

كان هنري كورييل مؤسس حركة التحرير الوطني المصرية، وهي منظمة شيوعية أخرى، وتم نفيه من مصر إلى إيطاليا عام 1950، ومنها انتقل إلى باريس، حيث واصل قيادة حزبه مع مجموعة من المنفيين الآخرين. قال كورييل لخطيب جويس معاتباً: "النعت بالصهيونية لا يبرّر بأي حال من الأحوال ضرب فتاة". ثم دعا جويس للقاء في اليوم التالي في مقهى بالحي اللاتيني.

كانت جويس تبلغ من العمر 21 عاماً، بينما كان هنري كورييل في الأربعين من عمره. انبهرت جويس منذ لقائها الأول بهذا الرجل الذي كان يرتدي ملابس رثة ويسعل باستمرار. سألها هنري بصوت أجش عن سبب اعتناقها الشيوعية، فأجابت ببساطة: "لأنني لا أحب الحرب". ثم اصطحبها هنري في نزهة على طول نهر السين حتى وصلا إلى كاتدرائية نوتردام في باريس، وسألها إذا كانت توافق على العودة إلى مصر لتأمين الاتصال بين "الرفاق في الخارج وزملائهم في الداخل". قبلت جويس المهمة، وكان ذلك بداية علاقة دامت 25 عاماً، جمعت بين الحب والعمل السياسي، حتى اغتيال هنري كورييل.

في يناير/كانون الثاني 1954، ودّعت جويس خطيبها الذي بقي في باريس، وسافرت إلى مرسيليا، ومن هناك استقلت السفينة إلى الإسكندرية. كانت في أمتعتها علبة شوكولاتة تحتوي على منشورات سرية ورسائل أخرى موجهة للرفاق المصريين. كانت تلك أول مهمة يكلفها بها هنري كورييل ورفاقه.

عندما اقتربت السفينة من جزيرة صقلية، تلقت جويس برقية تقول: "تناولي الشوكولاتة". ولأنها لا تحب الشوكولاتة، تركتها في العلبة ولم تدرك أنه كان عليها إلقاؤها في البحر، إذ كان هناك شك بتسريب خبر قدومها إلى مصر. وظلت بعد ذلك تردد لمدة 30 عاماً: "بشرفي، لم أفهم الرسالة!"

بدأت جويس عملها فور وصولها إلى مصر، حيث أرسلت التقارير تباعاً إلى مجموعة باريس. ولكن سرعان ما تشاجرت مع خطيبها الذي لحق بها إلى مصر، إذ كان يعتقد أنه من الممكن أن يقول لها: "ابتداءً من الآن، عليّ بالتفكير وعليكِ بالتطبيق". وفي النهاية، ألقت شرطة جمال عبد الناصر القبض عليهما، وحُكم على الشاب بالسجن لمدة ثماني سنوات، بينما أُرسلت جويس إلى سجن القلعة. كانت تلك المرة الأولى التي تُسجن فيها.

الكفاح ضد الاستعمار

حشد أصدقاؤها في باريس جهودهم وأرسلوا محامياً للدفاع عنها. وبالفعل، تمت تبرئتها وطُردت من مصر. بعد ترحيلها من ميناء الإسكندرية ووصولها إلى ميناء مرسيليا، وصلت جويس إلى باريس في نهاية عام 1955. كان في استقبالها لجنة تهدف إلى تحويلها إلى رمز لمعاناة السجناء السياسيين في مصر. وكان هنري كورييل يبحث في المحطة عن فتاة نحيلة بوجه غائر، لكنه اكتشف بدهشة امرأة شابة أنيقة ذات خدود مستديرة حمراء. كان مدير سجن القلعة قد أعجب بجويس وقدم لها العديد من شطائر الموز التي كانت تحبها، مما جعلها تقول: "لقد زاد وزني خمسة عشر كيلوغراماً!". من الصعب أن نتخيل أن جويس النحيلة جداً بشعرها البني ثم الرمادي، كانت في وقت من الأوقات ممتلئة الوجه.

في باريس، أخبرت جويس هنري كورييل برغبتها في استئناف دراستها بالتوازي مع نشاطها السياسي. كانت تميل لدراسة الكيمياء، لكنه اقترح عليها أن تتعلم العربية والفارسية والكردية. لا أحد يستطيع قول لا لهنري كورييل.

في عام 1955، كانت جويس تبلغ من العمر 23 عاماً. في ذلك الوقت، كانت فرنسا تحاول بشدة الحفاظ على سيطرتها على الهند الصينية، وتواجه في الوقت ذاته تمرداً جديداً في إمبراطوريتها، حيث بدأ الجزائريون، مثل الفيتناميين، بالمطالبة بالاستقلال. وحدثت أزمة السويس عام 1956، التي كانت بمثابة إخفاق آخر لباريس. بالنسبة لهنري كورييل ورفاقه، كانت هذه الأحداث أول فرصة لمناهضة الاستعمار، فوقفوا بحزم إلى جانب عبد الناصر، على الرغم من أن بعض رفاقهم كانوا في السجون المصرية. فقد فهم هؤلاء المناضلون أن الاستعمار، الذي تم تقديمه في القرن التاسع عشر كمساند لتحرر الشعوب، هو في الحقيقة شر مطلق.

أدرك الفرنسيون ذلك أيضاً وبدأوا في التعبئة ضد ما سُمي بـ"الأحداث"، على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، ورفض الفارون من التجنيد القتال في منطقة الأوراس، وإلى جانب أولئك الذين عُرفوا بـ"حاملي الحقائب"، اتحدوا مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية فيما سيُعرف بـ"شبكة جانسون"، نسبة إلى مؤسسها الفيلسوف فرانسيس جانسون. ولكن بعد عامين، تم اعتقال الأخير وضعفت الشبكة، بينما زادت الأهوال في الجزائر من تعذيب واغتيالات وحرق للكهوف وجرائم حرب أخرى.

حياة جويس بلو تشبه خرائط جغرافية تتجه دائماً نحو الشرق والبحر الأبيض المتوسط، مليئة بالعائلات والأصدقاء المتعددين، وتتخللها لحظات من الضحك والفكاهة الكامنة دائماً خلف المآسي

عرض هنري كورييل تولي المسؤولية بعد اعتقال جانسون. كانت من المهام الأساسية للشبكة تحويل الأموال التي يتم جمعها في فرنسا من المتعاطفين مع جبهة التحرير الوطني إلى حسابات المناضلين الجزائريين. ولكن كورييل، بصفته ابن مدير مصرف، قام بتغيير النظام، مما جعل الحقائب المليئة بالأوراق النقدية تختفي لصالح التحويلات المصرفية السرية.

كانت جويس من ضمن الذين ساعدوا في تهريب الأموال والوثائق السياسية. حتى أكتوبر/تشرين الأول 1960، عندما تم القبض عليها في مدينة فانف (جنوب باريس) ونُقلت على الفور إلى مقر إدارة الأمن الوطني الفرنسية. لا يزال المحققون يتساءلون عما حدث لهم في ذلك اليوم الذي أرادوا فيه استجواب شابة نحيلة تبلغ من العمر 28 عاماً، كانت آنذاك طالبة لغات شرقية.

في كتابه عن حياة هنري كورييل ("هنري كورييل، رجل من نسيج خاص")، وصف جيل بيرو مشهداً بارزاً من التحقيقات مع جويس بلو، قائلاً:

"جويس بلو ظاهرة تتجاوز وصفها وتفسيرها حدود فن الكتابة. عند وصولها إلى مقر التحقيقات في سوسي (التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية)، قدمت نفسها على أنها معلمة أطفال قادمة من بلدة فانف. كانت ترتجف بشدة، لدرجة أن أحد ضباط الشرطة تعاطف معها وأحضر لها جهاز تدفئة صغير، معتقداً أنها تشعر بالبرد. سألوها: "أين ويليام؟"، وكان "ويليام" الاسم الحركي لهنري كورييل. فبدأت تصيح وتصرخ بأعلى صوتها، ما جعل الضباط الثلاثة يفقدون صبرهم ورباطة جأشهم. صاح أحدهم: "حذار! لا تجعلينا نضربك! سوف نصفعك!". لكنها لم تتوقف، بل زادت من صراخها وتحولت إلى حالة هستيرية، تنادي والدتها بصوت حادّ جدّاً لساعات طويلة. في الساعة الرابعة صباحاً، نفذ صبر المحققين، فوضعوها في سيارة وأعادوها إلى قسم شرطة فانف".

في اليوم التالي، أُمرت إدارة الأمن الوطني بإصلاح الخطأ الفادح والعودة إلى فانف لاستئناف التحقيق معها. لكن جويس كانت قد تمكنت من الهرب، بعد أن تنكرت في زي امرأة برجوازية عجوز. عبرت الحدود الألمانية ووصلت إلى بلجيكا، حيث وجدت أختها الصغيرة. وفي الوقت نفسه، تم القبض على هنري كورييل في باريس، وإرساله إلى سجن فران. شعرت جويس باليأس، متأكدة من أن هنري سيتعرض للتعذيب هناك.


ولإنقاذه من هذا المصير الرهيب، شرعت من غرفتها في بروكسل في دراسة صور جوية للسجن الفرنسي، واستفسرت عن شروط تعلم قيادة طائرة هليكوبتر واستئجار. لكنها لم تستطع المضي قدماً في خطتها. فبعد أن تم إعلامه بما تنوي جويس فعله، قام هنري كورييل بثنيها عن تطبيق مخططها، ليس بسبب خطورة العملية، فهو يعلم أن الحجة عديمة الفائدة، بل أخبرها بأنه يشعر بنفسه وكأنه في البيت وليس في السجن، حيث يعطي دروسًا في الماركسية وينظم التضامن مع المعتقلين الجزائريين. هكذا فشلت خطة الهروب. كم كنا نود أن نرى صورة جويس وهي تحط في ساحة سجن فران.

لم تستسلم للكآبة، بل التحقت جويس بجامعة بروكسل كباحثة، وأتقنت دراستها للغة والحضارة الكردية. قدمت بحثاً مهماً عن القضية الكردية، جمع بين التحليل الاجتماعي والتاريخي، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في حياتها مليئة بالبحث الأكاديمي والنضال الثقافي.

من الجانب الكردستاني

عادت جويس بلو إلى فرنسا في عام 1966 وقدمت أطروحتها بعنوان "اللهجة الكردية للعمادية وجبل سنجار" تحت إشراف الأستاذ جيلبار لازارد. ونشرت بعدها عشرات المقالات حول المسألة الكردية. وفي عام 1970، وبعد تقاعد أستاذها كامران علي بدير خان، تولت جويس منصب تدريس في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية ("إينالكو" اليوم)، وأصبحت تشغل كرسي اللغة والحضارة الكردية.

كان الطلاب يشعرون بسعادة في حضور محاضراتها، حتى أولئك الذين التحقوا بها دون أي معرفة مسبقة بالثقافة الكردية. وفي بداية الثمانينيات، كان طلاب القسم الكردي ينقسمون إلى ثلاث فئات: ثلث من الشباب من الشتات الكردي، وثلث من الطلبة الفرنسيين الضائعين، وثلث من الأشخاص الذين يرتدون ملابس رسمية، والذين كانوا من الوارد جدًّ ينتمون إلى أجهزة استخباراتية. لكنهم لم يكونوا يحضرون لمراقبتها، كما كان يمكن أن نخشاه. بل كانوا يتابعون محاضراتها بشغف، ويدونون الملاحظات بشكل محموم، ويكافحون لطرح الأسئلة عليها. كانت جويس تقول وهي تضحك: "نِعم الطلبة!"

سافرت جويس حول العالم لحضور المؤتمرات، وذات مرة كانت في طريقها إلى موسكو. في تلك الفترة، كان الاتحاد السوفييتي في عهد ليونيد بريجنيف يحتضن أكبر عدد من علماء الأكراد. كان هنري كورييل فخوراً وسعيداً بهذه الرحلة إلى بلد الشيوعية، وطلب منها معروفاً: أن تلتقي بأحد أقاربه الذي استضافته عائلته في القاهرة من عام 1936 إلى عام 1939، وهو الآن يقيم في موسكو.

في ذلك الزمن، كان هنري كورييل يميل أكثر إلى السهر في النوادي الليلية من الحفاظ على العلاقات الأسرية، ولم يهتم كثيراً بقريبه المراهق. مرّت السنوات، وأصبح جورج بيهار الشاب معروفاً باسم جورج بليك، أحد أشهر العملاء المزدوجين في الحرب الباردة، والذي هرب في عام 1966 بطريقة مدهشة من أحد أكثر السجون الإنكليزية حراسة، بعدما حُكم عليه بالسجن لمدة 42 عاماً. شعر هنري بالفخر والسعادة تجاه قريبه الذي أصبح أسطورة في عالم التجسس.

عندما وصلت جويس بلو إلى موسكو، طلبت ممن كانوا في استقبالها في مطار شيريميتيفو لقاء جورج بليك. ولكن بمجرد ذكر اسمه، تم نقلها إلى أقرب مركز شرطة، حيث استجوبها عملاء المخابرات الروسية بشدة، فناورت قائلة: "بشرفي، لم أكن أعلم أن ذلك سيسبب مشكلة!" في النهاية، لم يتمكن المحققون من الوصول إلى شيء واستسلموا، فنقلوها إلى مؤتمر علم الأكراد في جامعة لومونوسوف، وعبرت بها السيارة موسكو على وقع صفارات الإنذار والأضواء الساطعة.

دورها في دعم النضال السياسي

إلى جانب مسيرتها الأكاديمية، كانت جويس داعمة قوية لنضال هنري كورييل في منظمة "تضامن" (Solidarité)، ومجموعة روما (تنظيم كان يجمع الرفاق المصريين)، وساعدت أيضاً في دعم "حاملي الحقائب" التابعين لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان يقوده نيلسون مانديلا، وكانوا من البيض المناهضين للأبارتايد، فضلاً عن الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في التفاوض نحو السلام. فقد لعبت جويس دوراً حاسماً لتنظيم الاجتماعات بين الجنرال الإسرائيلي ماتيتياهو بيليد، "بطل" حرب يونيو/حزيران 1967، والدكتور عصام السرطاوي، العضو البارز في منظمة التحرير الفلسطينية والمقرب من ياسر عرفات.

في 4 مايو/أيار 1978، تم اغتيال هنري كورييل على يد مرتزقة، كانوا أعضاء سابقين في منظمة الجيش السري (المناهضة لاستقلال الجزائر)، وقد عُرفوا بأنهم المنفذون للأعمال القذرة لصالح الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان. رغم حزنها العميق، نهضت جويس بلو من محنتها ووضعت نفسها في خدمة الفنانين ماريا أمارال وجان فيليب إلانكوفسكي، الذين تسلموا قيادة منظمة "تضامن" بعد كورييل. وعلى مدار 50 عاماً تقريباً، ساندت جويس عائلة كورييل في نضالهم لإعادة فتح التحقيق في قضية مقتله، والذي لا يزال مفتوحاً حتى يومنا هذا.

لم يكن لديها أطفال، لكنها كانت بمثابة الأم والجدة لكل من طلب منها ذلك. عاشت حياتها كامرأة محبة بحرية كاملة، في شكل من أشكال "الزواج الأحادي المتتالي"، وهو مفهوم أطلقته الكاتبة الثورية ألكسندرا كولونتاي. برفقة رفيقها الأخير روبي غرونسبان، كانت تطل من شرفة شقتهما على محطتي قطار الشرق والشمال في باريس، وظلت تتردد على المعهد الكردي في شارع لافاييت بانتظام. قبل ثلاثة أسابيع من وفاتها، منعها المرض من الذهاب إلى عملها، الذي كانت تلتزم به يومياً رغم عمرها البالغ 92 عاماً. كان مكتبها الصغير يقع فوق درج حاد في الطابق الثاني من المعهد الكردي.

وفاة جويس وتكريمها العالمي

عندما أُعلن عن وفاتها، تدفقت موجات من التكريم على وسائل التواصل الاجتماعي من الأكراد من جميع أنحاء العالم، سيما من كردستان العراق، حيث أشاد بها الرئيس نيجيرفان بارزاني قائلاً:

"كانت جويس بلو صديقة للأكراد، كاتبة وخبيرة في اللغة والأدب الكردي. لقد أمضت حياتها في دعم الشعب الكردي وخدمة لغته وثقافته. بفضل أفعالها وصداقتها الدائمة، ستبقى في قلوبنا إلى الأبد. لروحها السلام ودامت ذكراها".

هناك مكتبة تحمل اسمها في المعهد الفرنسي للشرق الأوسط في أربيل، كردستان العراق.

في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دخلت سارة، أختها الصغيرة، إلى المستشفى في بروكسل، وتوفيت في نفس اليوم الذي توفيت فيه أختها الكبرى. وفي يوم الخميس 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024، غادرت جويس بلو بهدوء، محاطة بأحفادها المحبوبين ليونيل وإلسا وكليمان جريش، بعد أن سحرت كل من عرفها.. "بشرفي!"


[تنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية موقع أوريان 21].