[خالد حسين، ناقد سوري].
فسحة
هذا هو شأن التجاذُب بين العَالم والسّرد! علاقةٌ تضربُ بجذور كينونتها في المسالك العميقة للفكر كما يقول بول ريكور إذا كانت الحياة جديرة بأن تُعاشَ وتُروى؛ فإنَّ القصصَ جديرةٌ كذلك بأن تُروى وتُعاشَ[1]. في هذه الشّذرة بضفيرتيها ينهض الاشتراط مُقَدَّماً؛ إذ لا يمكن للحياة أن تُروى، أن تسكنَ اللغةَ، أن تخدشَ صمتَ اللغة، أن تغدو في قبضة العلامة إلا أن تُدْمَغَ بصرخةِ المعايشة، فالسَّرد حكايةً، قصةً، روايةً، خبراً...إلخ لا يتأسّس تخييلاً بمنأى عن امتحان الحياة عيشاً. بيد أنه، وإذ يدعُ له أثراً، جرحاً في جسد اللغة، يغدو عالماً سيميائياً يفتتحُ سُبلاً للعيش مع الذات والآخر، إمكانياتٍ لتشييد التواصل والرؤية وفهم معضلة الوجود في ــ العالم ــ ومعه.
بين العالم (الحياة) والسَّرد، في صراعهما، في هذه الاشتباكات التي لا تتعطّل عن الظهور يحضرُ العالمُ في تضاريس اللغة، تتقدّم الحياة في أشكال متنوعة من القصص، تتخثر فيها شؤونها بتحولاتها وأسرارها وتواريخها، وأمكنتها وأزمنتها وحيواتها.
ضمن لعبة الجدال المستمر بين العَالم والسَّرد يأتي عملُ الروائي جان دوست، الموسوم "مجنون سلمى: سيرة متخيلة لشاعر حقيقي"[2] في محاولة حثيثة، واعتماداً على سجلات تاريخية وحكايات ميثولوجية جرى تداولها ويجري في ثقافةٍ شفوية محفوفة بقلق النسيان والتبخر، لاختراع سيرة متخيلة لشاعر حقيقي. هذا الاختراع تحديداً، بتقطيب مِزَق الحكايات المتوارثة عن الشاعر ملا أحمد الجزري (1570ــ 1640م) في السياق التاريخي لحياته، يلجُ في ألعاب الأدب السّردي للانتقال من كاوس الحياة بزمكانها إلى نسقٍ سيميائيٍّ متماسك بمقتضاه يجري إنقاذ عالم برمته وإيداعه عالم الكتابة بديلاً عن الثقافة الشفوية التي تلاشى معها الكثير من تجليات الكينونة الكردية إلا في النزر اليسير منها.
هذه المحاولة السردية المثيرة والمتقنة والمجسدة لألم عميق عن حياة الشاعر الكردي الشهير بوصفها سيرةً روائية متخيلةً تقع في القلب من انشغالات الروائي جان دوست وأقصدُ على وجه التحديد اختراع سردياتٍ لشخصيات وأحداث كردية كادت تتلاشى مع الزمن أو لم يبق منها إلا بقع متناثرة في أرخبيل الذاكرة الكردية المحاصرة بثقافات متنوعة وسلطات فاشية قلَّ نظيرها عداوةً وحقداً. لنتحرك على محيط النص أولاً:
أ. محيط الخطاب
ما أن نطأ مشارف أرض المجنون حتى تتلقّفنا تخوم السّرد حيث تتهكيل هذه السيرة الروائية بمحيط الخطاب، إذ يعمل هذا المحيط النصيُّ على تشييد التخوم الجغرافية للخطاب على أنه فعلٌ سيميائيٌّ يضمن له، للخطاب هوية، تمفصلاً، إشارات توجيهية للقارىء بما ينطوي عليه من موازيات نصية (العنونة، الإهداء، توطئة، ملاحظة، الهوامش المتعددة)؛ فهي تقدّم دعماً غير محدودٍ لفعل القراءة ومدى تقدّمها في تضاريس النص. وهي في حالة رواية "مجنون سلمى" شظايا نصية ثرية يمكن لها توجيه العمليات الإدراكية للفهم والتأويل النصي.
-
العنوان والشظية التوضيحية
من الواضح أن العنوان الرئيسي[3] رفقة الشظية التفسيرية (مجنون سلمى: سيرة متخيلة لشاعر حقيقي)، علاوة على العلامة الأجناسية (رواية) يدفعُ بنا للتحرك نحو مواجهة نصٍّ روائيٍّ في الصميم وليس بالعمل السيري، وهو العمل الذي يقتضي إجراءً مغايراً في الفعل النقدي كما هو معهود. ومن ثمَّ فإنّ بياناً من قبيل (سيرة متخيلة لشاعر حقيقي)، تضعنا في واقع القراءة إزاء ثنائية (التخيّل/ الحقيقة)؛ بمعنى مواجهة الحقيقة (شاعر حقيقي) مع لعبة الخيال وشباكها (سيرة متخيلة). إنّ الأمر يتعلق بـ "الحدث الحقيقيّ"َ الذي افتقد في ظلّ الثقافة الشفوية إلى تاريخ مدوّن، (أو إلى سيرة ذاتية كتبها الشاعر بنفسه أو شخص آخر) وهو/ وهي ما لم يتجسّد/ تتجسّد مطلقاً في حالة الشاعر الكردي الشهير، الذي يفتقد إلى هذه السيرة. ومن هنا مشروعية هذا العمل المتخيَّل الذي أنجزه جان دوست: أن يكون ثمة سيرة للشاعر حتى وإن كانت "متخيَّلة"!
بهذا الضرب من التصريح الذي يمنح العنوان الرئيسي مشروعية الوجود لم يعد العمل يقع على ضفة "الحقيقة" وحدها أو قريباً منها زعماً [كأن يكون سيرة ذاتية أو موضوعية] أو جهة "التخيُّل" بذاتها، وإنما امتزاج، بامتداد الحقيقي، التاريخي في أرض الخيال، استدراج للعالم، للأحداث والكائنات في مصهر الخيال على نحو سيميائي حيث تتضاعف حقيقة العمل ونصاعته في سياق تقطيب المرئي باللامرئي، باختراعه وإسكانه في حيز تحت مسمّى "مجنون سلمى" روايةً. هنا على وجه التحديد ينهض الأدب عموماً والسرد خصوصاً في أرض "الاستحالة الممكنة أو إمكانية الاستحالة"[4]، هذا هو القانون الذي يتحكّم بصناعة العلامة الأدبية في تضاعف الوجود الحقيقي للشيء وفي الوقت ذاته استحالته.
لا ريب أن صياغة العنوان الرئيسي وفق تركيب إضافي لا يخرج عن الإطار المتعارف عليه في صياغة الكثير من كائنات العنونة الأدبية وغيرها، وفي الوقت ذاته احتذى عنواناً متداولاً وشائعاً في الثقافة العربية الشعرية "مجنون ليلى"، لكن ما الذي دفع الروائي إلى اختيار هذه التسمية التقليدية، وهو على معرفة عميقة بشؤون هذه التسمية؟ ربما المرء لا يحتاج إلى المضي بعيداً إلى القول إن اختيار الشَّاعر لاسم "سلمى" كنايةً عن معشوقته، الأميرة [ستيا بسك كَسْكْ Sitya bisk kesk] مغبةَ بطش السلطة به آنئذٍ هو الذي أشاع هذه التسمية للشاعر تاريخياً في الفضاءات الكردية وفرض سطوته على الرّوائي؛ ليحضر بقوةٍ لعنونة الرواية بهذه التسمية.
لكن ماذا لو جازفنا قليلاً في تحريك العنوان (مجنون سلمى) سيميائياً؟ في الواقع يعنُّ للعاشقـ/ة، وهو على دراية، أن يقول "أنا مجنون"!، هذا الإدراك يعطّل فكرة الجنون ذاتها ويكبح العاشق (المجنون حباً) من الوصول إلى جنونه المبتغى، يمنعه من الوصول إلى "سعادة اللاوعي"، العالم الآخر المبني على التواصل مع "الخارق والمقدس" وفق المنطق المغاير، الذي يعيشه المجنون، فجنون العاشق/ة من ولع الحب وشدته وكثافته ليس إلا ضرباً من المجاز، جنون سطحي، غير مرئي، كما يقول رولان بارت، فالعاشق يعي جنونه أولاً وأخيراً " أنا مجنون حباً، لا لأنني قادر على قول ذلك، بل لأني أجعل من صورتي صورتين: أحمق في نظر نفسي (أعرف هذياني) وغير عقلاني في نظر الآخرين الذين أحكي لهم جنوني في حكمة بالغة: أعي هذ الجنون وأتكلم عنه"[5]، فالعاشق يدرك سطحية الادعاء بالجنون؛ لأنه لن يصل إلى تفكك الذات حيث يصل إليه المجنون ويتوه هناك.
-
الإهداء، التوطئة، العلامة الشعرية
في خطوةٍ أُخرى ضمن هذه الشّظايا النَّصيّة يأتي خطابُ "الإهداء"، الذي غالباً ما يفتح ممراً نحو جسد النص، يمهّد الطريق إليه؛ لا ليكون شذرة عرضية، بل بعضاً من النص ذاته:
[إلى أمي "عزيزة" التي سردت لي عن هذا الشَّاعر حكايات أقرب
إلى الخرافة وروت لي بعض أشعاره العذبة.
إلى زين
لا يكون الحبُّ حباً إن لم يكن فيه قبس من الجنون.]
يفاجئنا الإهداءُ، في منعطف أول، إلى الأم على أنها منبعٌ من منابع الرّواية ذاتها في طورها البدائي من التشكيل، فسواء كان ثمة تصميم على كتابة هذه السّيرة من عدمه، فالحكايات الخرافية عن الشَّاعر والأشعار العذبة له، التي تلقاها الروائيُّ بدايةً، بوصفها الأغبرة والزوابع الأولى حركةً في بناء النواة النووية للرواية، تدخل ضمن إطار "الوعد المرتقب"، الوعد بالإنجاز. ولذلك فالإهداء لم يكن طارئاً بقدر ما كان ضرباً من الامتنان العميق للأم بعد إنجاز الوعد كتابةً.
وفي المنعطف الآخر حيث الإهداء إلى (زِيْنْ) يحضر "الحبُّ في جنونه" بوصفه الثيمة الرئيسة للنّصِّ الرّوائي، بل إنَّ الإهداء يشي بحالة الاكتمال للرواية ثيمةً وعنواناً، كما لو أنّ الروائيَّ قد كثّف الرّواية برمّتها في هذه الشظية معلناً هاكموها: [لا يكون الحبُّ حباً إنْ لم يكن فيه قبس من الجنون]، فالاشتراط في الحبّ ليكون حباً، حدثاً فريداً، قابلاً للديمومة، جرحاً في جسد الزمن ينبغي أن يُقبس ناره من الجنون، أن يشتعل جنوناً، أن يُمطر هذياناً حتى يستحق الإقامة في حقل الاختلاف، أي أن يحوز على كينونةٍ مغايرة وهي الخاصية التي توسم العشق في "مجنون سلمى"، كما لو أنَّ الروائي في الضفيرة الثانية من إهدائه يتخذ من عشق الجزري للأميرة سلمى معياراً لوهج الحب وعمقه واستمراره، فديمومة الحب مرهونة بقبسات الجنون التي تضطرم فيه.
يوسّع الرّوائي من محيط الخطاب الروائي عن طريق معبر "التوطئة"، ليمنح القارىء منطقة استراتيجية للتأويل يمكنه أن يتموضع فيها للإحاطة ببنية النص الروائي، الذي يتشكل وفق توطئة الروائي من كتاب "مقامات الحب": (موزّع على ثلاثة مقامات) وحاشية (مجنون سلمى)، لكن الروائي يستدرك في نهاية التوطئة (لكن الحاشية ضاعت في خضم الحرب التي كانت تجري بالقرب من ضريح الشاعر عام 2015 حين كان المؤلِّف يدوّن روايته هذه فلم يجد بداً من تضمين وقائع الحاشية المفقودة في متن الكتاب متكئاً على ذاكرته الواهنة وخياله الواسع)، بهذا الصنيع؛ فالكاتب يطيح بالبنية المتعارف عليها في صناعة الكتاب باستقلالية كل من المتن والهامش أو الحاشية (جوانب الكتاب حيث تنقش فيه إيضاحات وزيادات من قبل المؤلف أو المحقق أو القارىء) عن بعضهما بعضاً، لتغدو الحاشية جزءاً من المتن، أي بانتقال المهمّش إلى المركز أو رفع الفاصل بين المتن وحاشيته، ليفترع كل منهما الآخرَ ويتعطّل المفهوم التقليدي للكتاب لصالح مفهوم "الكتابة" ذاتها، الكتابة بوصفها عالماً سيميائياً مفتوحاً، تقتحم العالم، تتدفق فيه الحاشية صوب المتن وتقوض من هيمنته، ليكتسب الكتاب برمته عنوان الحاشية المفقودة في خضمّ الحرب (مجنون سلمى). هكذا تسترجع الحاشية كينتوتها في التحكم بالكتاب والقارىء بوساطة هذا العنوان بوصفه "الثريا" التي تضيء ردهات النّص وممراته.
من منعطف ثالثٍ؛ فالحاشية المفقودة تشير وفق التوطئة إلى خلفيتين اثنتين في المشهد الروائي؛ فالأولى متمثلة بالسيرة المتخيلة للشاعر العاشق أحمد الجزري، التي بُنيت من "جمعٍ لشتاتٍ" ومزقٍ وخُرافاتٍ وأَغْبرةٍ وروايات في الثقافة الشفاهية لم تخلُ من تلفيقات عن الشاعر. والثانية تتمثل بحديث العاشقة (الأميرة سلمى) عن عودتها إلى ديارها بعد سنوات طويلة بعد إنجاب بنات وبنين. إنَّ الروائيَّ يصفُ عمله في بَنْيَنَةِ هذه الرّواية على أنه "جمع شتات"! لاريب أنّ الرواية في أصلها وفصلها قائمة على الجمع، جمع الحكايات والأخبار، ولكن بإخضاعها إلى منطق الخيال الروائي أو القوة القائمة بالتخيّل وفق منطق الفن واختراع برامج سردية ضمن نسيجٍ من التماسك والانسجام على خلفية تاريخية مخترعة وهبت هذا العمل الروائي الكثير من سبل النجاح ضمن إطار "الحقيقة الروائية"، التي تحتضن معالجة الوعي الروائي لجملة المكوّنات المتوفرة والمتباعدة، بل تقويضها وخضّها والدفع بها إلى بنية مغايرة تقوم على تحيين ما حدث وما جرى في زمكانٍ محددٍ كما لو أنه يجري الآن ويحدث. من هنا تتبدّى قوة العمل الروائي عموماً و"مجنون سلمى" قيد الدراسة راهناً.
كذلك يدرج الكاتب ضمن نصوص دائرة المحيط النصي ـ "ملاحظةٍ نصية" عن المصدر المعتمد للمعلومات التاريخية بجزيرة بوطان؛ إذ يشير الروائي إلى الاقتباس "من كتاب شرفنامه للمؤرخ والأمير شرفخان بدليسي المعاصر لبطل الرواية"، وهي ملاحظة مفادها أن العمل الروائي ضرب من البحث والسفر والترحال في تضاريس الكتب وبخاصةٍ أنَّ رواية "مجنون سلمى" ستغدو حدثاً عارضاً لولا بناء الأرضية التاريخية وموضعة "واقعة الحبّ" في القلب من سياق الأحداث والمؤامرات والحروب والتحالفات والأحقاد والأشرار والأخيار والزج بالقارىء في خضمّ مشهد تاريخي مخترع بشباك الخيال الروائي وألعابه في الإيهام ليكون أقرب إلى المشهد التاريخي وأشد كثافة منه في واقع الكتابة التاريخية. وأخيراً ينهي الكاتب المحيط النصي ببيت شعري للجزري:
وقلبي حيث فيه الحبُّ مصباحٌ بمشكاةِ
ويعلو موكبَ العشاق أعلامي وراياتي
لا مندوحةَ لنا من القول إنَّ جمالياتِ الكلمة الشّعرية تؤدّي حضورها الكثيف هنا في خطوةٍ أولى وفي ثانيتهما؛ فإنّ البيت الشّعري يومىء بشكلٍ استعاري إلى قوة الحبّ وتجذّره، قبس الجنون الذي يضيء القلب وينقله من حال إلى حال، ومن شأن إلى آخر، وهو الحبُّ الذي استحق الشاعر بمقتضاه لقب "مجنون سلمى". لكن البيت الشعري يمضي أبعد من ذلك ليغدو هذا الحب علامة على الخلود والديمومة، فما أعلام الشاعر وراياته سوى قصائده التي يتغنّى بها العشاق، فالأمر هنا يتعلق بالحضور الخالد للشاعر من خلال العلامات التي تركها أو سيتركها منقوشةً في ذاكرة الأدب، ولولا ذلك لما كانت هذه الرّواية، التي تستمدّ مشروعيتها من هذه المكانة التي يحوزها الشَّاعر في تاريخ الشِّعر الكردي.
ب. السّرد والقوى الفاعلة ثباتاً وحركةً:
يتأسّس الفعل الروائي في (مجنون سلمى)، كما أشرنا في محيط الخطاب، ويشتغل بقواه الفاعلة من قوى رئيسة وثانوية، مساعدة ومعارضة، في تضاريس متداخلة، مقامات[6] ثلاثة استقاها الشاعر من معجم التصوف في محاولة وفاءٍ للشّاعر ذي المنزع الصّوفي الجزيري. ولاريب أن القارىء لن تخونه ملاحظةُ أنَّ الحدثَ الروائيَّ المتبأّر حول "مشهد الحبّ" أولاً وأخيراً، لا ينفصلُ عن "المشهد السّياسي"، معركة الحب توازياً (أو تكافؤاً) للصراع السياسي، سواء تعلّق الأمر بالصراع المستمر بين الصفويين والعثمانيين أو الصراع الكردي ــ الكردي المستعر على جزيرة "بوطان". في خضمّ هذين المشهدين تتلامح حدود هذه الرواية وتستوي، لنكون إزاء أسئلة السرد والحب والصراع السياسي. بهذا المنظور سوف يتغلغل السرد النقدي في تضاريس النص.
-
سيمياء الشُّرب
يمكن تكثيف المقام الأول، "مقام الشّرب"، بأحداثٍ ثلاثة تقوم على انطفاء عالم قديم وبزوغ عالم جديد، مقامٌ يمكن تكثيفه بمحور ثلاثي العلامة: ["موت أمير، ولادة شاعر"[7] وانبثاق الحبّ]. مع العلامة الأولى تخمد الحياة في جسد أمير خَرِفٍ (بدر بك) وهو يحتفظ بكرة خضراء من الحشيش بين إصبعيه، ليعتلي ابنه الثري (محمد بك) الحكم لكن سرعانَ ما ينفتحُ مشهد السُّلطة على قوى متصارعة ومؤامرات ضمن الأسرة الحاكمة. يمضي الصّراع الدموي بأمير ويأتي بجديد. هكذا بموت أمير يشهد العالم الروائي في (مجنون سلمى) "ولادة شاعر"، الشّاعر المرتقب الذي سوف يضيء تاريخ الشّعر الكردي أسوة بشعراء الأمم الأخرى، الشاعر الذي سيفتح ممراً للسان الكردي أن يومض بقصائد في سمو العشق، في جمال الأميرة سلمى، المعشوقة المرتقبة.
ينزلق الشاعر االقادم "أحمد" إلى أرض بوطان إثر مخاض عسير، ثم تُفصل صرته بالقلم "بالقلم. بهذا القلم يا أختي(القابلة). عسى أن يجعله الله من أهل القلم"، هذا المصير سيدفع أحمد أن "يأخذ الكتابَ بقوةٍ"، بعد أن يدخل إلى المدرسة الحمراء في المدينة وينهل من علومها. وبتوفُّر هذه الكفاءة أو الطاقة الكامنة (الموهبة والعلم) ينبثق الشاعرُ في جسد أحمد الجزري. لكنّ هذه الكفاءة الكامنة ستنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل مع "انبثاق الحب"، الثيمة التي تحدّدُ المسار أو البرنامج السّردي لشخصية الشّاعر، فهو لن يكون شاعراً إلا بهذا الحب المرتقب، الحبّ المستحيل الذي سيقدح هذه "الشاعرية الكامنة لدى الفتى. لكن كيف يتحرّك المسار السّردي لهذا الحبّ؟
في المدرسة الحمراء حيث يتابع علومه، وفي الممر إلى الحبّ ينتفض أحمد من حلمين، إثر حمّى ألمّت به، حلمين ينذران بحدثٍ يلوح في الطريق:
[رأيت في الحلم أن قلبي يسقط من صدري ويتدحرج من أعلى الهضبة، كنت واقفاً هناك، فجريت وراءه. تدحرج مثل أرنب مذعور، وحاولت، مثل سلوقي ذي دُرْبةٍ، اللحاق به بكل ما أوتيت ساقاي من همة وسرعة في الجري. لكن قلبي المشتعلَ هوى في وادٍ سحيق ولم أتمكن من استعادته بعد أن تناثر إلى قطع صغيرة. قلت لنفسي وأنا أقف ذاهلاً على حافة الهاوية: كيف سأعيش الآن بلا قلب؟ (...)
"كانت قد انفتحت طاقة صغيرة في صدري. وحين أمعنت النظر رأيت كتاباً أنيقاً داخلها. مددت يدي إلى الفراغ الذي كان على شكل طاقة في صدري وأخرجت الكتاب وقرأته. كان ديوان شعر].
إن الحلم علامة، إشارة لما سيحدث، ويتلو من أحداث؛ فالانفصال بين القلب ومستقره، قلب يغادر مستقره في الجسد ويتحرّك نحو الخارج متناثراً إلى قطع صغيرة، فهذه هي إشارة إلى أن "الذات" لم تعد، هنا، تكتفي بذاتها، فهي في طور التخارج، طور التفكيك عن طريق الاتصال، فسقوط القلب وتدحرجه ليس سوى إعلام باتصال مرتقب والاحتياج إلى الآخر الذي يتشفّر هنا في "واد سحيق" ترميزاً للأنثى. إنّ تناثر القلب إلى قطع صغيرة يشير إلى حضور الآخر، إلى كون الذات في منعطف الاستضافة، إلى تفتُّت الذات وانفصالها عن وحدتها وعزلتها. وبناء على ذلك ثمة "إمكانية"، إمكانية غرام، كما يذهب جان لوك ماريون، لإحداث ثغرة في الذات بخلاف ما هي عليه، مختلفة في المستقبل، أن تكونَ في نمط مغاير يقوّض من يقينها السّابق على إمكانية الحب[8].
أما من منعطفٍ آخر فالحلمُ في نهايته ينبىء بتحوّلٍ آخر يعتري الفاعل الأساسي(أحمد) وهو يتمثّل بـ"ديوان الشّعر" الذي أخرجه من طاقةٍ انفتحت في الصدر. هكذا بتناثر "القلب" حيناً (حيث الآخر القادم أو الآخر في طريقه إلى الحضور للإقامة في الذات وإنهاء نقائها)، ثم "ديوان الشعر" حيناً آخر (حيث إمكانية التعبير عن اللامرئي أو اللغة السامية) تكتمل الكفاءة العاطفية والشّعرية؛ ليستمر الحلم الثاني بوصفه تتمةً للحلم الأول حيث غزالةٌ تطاردُ أسداً بخلاف المنطق السّائد في الطبيعة إلا نادراً ليتحوّل الحلمُ إلى واقع فعليّ في الحقيقة الروائية: "حين استيقظت من الحلم، فوجئت بعينين تحدقان بي. هل قلت عينين؟ ما أضيق العبارة هنا! ما أعجز الكلام وما أصغر قواميس اللغة". هاتان العينان، عينا المعشوقة، العينان المستحيلتان في جمالهما، ضرب من التجلي الإلهي، نافذتان مفتوحتان على الجنة والملكوت الأعظم. إنهما عينا الأميرة سلمى (ابنة الأمير سيف الدين بن عبدال خان حاكم بلاد بوتان)، التي خرجت في زيارة معتادة للمدرسة الحمراء للوقوف على شؤونها مع لفيف من الوصيفات والفتيات، فتقعُ في عشق الفتى النائم جراء الحمّى في تجوالها، فتخطف منديله المذيّل بحرف من اسمه (الألف) وتمضي إلى قصرها وهي تحاور مرآتها "إنه الحب. لا شك في ذلك. ليس سوى الحب من يزلزل القلوب بهذا العنف. أنا متيمة. أنا ولهى. أنا الأميرة سلمى مغرمة بشاب لم أعرف حتى اسمه". على هذا النحو يمكن هيكلة الحلمين إلى حقيقة في الواقع الرّوائي حيث الوادي السّحيق والغزالة يمثلان (الأميرة سلمى) ليتمثّل الفتى أحمد بـ (الأسد المستغيث "تحت أظلاف الغزالة" وكتاب الشّعر). بهذا اللقاء يتناءى المشهد السياسي ليهيمن الحب بوصفه حدثاً فريداً على "مقام الشّرب"، فكلا العاشقين يرتشف من ينبوع الحب دون ارتواءٍ في البداية لكن هذا العشق المستحيل يتصدّع إثر رسالةٍ من الأميرة، كما لو أن الصّدع كان ماثلاً فيه، رسالة أشبه بطعنةٍ في القلب كما وصفها الفتى العاشق.
-
سيمياء السُّكْر
يظهر "المنديل" بشكلٍ مباغتٍ في نهايةِ مَقَام السُّكر وهو ما يوقع الشّاعر في حيرة، بل في مأزق!
سيمرُّ زمن طويل على زفاف الأميرة سلمى إلى وريث أمير "حصن كيف"، يندلعُ سعير الصّراع بين الأمراء على حكم الجزيرة ويشتدُّ أوار الحبّ في روح الشّاعر، الذي يطلق عليه لقب (مجنون سلمى) فلا يجد سوى "الشّعر" للتخفيف من وطأته بنصيحة من صديقه "محمد مكسي"، بتحويل ألم العشق إلى قصائد شعرية تضيء لواعج الحب في إيهاب كرديّ، شعرٌ باللغة ـ الأم أسوة أو بمواجهة شعراء الأمم الأخرى الذين كتبوا بلغاتهم القومية "من يحب فتاة من بني قومه، يكتب عنها قصائد بلغة بني قومه". هكذا ينصحه صديقه محمد مكسي، هكذا ينحاز إلى نظم الشعر بلغته ــ الأم على الرغم من تشاؤم أبيه من الكتابة بالكردية حيث تلفُّ الشفاهية المجتمعات الكردي على حساب التدوين ورصد أحداث التاريخ ووقائعه. وفي سياق نظم الشاعر للشعر بلغته ــ الأم سيعثر على كينونته كما هي واقعاً:
"أشاد الجميع بقدرتي على نظم الشعر الكُردي وتفوقي على كبار شعراء الفرس. شعرت بلذة كبيرة وأنا أنظم الأشعار بالكردية كانت لذة أ نستني آلامي. اعتراني شعور غريب وأنا أكتب بالكُردية، شعور يختلف كثيراً عن مشاعري أثناء كتابتي بالفارسية. مع القصائد الفارسية كنت أشعر أن شخصاً آخر ينفصل عني ويكتب ما هو صورة لمشاعري وليست مشاعري التي تدور في خلدي. شخص يشبهني في كل شيء إلا في اللغة. لكنني أثناء كتابة قصائدي بالكُردية كنت أنا".
يقول هايدغر "اللغة مأوى الكينونة"، والكتابة باللغة ـ الأم بالنسبة إلى الشَّاعر هي اكتشاف هذه الكينونة ذاتها وبذاتها وعلى حقيقتها، فكينونة ثقافة "ما" تتأسّس في اللغة الأولى التي تعدُّ هذا المأوى، هذا المنفذ الذي تطلُّ منه الكينونةُ على العالم، بل إنّ هذه اللغة الأولى هي التي تتيح إمكانية تفاعل الفرد مع اللغات الأخرى والتجاور مع الثقافات الأخرى. اللغة تمثّل إمكانية الوجود: ليس في ــ العالم ــ فقط ــ إنما ــ مع ـــ الآخر، وهي إمكانية الهوية الأولى التي تتعدّدُ لاحقاً.
إنّ اللغة ــ الأم هي التي تصوغ الكائن مكانياً، وزمانياً، وثقافياً، وإيقاعياً. ومن هنا قَلّما ينجحُ الشُّعراء في اللغات الأخرى شعراً، فالشعر، تحديداً من بين الممارسات الخطابية، الذي يعثر على جذوره وإيقاعاته وأسراره في اللغة الأولى للفرد. ولذلك؛ فالشعر، وتعاضداً مع الرقص، يمثّل الصّورة الأولى لتجلي كينونة ما، أي التصور الأولي للعالم في ثقافة ما. إنّ المسافة التي كان يشعر بها الشّاعر بين "ذاته" و"قصائده الفارسية" تمثّل إلى اللحظة الراهنة غربتنا، غربة الكاتب الكردي في اللغات الأخرى، حتى لو بلغ في إتقانها ذرىً عالية، فالغربة تمكث يقظةً في خطابه. ومن هنا؛ نجد أنَّ مسافة الغربة التي كانت تقع بين الشاعر وقصائده بالفارسية لم تُذَلَّل إلا بالعودة إلى اللغة ــ الأم (لكنني أثناء كتابة قصائدي بالكُردية كنت أنا)، لكن هذا لا يعني البتة أي انغلاق على الذات أو أي تطابق، فالتاريخ الثقافي للشعراء الكرد يكشف إلى مدى واسع جرى اختراق هذه الذات من الثقافات المجاورة وافتراعها لها في الوقت ذاته، لذا يمكننا تأويل القول، اعتماداً على مفهوم التناص الثقافي، بتخصيب الشّاعر ثقافته الشعرية بالثقافات الشّعرية الأخرى (شعر ابن الفارض، محي الدين بن عربي، الشعراء الفرس) وإنضاجها في أتون اللغة الكردية وإخضاعها، من ثمَّ، لأساليب الكردية وبلاغتها وتصاريفها، فلا يمكن استعادة هذا العشق بمكانه وزمانه ولواعجه إلا باللسان الكردي حينما تتوفر الموهبة والكفاءة القادرة لإنتاج الشّعر السّامي. وهو بهذا الانحياز للغته ــ الأم منح عشقه هويته الخاصة.
وبعودة الجزري إلى مسقط رأسه بعد حصوله على إجازته من ديار بكر وتعاظم صيته كشاعر وانتشار قصائده في أرجاء هضبة كردستان، يتخذه أمير الجزيرة (شرف بن عبدال بك بعد أن استتب الحكم) نديماً، ليتجاوز الشّاعرُ بذلك وصيةَ والده بنأي النفس عن الأمراء والإخلاص للعلم والكتاب. في هذا السياق سيستلم الشاعر في أحد الأماسي صُرةً [تنضوي على منديل حريري] من رسول الأمير علامةً على الدعوة إلى قلعة الأمير شرف لتسهيل الدخول، لكنه يتفاجأ بالمنديل ذاته، بمنديله الحريري الأبيض، الذي أخذته الأميرة سلمى يوماً ما وهو يحمل الآن حرفي الألف والسين! يتساءل الشاعر في حيرة: (لا شك أن الأميرة سلمى نقشت اسمها هنا. لكن لماذا تركت المنديل في القصر؟ وعند من بقي كل هذه المدة؟ وكيف وصل إلى الفارس؟) هكذا لم يعد المنديل مساحةً صغيرةً من القماش الأبيض وإنما بات في عداد لعبة العلامات السّيميائية الدالة على "الحب"، إذ مضى بالشاعر إلى أيام الحب الأولى وحلاوته، و"التهديد"، أي علامة منذرة، فمن جهة ربما أودعته الأميرة لدى هذا الفارس لإيصاله يوماً إلى صاحبه (كما وعدت الأميرة قبل زواجها) أو أن الأمير أَضْحى على درايةٍ بأمر ما جرى من أمر الحبّ، فأراد أن يكيد للشّاعر بمكيدة؟ لا يفصح مقام السُّكر عن أي إشارات من أمر المنديل سوى أنه أوقع الشاعر في الحيرة مأزقاً وضاعف من لواعج حبه للأميرة سلمى تذكُّراً، لتأتي الفسحة السّردية امتداداً تناصياً على صعيد الدلالة للبيت الشعري القديم ذي النفحة الصوفية، الذي يفتتح بواية المقام في ظلّ غياب المحبوب ومناجاته.
-
سيمياء الصحو
تنتهي جغرافية مجنون سلمى في (مقام الصحو) بهذا الحدّ المؤلم من خطابٍ طويلٍ للأميرة سلمى مع المرآة بعد معرفتها بموت أحمد:
[ضمدت الخادمة اللطيفة أصبعي الجريحة بالمنديل الحريري فتوقف النزف. سيشفى جرح أصبعي، لكن من سيداوي جرحاً قديماً في القلب، جرحاً عميقاً بدأ ينزف من جديد؟]
من المصادفة المباغتة بمكانٍ أن تتقاطعَ زيارة الأميرة سلمى إلى الجزيرة مع رحيل أحمد الجزري، الشاعر الذي طبقت شهرته آفاق الفضاء الكردي عصرئذٍ، الفتى الذي عشقته من أوّل نظرة، الفتى الذي كلفَ بها إلى أن سُمّي بـ"مجنون سلمى". صعق الخبر الأميرة وهي تردد [أواه يا أحمد أواه ماذا فعلت ياحبيب الصبا. ماذا فعلت بي؟ أرهقت قلبي بحبك وأنا صبية وها أنت ترهقه بموتك وأنا عجوز]. تتوجه الأميرة إلى غرفة الصبا لتلتقي بمرآتها التي أصابتها الخدوش وأصابها الميلان فما أن لمستها حتى سقطت وتشظت، فجرحتها إحدى الشظايا. تتفاجأ العاشقة بمنديلها كما تفاجأ حبيبُ الصبا به يوماً. وهنا كيف يمكن ضبط المسار السيميائي لهذا المنديل الذي يحمل اسمي العاشقين وعاد مرة أخرى إلى الأميرة كما تمنّى الشاعر الذي سلّم المنديل لسارا فلّه علا وعسى أن توصله إلى الأميرة في "حصن كيف" عن طريق ما؟
يعكس المشهد السّردي في مقام الصحو بروز قوتين متعارضتين في مجرى القوى الفاعلة للرواية، ثنائية على قدر كبير من التناقض (شمس الدين الفنكي الغريم اللدود للشاعر) و(الدرويش ولي نقشجان الذي سيصحّح للشاعر مفاهيم الحب والشعر، لينتقل بذلك من الحب الفاني إلى الحب المطلق، ومن الشعر الحسي إلى السامي وينسخ ديوان شعره وينقذه من الموت قبل إحراق الأمير للديوان الشعري)، هذا التعارض سرعان ما تنبثق نتائجه، فالغريم اللدود (الفنكي)، الذي سرق قصيدةً للشاعر ونال عليها هجائية حادّة منه، يزور الجزيرة ويفشي أسرار الحب بين الشاعر والأميرة سلمى، الأمر الذي سيدفع الأمير إلى نفي الشّاعر خارج الجزيرة واختفاء الصوفي نقشجان في ظروف غامضة من الجزيرة. بيد أن الشاعر سيعود مرةً أخرى إلى مسقط رأسه بعد موت الأمير شرف ويقضي ما تبقى من العمر في ربوع الجزيرة مع تلميذه فقه رسول الفارقيني إلى يوم الرحيل. وهنا تثار مرة أخرى معضلة المنديل، فالشاعر كان قد أودع المنديل لدى [سارا فلّه، العاملة في القصر الأميري] لإيصاله إلى الأميرة سلمى في "حصن كيف"، عن طريق انتداب امرأة لذلك. لكن (الخالة سارا) ترحل ليظلّ أمر إنجاز الوعد [لا تقلق واعتير أن المنديل عاد إلى صاحبته] طيّ المجهول:
في غضون الجرح الذي أصاب الأميرة، تنبري ممرضة من خادمات القصر لإخراج "منديل أبيض" من أحد الأدراج، الأمر الذي يصعق الأميرة:
[هل هذا حلم؟ إنه منديل أحمد. المنديل الحريري الذي غاب عني ونسسيته. المنديل الذي يحمل حرفي الألف والسين وآية "ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود". المنديل الذي نقشتُ عليه حرف اسمي الأول بجانب الألف ذات يوم.]
لا يكشف "مقام الصحو" عن أمر المرأة المنتدبة لإيصال المنديل أية أخبار، كما أن المنديل لم يصل لصاحبته وهي في "حصن كيف"، فمن أودع المنديل في أحد أدراج غرفة الأميرة في صباها؟ هل المرأة المشارة إليها، في حوار الشاعر والخالة سارا فلّه، هي تلك المرأة المسعفة، فاحتفظت بـ"منديل العشق" لديها لتسلّم "الوديعة" لصاحبتها في الوقت المناسب؟ مهما يكن الأمر؛ فالوعد الذي قطعته الخالة سارا فلّه جرى الوفاء به إنجازاً.
إنَّ المسارَ السّيميائيَّ المعقد للمنديل بعض الشيء يمنح للرواية جمالية اللغز الذي يدفع القارىء إلى البحث عن تأويل أو تآويل لمعضلة "المنديل"، الذي يبقى علامةً، أثراً على هذا العشق المستحيل، بل العلامة ــ الممثّل على عشق الشاعر بين يدي الأميرة أخيراً بعد ستين سنة من دوام اشتعال هذا العشق في ضفاف روح الشاعر ونسيان الأميرة له. هذه المرآة، هذا المنديل يستعيدان "الحب" في قلب الأميرة من الخمود والنسيان، العلامتان اللتان توقظ قلبها من الإهمال وتزجّان به في معترك اليقظة ومقام الصحو، يعيدان جرح الحب إلى طراوته لينزف من جديد.
ج. سيمياء الشِّعر والأشياء في تجربة العشق
يمثّل الحبُّ في "مجنون سلمى" بوصفه حدثاً فريداً وبصمةً في الرُّوح ذلك "الحب المستحيل"، وفي الوقت ذاته، الحب غير المتناهي، الذي يتجاوز زمنه تأريخاً، مقيماً أو مستقراً في الزمن الشعري، ليشغلَ التاريخَ الشعري برمته مستقبلئذٍ لدى الكرد. وهذا هو حال العشق المستحيل الذي صاغه الروائي جان دوست بمهارةٍ وبعدٍ شعري عميقٍ ليتساوق في سرده الروائي مع هذا الحب المستحيل الذي وقع بين الشّاعر أحمد الجزري في صباه والأميرة [ستيا بسك كَسْكْ] ويمنحه كينونةً مغايرة وجديدة.
لا يمكن بحال فصلُ هذا العشق المستحيل، هذه التجربة من الألم العميق عن الكلمة الشعرية، وأشياء من مثيل المنديل وصندوق الأسرار والمرآة، نظراً لأنَّ هذه الأشياء قد انتقلت من من حقل الحياد السيميائي إلى عالم الدلالة اختلافاً واختلافاً مرجئاً، إلى القلب من الفعل السيميائي تشفيراً وهو ما سوف نقترب منه هنا.
ما يلفت الانتباه أن القوتين الفاعلتين في المشهد الروائي (الشّاعر والأميرة) حيث كلُّ قوة من القوتين تتخذ من الثانية موضوعاً لها، ليشرع البرنامج السَّردي بالاشتغال في اتجاهين متكاملين في ظلّ الشّعرُ ونوره. تتحدث الأميرة عن سيرتها بالقول: [أحببت الشّعر وأولعت بعوالم الشعراء حتى استطعت أن أنظم بعض القصائد لكن الحياء يمنعني من البوح بها أو إنشادها (...). أحتفظ به في صندوق صغير من خشب البطم مرصع بالصدف وفصوص من الأحجار الكريمة وله قفل ناعم من الفضة جاءني هذا الصندوق هدية (...) لقد شئت لهذا الصندوق أن يصبح مستودعاً للشّعر وخلجات النفس (...)] هنا تحيّد الأميرة الصندوق عن وظيفته التداولية (حفظ أدوات الزينة)؛ ليكتسب وظيفةً مغايرةً، أن يكون مأوىً للكلام، للكلام العالي، مخبأً للشّعر، لتغدو قيمته من قيمة الشّعر من حيث إنَّ الكلمة الشعرية ليست بشيءٍ عارضٍ ومؤقت يتلاشى مع مرور الوقت وإنّما ذاك البعد الجوهري للكائن، البعد الأصيل والجمالي للوجود الإنساني الذي تدركه الأميرة بعمقٍ في حديثها، فالصندوق أضحى امتداداً لقلب الأميرة، المكان السري لحبّ الفتى أحمد ورسائله، وكما أنَّ قلبها انغلق على هذا الحبّ بعد رسالتها الأخيرة للفتى إثر قرار زواجها من وريث "حصن كيف"، كذلك يختفي أي ذكر للصندوق في السَّرد الرّوائي بخلافِ "المرآة ذات الإطار الآبنوسي"، التي تحضر بقوةٍ ككائن سيميائي بامتياز حتى نهاية الرواية، إذ هي بمنزلة الرفيقة الوفية للأميرة في حواراتها معها. تنتقلُ المرآةُ من غنيمةِ حَرْبٍ إلى مقام هديةٍ من خال الأميرة إليها، ومن مجرد لوح صامت إلى صديقةٍ، إلى كائن مشارك في الحوار حيث تتكشّف للقارىء العوالم الداخلية للأميرة التي لا تثق حتى بوصيفاتها، فليس ثمة غير المرآة من تخبره بعشقها المباغت لها. تكشف الأميرةُ في غضون الثقة المتبادلة بينها وبين المرآة عن فحوى رسالة الحب الأولى من أحمد:
[أنت فضولية مثلي أيتها المرآة، تريدين معرفة ما الذي كتبه لي أحمد هذا الشاب المتيم بي، أليس كذلك؟ بلى أنت متلهفة لسماع ما ورد في الرسالة. سأخبرك إذن. رسالته كانت قصيدة شعر كتبها بخطٍ جميل وحبر يعبق برائحةٍ زكيةٍ. وضعها داخل قصبة وختم طرقيها بالشمع لئلا تتأذى بالماء.]
إن المرآة، هنا، إلى جانب الأشياء الأخرى تكتسبُ وضعاً مغايراً، حيث تتجاوزُ شيئيتها كشيءٍ تحت اليد إلى وضعية "الآخر"، إلى الوجه المختلف للذات، إلى كائنٍ يُصْغي ويتكلّم، ليكتسبَ الحوارُ بينها وبين الأميرة المعنى الحق للحوار من حيث هو حقل تتكشف فيه (الذات) بين الطرفين عن طريق اللغة وباللغة وفيها. إنّ المسار السيميائي للمرآة يتعاظم في المشهد الرّوائي حتى أنّ الأميرة تفكّر في نقلها إلى بيت الزوجية لولا اعتراض الشقيق الذي وعدها بمرآة أجمل وأثمن، ليتوقف هذا المسار مؤقتاً مع انتقال الأميرة، حيث تُدرج المرآة في متحف الذكريات وتُترك في مكانها نهباً للأغبرة وتأثيرات الزمن وخدوشه لكن مع موت الشاعر ــ العاشق تنتقم المرآة، الصديقةُ التي أُهملت في مكانها فتتهشم مع أقلّ لمسةٍ من الأميرة فتصيب شظيةٌ منها يدها، كما لو أن الجرح ليس إلا تذكيرٌ للأميرة بحبّ الصّبا الذي خمدَ وبالصّداقة التي كانت بين الطرفين. ومن جهةٍ؛ فإنَّ تهشّم المرآة وتشظيها يمثّل الإعلان عن رسم نهائي لجغرافيا السّرد وامتداده وتوقفه في نقطة ختامية، وفي الوقت ذاته انفتاح النص على التشظي واللاحسم دلالةً.
في سياق هذا الحبّ المستحيل بتجربته الرُّوحية الأليمة وشعرية الأشياء المرتبطة به يتموقع "القصب"بوصفه وسيلةً من وسائل التواصل بين الطرفين إلى جانب خيارات أخرى مثل الحمام الزاجل، لكن العاشق يميلُ في النهاية إلى "القصب" إثر وقعه على آية 7 من سورة القصص(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي)، ولا ريب أنَّ كلمة (اليم) تقوده إلى اختيار (القصب)، ليغدو امتداداً لتجربة الحب، القصب الذي سيغدو حامل بريدٍ لرسائله، القصب النامي على ضفاف النهر حيث تُصنع منه النايات بألحانها الشجية، والآن يُرمى في النهر حسب اتفاق (عن طريق سارا فلّه)، لنقرأ هذا الترصد للرسالة الأولى من قبل الأميرة [كان ما رأيته قصبة قصيرة يشكّل ضلعاً من مثلث يرتفع فوقه قماش أحمر مثل شراع تماماً كما وصفته لي سارا فلّهْ. خفق قلبي المسكين مرة أخرى. (...) طرتُ إلى القصر وأنا أقبض على القصبة كما لو أنها روحي.]. إن اختيار العاشق للقصب لا يستبعد، علاوة على السبب المباشر آنفاً، رمزية السمة الذكورية للقصب في اللاوعي لدى العاشق، وبذلك يجد القارىء نفسه إزاء مشهد استعاري أو (تشبيه تمثيلي) حيث تتكافأ قطعة (القصب) مع (البعد الذكوري) و(الرسالة) مع (ماء القلب) و(قبض العاشقة على القصبة) يتكافأ مع (المشهد الحميمي بين الذكر والأنثى). وبهذه الصّورة يحيلنا القصب إلى دلالات الموسيقى والبريد والرمز الجنسي، ليثخن من فضاء المعنى للنص ويوسعه مانحاً الحالة السيميائية قوة الحضور في الأدب.
إن شعرية الأشياء في الرّواية تشكّل بعداً استراتيجياً لجماليات النص وتمنح تجربة العشق قوتها غير أن "الكلمة الشّعرية" تبقى في هذه التجربة الفسحةَ التي تتجلى فيها أبعاد التجربة المبهجة والمؤلمة والمستحيلة فيما بعد، لأنَّ الكلمة الشّعرية تشي بالوجود الأصيل في كثافاته والحب ضربٌ مائزٌ من الوجود الأصيل؛ لنقرأ تأثير الكلمة الشعرية في الأميرة العاشقة: [ماذا يفعل الشّعر بالأنثى يا مرآتي الصامتة؟ (...) رسالة من محبٍّ، مجرد رسالة من عاشق، ربما ليس صادقاً، تقلب حياتها! لكن ما ألذّ أن تحبَّ المرأة شاعراً أو يحبها شاعر! إنه فيض حنان ورقّة. نهر عذوبة لا يكفُّ عن الجريان. (...) الشعر نار مقدسة تنير الظلام الذي تتخبط فيه بعض الأرواح وتتدفأ عليه القلوب الحائرة].
فماذا يفعل جمالُ المرأة وأنوثتها بالشّعراء أيتها الأميرة؟
ماذا فعل حاجباكِ اللذان يطوقان العَالم بقلب الشاعر المنكوب؟
ماذا فعلتْ بالشاعر لحاظُكِ الشهلاء لتمسَّ صرخته ضفاف الآلهة؟
يتسامى الشّعر في التعبير عن تجربة الحب لدى الشّاعر من (شعرية الجسد) إلى السعي (وهو ما لم يدّعيه الشّاعر) نحو (شعرية المطلق بقتل الأنا والذوبان في العالم)، أي الدفع بالكتابة الشّعرية للإقامة في مقام الصحو بتأثير من الصوفي ولي نقشجان، الذي وهب شعر الجزري (وفق حيلة سردية ذكية اختلقها الروائي) الديمومة والاستمرار، بعد أن تولى كتابة الديوان بخطّ يده، قبل أن يأمر الأمير بحرق الديوان أسفل نافذة حجرة الأميرة العاشقة.
هكذا في الوقت الذي طوى الزمان أولئك الأمراء وهؤلاء في هوامشه؛ فالتاريخ لايزال يومض بالكلمة الشعرية لشاعر العشق أحمد الجزري: صباح الخير يا خانم!
هوامش:
[1]: ينظر المصنف المهيب للفيلسوف الفرنسي بول ريكور: الزمان والسرد بأجزائه الثلاثة (1ـ الحبكة والسرد التاريخي، 2ــ التصوير في السرد التاريخي، 3ـ الزمان المروي)، ترجمة: سعيد الغانمي وفلاح كريم، مراجعة: جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2006.
[2]: جان دوست: مجنون سَلمى (سيرة متخيلة لشاعر حقيقي)، الرياض، دار رف، ط1، 2023، وقد اعتمدت في قراءتي على نسخة إلكترونية (عن طريق المؤلف) من طبعة مركز مم وزين الثقافي، 2025، وقد أوردت الاقتباسات من دون تحديد الصفحات إلى حين توفّر نسخة ورقية مما اقتضى التنويه. ومن جهة أخرى، من الأهمية بمكان الإشارة إلى جملة مقاربات مهمة سابقة على قراءتي لهذا العمل وفق تاريخ نشرها:
-
خالد جميل محمد: جمالية الإحالة في رواية "مجنون سَلمى" للروائي "جان دوست"، موقع روداو، 11، 06، 2023.
-
هيثم حسين: مجنون سلمى لجان دوست… سيرة متخيلة عن شاعر حقيقي، مجلة الفيصل، سبتمبر، 1، 2023.
-
إبراهيم محمود: قراءة في رواية " مجنون سلمى ".. للكردي جان دوست، رامينانيوز (هلات)، آذار 27، 2025.
-
غنوة فضة: جان دوست: سؤال الحب والهوية والألم، صحيفة الصباح العراقية، 16، نيسان، 2025.
[3]: أحيل القارئ الكريم إلى خالد حسين: في نظرية العنوان (مقاربة تأويلية في شؤون العتبة النصية)، دمشق: دار التكوين ط2، 2024.
[4]: بخصوص هذه الفكرة التقويضية التي تحيلنا إلى جاك دريدا ينظر مارسيل إيناف: هبة الفلاسفة (إعادة التفكير في التبادلية)، ترجمة: منال بشير، مراجعة، عمرو زكريا، القاهرة المركز القومي للترجمة، ط1، 2022، ص22، 23، 24.
[5]: رولان بارت: شذرات من خطاب محب، ترجمة علي نجيب إبراهيم، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2012، ص 173.
[6]: سواء أكان المقام (بوصفه اسماً للزمكان) مشتقاً من فعل ما فوق الثلاثي (أقام/مُقَام على وزن المفعول بمعنى مكان الإقامة) أو من الفعل (قام/ مَقَام على وزن مَفْعَل بمعنى مكان القيام)، فهو مفهوم يتخذ لدى المتصوفة بعض الخصوصية فيما يتعلق بالارتقاء في درجات التعبد (التوبة، الإنابة، الزهد ...إلخ) لكنه لا ينفصل بحال عن البعد المكاني. هنا في الرواية يوظف الروائي المفهوم توظيفاً حسناً للدمج بين المكاني والزماني في بناء جسد الرواية (مقام الشرب، مقام السُّكْر، مقام الصحو). وأعتقد أن الرواية تستجيب بقوة لدراسة متكاملة عن المكان والموازيات النصية بصورة أعمق. بخصوص مفهوم "المقام" ودرجاته عند الصوفية ينظر رفيق العجم: موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1999، ص 917 ــ 928.
[7]: ينظر هيثم حسين: مجنون سلمى لجان دوست… سيرة متخيلة عن شاعر حقيقي، مرجع مذكور.. تشكل هذه الملاحظة (ولادة شاعر وموت أمير) تكثيفاً لافتاً للمقام الأول.
[8]: ينظر جان لوك ماريون: ظاهرة الحب (ستة تأملات)، ترجمة: يوسف تيبس، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2015، 83، 84.