تحت وطأة أعداد الشهداء، والجرحى، التي بلغت نحو 52 ألف شهيد، و118 ألف مصاب، فضلاً عن عشرات آلاف المفقودين تحت الأنقاض، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، عقب عملية "طوفان الأقصى"، التي نفذتها "كتائب القسام" الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، على منطقة غلاف غزّة (هي مجموعة مستوطنات إسرائيلية تقع مع الحدود المتاخمة لقطاع غزّة بكيلومترات قليلة)، فجر يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحت وطأة ذلك كله ومع تشدّد الاحتلال في منع دخول أي نوع من المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية منعاً كاملاً منذ أكثر من 50 يوماً للقطاع الذي يعيش ظروفاً مأساوية على جميع الأصعدة، تتّخذ خسائر أخرى في غزّة مكاناً هامشياً، رغم فداحتها. نتكلّم هنا أساساً عن خسائر التراث الحضاري والثقافي التاريخي، فبالتوازي مع الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي بوحشية غير مسبوقة في التاريخ الحديث -والتي ربما تكون الأسوأ في تاريخ البشرية–، تجري إبادة أخرى ثقافية، تتكشّف ملامحها يوماً بعد يوم.
منذ الأسابيع الأولى للعدوان الإسرائيلي الانتقامي من سكان غزّة، بدا واضحاً أن الهدف الرئيس من هذه الحرب هو محو المكان والتخلّص من الغزّيين بأي طريقة كانت دون أي اكتراث بالمجتمع الدولي وردود أفعاله. ومع تصاعد عنف وإرهاب قوات الاحتلال، بدأ مفكرون وفلاسفة ومثقفون يتحدثون عن "إبادة ثقافية"؛ و"الإبادة الثقافية" أو "التطهير الثقافي" هي مفهوم ميّزه المحامي البولندي اليهودي رافائيل لمكين، سنة 1944م، على أنّه مكوّن من مكوّنات "الإبادة الجماعية". وأُخذ المصطلح بعين الاعتبار في سنة 2007م في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية؛ وتمّ وضعه جنبًا إلى جنب مع مصطلح "الإبادة الإثنية"، لكنّه حُذف من الوثيقة النهائية، وتم استبداله بمصطلح "الإبادة الجماعية" فحسب.
316 موقعاً تراثياً تعود لحقب تاريخية مختلفة
على الرغم من صِغر مساحة قطاع غزّة، التي لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً، فإنّه يعدّ ملتقى للحضارات، وممراً للحقب الزمنية والمعارك والحملات، وقد جعله ذلك غنياً بالآثار الإسلامية والمسيحية.
يضم القطاع، بحسب مسح ميداني شامل أجرته وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بمدينة رام الله، 316 موقعاً تراثياً تعود لحقب تاريخية مختلفة، تشمل: مواقع أثرية، ومباني تراثية، ومتاحف، ومباني دينية، ومقابر تاريخية، ومشاهد ثقافية، ومواقع طبيعية، وغيرها. وهذه المواقع والمعالم ليست مجرّد حجارة، بل هي حكايات وأرواح تسرد قصص الغزّيين وصمودهم عبر الزمن، وسعيهم الدائم للحفاظ عليها باعتبارها تُشكّل جزءاً أساسياً من تاريخ وهوية الشعب الفلسطيني، لكنّ هذا الإرث المعماري والحضاري بات، بعد نحو 18 شهراً من حرب إبادة كاملة للأرض والبشر وتطهير عرقي مُمنهج لأصحاب الأرض الأصليين -وفقاً لتقارير رسمية وإخبارية ومراسلون صحفيون من داخل القطاع، أثراً بعد عين بعد أن دَمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه الإبادية الوحشية المستمرّة على جميع مدن القطاع والأحياء التي تضم تلك المواقع والمعالم، واستهدافها عمداً لطمس هذا المكوّن الأساسي من الهوية الوطنية الفلسطينية، ذلك أنّ سلطات الاحتلال لا تزال تروج سرديتها الباطلة أنّ فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، فكيف يترك المحتل الاستعماري الاستيطاني الكولونيالي تلك المواقع والمعالم التي يعود البعض منها إلى العصور الكنعانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، والتي مرّ على البعض منها ما يقارب من سبعة عشر قرناً، وسجّل أحدها -دير القديس هيلاريون (تل أم عامر)، ضمن قائمة المنظمة العالمية للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" لمواقع التراث العالمي، وقائمة التراث العالمي المعرض للخطر.
تؤكد مجريات الأحداث أنّ هذا الدمار لم يكن غير مقصود بل تعمّدت قوات الاحتلال استهداف كافة المواقع والمعالم في جميع مناطق قطاع غزّة، حيث قدّرت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بمدينة رام الله، في تقرير "حصر الأضرار والمخاطر لمواقع التراث الثقافي في غزّة"، الذي أعدته بالتعاون مع مركز حفظ التراث الثقافي، وصدر في فبراير/شباط الماضي، أنّ "226 موقعاً من أصل 316 تعرّضت لأضرار متفاوتة، ولحقت أضرار كبيرة بـ 138 موقعاً، وتعرّض 61 موقعاً لأضرار متوسطة، وسجّل 27 موقعاً أضراراً طفيفة، ولم تُسجل أي أضرار في 90 موقعاً"، وذلك منذ بداية الحرب في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 وحتى تاريخ إعداد التقرير.
بلدية غزّة قالت، في 23 أبريل/نيسان الحالي، في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني، إنّ "الاحتلال تعمّد خلال العدوان المتواصل منذ أكثر من 18 شهراً استهداف المباني الأثرية والتاريخية والأرشيف المركزي التابع للبلدية والذي يضم نحو عشرات الآلاف من الوثائق التي تؤرّخ للمدينة وتراثها وتطوّرها العمراني". وأوضح البيان أنّ "الاحتلال استهدف منذ بداية العدوان نحو 165 مبنى أثرياً في المدينة لحقت بها أضرار متفاوتة منها كلية وجزئية، بالإضافة إلى مبنى الأرشيف المركزي الذي يضم وثائق تاريخية عن المدينة".
من جهتها، دعت وزارة السياحة والآثار في حكومة غزّة التابعة لحركة "حماس"، في أكثر من مناسبة، المنظمة العالمية للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، للعمل على الحفاظ على ما تبقى من كنوز تاريخية في قطاع غزّة.
"يونسكو" بدورها، أعربت عن قلقها الكبير إزاء التأثير السلبي للقتال على التراث الثقافي في غزّة، في حين لم تستطع المنظمة الدولية بسبب القتال الدائر مسح مدى الضرر الذي لحق بالمواقع التراثية والثقافية، مؤكدةً على أنّ سكان غزّة لديهم الحق في الحفاظ على تراثهم وتاريخهم، إلى جانب دعوة إسرائيل إلى ضرورة الالتزام بالقانون الدولي، وعدم استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية.
وقدّرت الأمم المتحدة، في بيان نشر في أغسطس/آب الماضي، أنّ ثلثي المباني في غزّة قد دُمّرت. وأعلنت وكالة تحليل الأقمار الاصطناعية التابعة للأمم المتحدة "يونوسات"، أنّ "آخر تقييم للأضرار... يكشف عن تضرّر 151 ألفاً و265 مبنى في قطاع غزّة".
بنك أهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي في حربه القذرة المعلنة ضدّ قطاع غزّة، شمل إضافة إلى تصفية كوادر وقادة المقاومة والأكاديميين والكتّاب والصحفيين، فضلاً عن المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية، ودور العبادة والمراكز الثقافية والمحترفات الفنية ومراسم الفنانين.
وعلى مدار الـ 18 شهراً الماضية، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بالتدمير شبه الكامل لعدد من الكنائس والأديرة والمساجد والقلاع والأسواق والحمامات التاريخية والمتاحف العريقة المتواجدة في مختلف مناطق القطاع.
سرقة آثار وحرق كتب وأرشيفات غزّة
نستعرض في هذه المقالة بعضاً من تلك المواقع والمعالم ودور العبادة والمنشآت الثقافية الحيوية، كـ دير القديس هيلاريون (تل أم عامر)، الذي يقع في مدينة النصيرات وسط قطاع غزّة، والذي تعرّض للقصف الإسرائيلي خلال حرب الإبادة، ما أدّى إلى تدمير جزئي له، ويعتبر شاهداً فريداً على تطوّر الحياة الرهبانية المسيحية في فلسطين خلال الفترة البيزنطية، وأُدرج الدير ضمن قائمة "يونسكو" لمواقع التراث العالمي وقائمة التراث العالمي المعرض للخطر، في يوليو/تموز الماضي، كونه يمثّل إرثاً ثقافياً وروحياً عميقاً، ويعكس تأثير القديس هيلاريون في التقاليد الرهبانية في الشرق الأوسط.
[دير القديس هيلاريون في غزة].
وتعرّضت كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، الواقعة في حيّ الزيتون جنوب شرق مدينة غزّة، للتدمير وتحوّلت إلى كومة من الحجارة، بعد قصفها من قبل جيش الاحتلال أثناء تواجد عدد من النازحين المسيحيين والمسلمين بداخلها.
ويعود تاريخ الكنيسة إلى سنة 407م، والتي تعدّ ثالث أقدم كنيسة في العالم، وسمّيت بهذا الاسم نسبة إلى القديس برفيريوس الذي دفن فيها، وتتمتع الكنيسة بطابع معماري جميل، تسرّ أنظار الزوار بجمال زخارفها ولوحاتها الفنية العتيقة والأيقونات التي تزين سقفها وجدرانها بالرموز المسيحية.
[كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس في غزة].
كذلك، تعرّض المسجد العمري الكبير، الذي يقع في حيّ الدرج شرقي مدينة غزّة، إلى دمار كبير، ويعدّ من أقدم مساجد القطاع وأكبرها، وهو ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى ومسجد أحمد باشا الجزار.
أنشئ المسجد العمري سنة 1344م وسمّي بهذا الاسم نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وكان يتمتع بطابع معماري جميل. وفي المسجد مكتبة تعدّ من أساسيات هذا الصرح العظيم، أنشأها الظاهر بيبرس قبل أكثر من 7 قرون (1277م)، وعرفت قديماً باسم مكتبة الظاهر، الذي رفدها بحوالي 20 ألف كتاب في مختلف العلوم والآداب، وحوالي 187 مخطوطة، يعكس معظمها وجه التراث العربي الإسلامي في غزّة.
كذلك قامت قوات الاحتلال بتدمير وتجريف قلعة برقوق الواقعة في قلب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزّة، وتعتبر القلعة حصناً يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد تم تشييدها في عهد السلطان المملوكي برقوق، حيث استُخدم هذا الحصن من قبل التجار المتنقلين بين مصر ودمشق، ولكن مع التوغل البري لمدينة خان يونس، تم تدمير أجزاء كبيرة من القلعة التي تعتبر من أبرز الرموز التاريخية العريقة لمدينة خان يونس.
وتعرّض متحف خان يونس بدوره لدمار كبير من جراء قصف الطائرات الإسرائيلية منازل سكنية مجاورة له، حيث أنشئ المتحف الذي يضم قطعاً أثرية تعود لعصور ما قبل العصر الحديث بجهود ذاتية، ويضم قطعاً تعود للحقبة الرومانية واليونانية والبيزنطية والأيوبية والعثمانية، إضافة إلى نقود أثرية تعود للحقب المذكور، كما وتحطمت داخل المتحف العديد من القطع الفخارية الأثرية.
ولحقت أضرار كبيرة بمتحف القصر أو كما يعرف قصر الباشا ويسمّى أيضاً قلعة نابليون، أحد أهم المباني الأثرية التي بنيت في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، والذي يضم مجموعة من القطع الأثرية التي تغطي فترات مختلفة من تاريخ غزّة. وطال الدمار قصر الداية، ثاني أكبر القصور العريقة والتاريخية بعد قصر الباشا، والذي يتوسط حيّ الزيتون وسط مدينة غزّة، ويعود تاريخ تشييده إلى العهد العثماني.
أيضاً، تضرّر المتحف المعروف باسم مطاف الفندق، الواقع في شارع الرشيد في غزّة، والمطل على البحر الأبيض المتوسط، والذي يحتوي على آلاف القطع الأثرية من الفترات الكنعانية واليونانية.
ودُمّر حمام السمرة، الواقع في حيّ الزيتون وسط غزّة، والذي يعتبر من أقدم الحمامات التي بنيت في القطاع، حيث يأخذ تاريخ بنائه النموذج الوحيد المتبقي من الحمامات الأثرية، بعد أن كان قطاع غزّة يحتوي على العديد من الحمامات التي اختفت مع مرور الزمن، وقد استمرّ العمل فيه وتم تجديده خلال الحكم العثماني.
كما دَمّر الاحتلال مقبرة دير البلح الواقعة إلى الشرق من المدينة، وتعتبر من المقابر التاريخية الأثرية التي تعرّضت لدمار كامل من جراء القصف الإسرائيلي العنيف، وتضم المقبرة التي يعود تاريخها إلى العهد البرونزي توابيت فخارية على شكل بشري، وكانت مزاراً للوافدين من الخارج، بخاصة البعثات العربية والدولية المختصة بالتنقيب عن الآثار، إلى جانب ذلك تعرّض موقع تل رفح الأثري، الذي يعود تاريخه إلى العصر الكنعاني ويضم العديد من الكنوز الأثرية، عدا عن احتوائه على العديد من القطع والعملات النادرة داخل الموقع، للتدمير الكلي جراء القصف الجوي.
واستهدف الطيران الحربي الإسرائيلي، في يناير/كانون الثاني 2024، مبنى ومكتبة بلدية غزّة القديمة التاريخي، الواقع في شارع عمر المختار في المدينة، وكانت المكتبة المؤلفة من ثلاثة طوابق تضم عدداً كبيراً من الكتب والوثائق التاريخية ومجلدات تحتوي على صحف فلسطينية قديمة.
بيان صادر عن البلدية، ذكر في وقت سابق، أنّ "مبنى الأرشيف المركزي، أحد أبرز المباني الإدارية التابعة لها، تعرّض لقصف أسفر عن خسائر مادية فادحة، وأدّى الحريق الناتج عن القصف إلى التهام الطابق الأرضي بالكامل، بما يحتويه من وثائق إدارية حساسة وكنوز أرشيفية ذات قيمة تاريخية كبيرة". وكشف البيان أنّ "استهداف المبنى أدّى إلى تدمير نحو 75 ألف ملف إداري وتاريخي بشكل كامل، وهي وثائق تشمل تراخيص البناء، والمخطّطات الهندسية، ورخص الحرف، واشتراكات المياه، وغيرها الكثير من السجلات الحيوية التي تمثّل نحو 60% من محتويات الأرشيف". وحذر البيان "من خطر وشيك يهدّد نحو 70 ألف ملف لا تزال داخل المبنى المتهالك، المعرض للانهيار في أي لحظة، في ظل غياب البدائل أو وجود مكان آمن لحمايتها من التلف أو الضياع."
ولم يسلم من القصف والدمار المباني الحديثة من مراكز ثقافية ومحترفات فنية ومكتبات وجامعات ومساجد بُنيت في العقود الأخيرة، من ذلك المسجد الخالدي، ومبنى مركز رشاد الشوا الثقافي، ومحترف شبابيك الفني، ومكتبات الجامعات الفلسطينية، مثل مكتبة الجامعة الإسلامية، التي فقدت أكثر من 240 ألف كتاب ومرجع، ومكتبة جامعة الأقصى، ومكتبة جامعة الإسراء، ومكتبة ديانا تماري صباغ، ومكتبة حيدر عبد الشافي، التي كانت تضم عشرات الآلاف من الكتب قبل تدميرها.
[مركز رشاد الشوّا بعد تدميره من قبل قوات الاحتلال].
جرائم الاحتلال لم تقتصر على تدمير التراث المعماري والحضاري في قطاع غزّة، بل تعمّد جنود الاحتلال سرقة العديد من القطع الأثرية والتحف وحرق الكتب والأرشيفات خلال عملية الاجتياح البري بعد اقتحام البيوت والمكتبات والمتاحف والمراكز الثقافية ودور العبادة والقلاع، وذلك قبل أن يُقدم الجيش الإسرائيلي على قصف وهدم هذه المواقع والمعالم لإخفاء جرائم جنوده، وهو ما شكّل خسارة كبيرة للموروث التاريخي والتراثي والثقافي الفلسطيني، الأمر الذي يؤكد أنّ ما جرى ويجري هو سرقة ممنهجة ومبرمجة لموروثنا الحضاري الهدف منه طمس الوجود والذاكرة الثقافية الفلسطينية.