يتساءل المرء عن نوع ذلك القلق الذي أصاب "نجع المناسي" تلك القرية المعزولة و المنسية والمرمية على كتف الزمان، وكأنها ماكوندو ماركيز في مئة عام من العزلة، وأيضاً عن ماهية العنوان الذي ابتدعه محمد سمير ندا في روايته "صلاة القلق" بإشارة مزدوجة لنقيضين حيث الصلاة مناجاة الروح لخالقها طلباً لصفاء النفس، ليأتي القلق ويبدد هذا الاستهلال مبلبلًا معه انسياب استقبال القارئ للنص ومثيرًا لأسئلته ما يدفعه للسير قدما للتمعن في مقاصده حيث يستدرجه الكاتب للغوص تدريجياً في حيوات شخوص العمل، يكون القلق فيه سمة تصبغ وجود الجميع، الكل خائف من شيء ما من مجهول يتربص بهم.
ندخل لوحة الأحداث في رواية "صلاة القلق" التي صدرت عن دار مسكيلياني لعام 2024 وهي الرواية الثالثة للكاتب والتي حازت مؤخرًا على جائزة البوكر العربية لعام 2025، بسقوط نيزك أو صاعقة ما، ما يشبه قمراً صناعياً أو واحدة من متفجرات المعركة أو لعنة ما حلت على "نجع المناسي" القرية البعيدة عن الحياة وإن وصلتها لمامًا أخبار الحرب التي تضطرم في مكان قريب وفي أعقاب ذلك تتبدل أحوال السكان ويصاب الجميع بوباء غريب يبدون فيه كالسلاحف وفاقدين لشعر رؤوسهم.
تبدو الفصول على شكل جلسات متتابعة تسمى كل منها باسم واحدة من الشخصيات ولم يفك لغز تسميتها إلا في نهايتها لنعرف أنها عبارة عن كتابات للشاب الأخرس عبد الحكيم ابن خليل الخوجة وهذا يفسر النغم الشاعري الواحد للجلسات التي جاءت على لسان أصحابها متبعاً أسلوب الأصوات السردية المتعددة أو ما اصطلح على تسميته بالبولوفينية تلك التي أفرد لها ميخائيل باختين أبحاثاً هامة.
ثمانية أصوات لشخوص النص توزعت بين نوح النحال ومحروس الدباغ ووداد القابلة وعاكف الكلاف ومحجوب النجار وشواهي الراقصة وزكريا النساج وجعفر الولي بالإضافة لشخصية خليل الخوجة وابنه حكيم، انتماءات متعددة وبنى عقلية مختلفة ولكل منهم حكاية ومواجع وأسرار وارتكابات غامضة المعالم، ثم جاءت الكتابات المجهولة على جدران بيوتهم في غفلة من أصحابها لتفضح المستور مما خفي منها وكأنها لوحة اتهام من الغيب تصرخ بالحقيقة وتترجم بصلافة حقيقة أفعال كل منهم في غرائبية ما يحصل في القرية على غرار ولادة بعض الأجنة بشكل مشوه والتهمة الموجهة للداية العجوز وداد بأنها تميت أو تقتل الجنين المشوه شفقة منها على ذويه من عبء وجوده والسؤال في عهدة المتلقي عن مدى أخلاقية الفعل وتجريم مرتكبه أو السكوت عنه ومن له الحق بالتنبؤ لمستقبل أي كائن فقد عرفت البشرية الكثير من مبدعين معاقين في مجالات شتى قدموا للعالم نتاجات قيمة.
الظلال السوداء للحرب التي يمور أوراها بين أطراف مجهولة لا يدرك أهل القرية متى بدأت ومتى ستنتهي نتيجة انقطاع أي وسيلة إعلام أو توعية ماعدا دكان الخوجة لسان حال السلطة الحاكمة، الذي يقتطع من أرزاقهم المجهود الحربي ويسوق أبناءهم إلى جبهات النار التي لا يعودون منها، تلك الظلال الكامدة التي تخيم على النص وعلى الواقع الروائي في محاولة لتفكيك التاريخ، تاريخ الوهم بانتصار مزعوم، بإشارة صريحة إلى نكسة حزيران عبر تجسيد الخوف الذي يشتعل في النفوس من مجهول ما وقلق مؤرق سيطر على العباد جعلهم راغبين في تخدير أعصابهم، ليجيب محجوب النجار بأن عجز الناس هو نطفة القلق التي تخلقت منها كل الأشباح والمخاوف وقد روي أن خليل الخوجة الذي يمثل ظلال السلطات الحاكمة بلغت مبيعاته من المنومات ما فاق مبيعاته كلها.
اشتغل الكاتب على فنتازيا الحكاية الشعبية مستعرضًا عالم الوهم والخرافة التي تشبّع بها أهل النجع محاولة منه لتفكيك ذلك العالم الموهوم بنصر مؤزر تقابله حالة القلق والحصار التي يعيشون بها ليحاول عكس الواقع الذي يعيشون فيه إذ تبدو ظلال الهزيمة كتاريخ يؤطر النص ويرخي ظلال البؤس والكآبة على حياة ناقصة ومحاصرة.
وما تسوير البلد بحقل ألغام بهدف الحماية إلا تسويفاً لانتظار لا طائل من ورائه للاستمرار في واقع استنزافي لجهدهم دون إدراك منهم لما يجري وتعمية السلطات وتعتيمها على ذلك، إلى أن تنتفض الحشود مدركة أن اللغم ما هو إلا الوهم المسيطر على العقول. ثم يعود الكاتب ويخاتل قراءه بأن كل ما ورد محض حادث وقع عرفناه من خلال خبر طويل عن تمرد حدث في مستعمرة جذام منشور في الخامس عشر من أبريل/نيسان عام 1977 معيداً للحكاية واقعها السردي المستقل.
ثمة إشارات ورموز توسع دلالات لمفاهيم يحاول فيها استفزاز القاع الموهوم بنصر ما عن التمثال الذي يطارد الناس ليلًا، وكذلك يتردد ذكر النداهة وهي عبارة عن أسطورة مصرية قديمة تتحدث عن روح أنثى تشبه الحوريات تنادي الرجال وتستدرجهم إلى النيل، ما يؤدي إلى وفاتهم أو اختفائهم، وأيضاً الإشارة لمقتل زكريا النساج ذي الأصل الفلسطيني الذي خاض أسلافه معارك وحروباً في أنحاء مختلفة وتجاهل السلطات لمصير أولاده الثلاثة في المعركة في إيماءة لتسبب التمثال بمصرعه في نوع من التماهي مع التمثال المقطوع الرأس الذي يترك مكانه ويتحرك ويخيف المتجولين ليلاً ككابوس يطبق على أنفاس سكان النجع، ذلك التمثال الرابض في ساحة القرية تلاحقه أقاويل وأقاويل تناولت تجوله في أزقة القرية وقدراته الأسطورية، كأنه رمزية الحرب التي تنوء القرية تحت وبالها ويستنتج بالنهاية أنه ليس عائداً للزعيم حتى.
لكل شخصية من الساردين زمنها الخاص وتشتبك مع الآخرين عبر تداخل حيوات كل منهم بصفتهم شاهدين للبلاء الذي حل بهم وكل يرجع أسبابه بما يتفق مع فكره ووعيه فمنهم يرجعه إلى غضب الرب ومنه يحمل أولي الأمر المسؤولية، حيث يوظف الكاتب شخصية المتوفي لإظهار الشك الذي اعترى الشيخ جعفر وهو الولي الذي يتبارك به أهل النجع في محاولة من الكاتب لإعادة صياغة المسلمات ومساءلتها، إذ يبرز في نهاية العمل وهو حي في لحده متسائلاً أين الملكين؟ فقد ذهب به الاستيهام إلى تخيل نفسه في البرزخ وتصور أنه قام من الموت وبالرغم من أن الناس البسطاء يتلقون بركاته يقول إنه هو شخصياً خامره الشك وهو على شفير الموت عما بعد الوجود وماهية العالم الآخر وعن حقيقة الموت الذي زاره مرتين.
في تبادل الأدوار بين القداسة والزعامة يراوده إحساس بأسئلة من نوع: هل سيسأل الملكان من زعيمك وماذا فعلت لنصرة الزعيم في حربه التي لا تنتهي في تتبع خيط التهكم الخفي عن بطولات لا نرى لها أثراً ومن حرب ليس لها آخر.
اللعنة التي أصابت النجع لم ينج منها إلا الغجرية "شواهي" صوت الفرح والحرية التي ناغش جمالها قلوب الجميع مع الشاب الأخرس حكيم الذي هربت به خارج النجع، وكانت الجلسات عبارة عما دونه من صفحات كانت أسلوباً في علاجه النفسي بتفريغ مكابداته ومعاناته التي تكشفت عن طفولة دامية وجريمة كامنة انتهت بمقتل أمه وقص لسانه عندما عَرّفنا بحقيقة ما جرى.
ولعل الكاتب اتبع أسلوباً مباشراً هنا في الكشف عن غامض أشار له مصادرًا بهذا الكشف ذكاء القارئ في التخمين والاكتشاف والتأويل، وقد استفاد ندا من مزج الأغاني الشعبية وبالأخص أغنيات عبد الحليم حافظ في استهلال كل جلسة كعتبة نصية ولج منها لتبيان دورها في تأجيج الحس الوطني والشحن النفسي لخوض المعارك التي أظهرت الزعامات المحلية كأبطال نصر لا أرض لها ولا سماء، ولتحضر الرواية لتعيد ضرورة تفكيك التاريخ وتمحيص أحداثه إذا كان ثمة من رغبة لخلق واقع جديد.