تعبّر خطط توسّع العراق في إنتاج المزيد من المستخرجات الهيدروكربونية عن تردُّد هياكله الحكومية في تنفيذ تدابير فعّالة ضمن ما يُمكن تعريفه بالسياسات المناخيّة الإنتاجية (supply-side climate policies)، استجابة لمخاوف ارتباط خفض الإنتاج بتناقص نمو المدخول الوطني (GDP). بالمقابل، ما تزال أنشطة استخراج النفط وتوليد الكهرباء والنقل مسؤولة عن 75% من الانبعاثات القُطرية، في حين تأتي 40% منها من الاستخراج الهيدروكربوني وحده. يعدّ الاقتصاد الرَّيعي النفطي أيضًا، وفقًا لسرْدية النظام السِّياسي، الأداة الحيوية لمنع المزيد من الاضطرابات الداخلية التي يُحفزها سياقٌ يعتمل فيه الفساد والمحسوبية السِّياسية والفقر والبطالة. يرزح 29.6% (12.27 مليون نسمة) من العراقيين تحت خط الفقر، فيما البطالة بين الشباب ارتفعت حتى وصلت نسبتها إلى 35%. عند مراجعة هذه المصفوفات التي تؤشر على تراجع التنمية، ليس من المُستغرب أن يكون العراق أحد أشد المعارضين لمقترح "خفض أو التخلص التدريجي" من الوقود الأحفوري الذي طرحته الاتفاقية النهائية لمؤتمر الأطراف المعني بتغير المناخ (COP28) في تشرين الأول/ نوفمبر 2023.
النظرية الحكومية لتبرير التلوث
تَتَّبع الحكومة العراقية المبدأ الأساسي للنظرية الإنتاجية (Supply-Side Theory) لتغذية طموحاتها النفطية: زيادةٌ في المعروض من السِّلع والإنتاج عبر توسعة الإعفاءات الضَّريبية وتخفيف الالتزامات قد تؤدي إلى النمو الاقتصادي. وبالتالي، ترى الحكومة أن زيادة إنتاج النفط، رغم أنه قد يؤدي إلى مزيدٍ من التلوث، سوف يؤدي إلى تعزيز فرص التنمية.
بموازاة ذلك، ومن أجل منع المستثمرين الأجانب من مغادرة البلاد، تقدم الحكومة لشركات النفط العالمية (IOCs) المزيد من الإعفاءات كجزء من عقود جولات التراخيص النفطية، مثل شطب الغرامات، وتقليل القيود التنظيمية - البيئية منها خاصة - وذلك في ضوء المخاطر المحتملة العالية لتخارج الشركاء الأجانب من الصناعة النفطية. مثلاً، من المُخطط أن تتخارج شركة بريتيش بتروليوم (BP) بعد انتهاء عقد حقل الرميلة في البصرة عام 2032. ومع ذلك، تسري بعض الأخبار تحت جو من التعتيم، مفادها أنّ BP باعت حصتها إلى اتحاد شركات (كونسورتيوم) بترولي جديد، ما يعني تخارجاً مُبكراً غير مُخطط له من الحقل الضخم.
منذ عام 2010، سعى العراق إلى إعادة بناء صناعته النفطية عبر جولات ومزادات بترولية واسعة النطاق، على أمل أن تقود شركات النفط العالمية عملية تجديد الصناعة. لكن منذ 2018، ظلت هذه الشركات تغادر البلاد على التوالي وسط نقص حاد في المياه، واستمرار الاضطرابات السِّياسية، والديون غير المُسددة، مع اكتساب الشركات الشَّرقية (الروسية والصينية) احتياطيات أكبر، على حساب تخارج الشركات الغربية، ما ترك الصناعة محفوفة بالمخاطر. بالنتيجة، ورغم مضاعفة العراق لإنتاجه خلال العقد الماضي، وتصنيفه ضمن كبار البتروليين العالميين، إلا أن مؤشرات التنمية الوطنية ظلّت مُشابهة لمؤشرات البلدان ذات الدخل المنخفض، مع تمتعه بأعلى معدل لكثافة انبعاثات كربون مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي مقارنة بنظرائه الإقليميين من حيث الدخل، وفقاً لتقرير البنك الدولي عن تغير المناخ والتنمية (CCDR) لعام 2022.
نفط أكثر .. مؤشرات تنمية أقل
رغم مؤشرات التنمية المُتراجعة، واصلت الحكومة سعيها لزيادة الإنتاج كثيف الكربون لتمويل الموازنة العامة، مستهدفة زيادة مُخططة لإنتاج 8 ملايين برميل يومياً بحلول 2027، وهو ما يتعارض ويقوض الجهود الحكومية البيئية الموازية، ويقود إلى تفاقم أزمة الانبعاثات الكربونية، وسط تراجع الغطاء الأخضر اللازم لـ"حبس الكربون" طبيعياً، نتيجة لتقلص مساحات الأراضي المزروعة أو الصالحة للزراعة من 80 إلى 14 مليون دونم، كاستجابة كارثية للنقص المائي الحاد.
وكمحاولة لتطوير قطاع النفط العراقي، اقترح البنك الدولي، استناداً إلى التطلعات الأمريكية والغربية لتوسيع مساهمة العراق في سوق الطاقة، استراتيجية الطاقة الوطنية المتكاملة (2013-2030)، التي تهدف إلى تحويل العراق إلى "لاعب أساسي" في قطاع الطاقة العالمي والصناعات البتروكيماوية، عبر رفع الإنتاجية إلى 14 مليون برميل يومياً بحلول 2030. استمدت الاستراتيجية التي تشجع الاقتصاد الهيدروكربوني على حساب البيئة، تفاؤلها المُفرط من فرضية توليد ستة مليارات دولار سنوياً تضاف إلى الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، ورفع قدرة الاقتصاد على استيعاب عشرة ملايين فرصة عمل جديدة. لكن البلاد ظلت عالقة في نطاق إنتاج يتراوح ما بين 4 إلى 5 ملايين برميل يومياً، فيما التحول إلى "لاعب أساسي" ظلَّ طموحاً مُعلقاً بسبب تذبذب سقوف الإنتاج.
ولتبرير فشلها في أداء التزاماتها المتعلقة بالمناخ وتمويل المبادرات البيئية، أشارت الحكومة العراقية إلى فجوة التمويل البالغة 290 مليار دولار وفقاً للسيناريوهات الأقل تكلفة، إلى جانب استنزاف الموارد المالية خلال الحملة العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، والإغلاق بسبب (كوفيد-19)، فضلاً عن تقلبات أسعار النفط غير المتوقعة. لذا تفترض الحكومة أن هذه الحزمة من الظروف المفاجئة قد أعاقت أهداف العراق للتنمية المستدامة وتحفيز مستقبل أكثر مسؤولية بيئية.
التكلفة البشرية لملوثات الوقود الأحفوري
تُشكل الانبعاثات الغازية الجوّالة، تهديداً مضافاً لبيئة العراق، خصوصاً في البصرة وعموم جنوب البلاد. ثمة تدهور واضح في الصحة العامة للرأس المال البشري هناك، في تخلو المؤشرات الحكومية المُعدة للتداول المحلي أو لصناع القرار الدوليين في غالبيّتها من أي اعتراف بملوثات الاستخراج النفطي ومحروقات الغاز المهدورة.
مُنذُ نحو عقدٍ تقريباً، في عام 2015، اقترحت مفوضية الطاقة الأوروبية خفض مستويات حرق الغاز واستخدام الوقود الثَّقيل لتوليد الكهرباء لتقليل انبعاثات الكربون بنسبة 25% في العراق. رغم ذلك، زادت الانبعاثات بمستويات تخطت المعايير القياسية العالمية، لا سيما في مناطق الإنتاج - جنوب البلاد - التي شهدت تصاعداً في الإصابات الناتجة عن "التلوث المُستدام" بسبب الحرق الكثيف للغاز المصاحب.
بسبب الزيادة المفرطة في نشاط التلوث البيئي المرتبط بالنفط وحرق الغاز المُصاحب، يؤكد المجلس العراقي للسرطان، أن انتشار الأورام قد زاد على نحو متسارع وكبير ما بين الأعوام 2003 و2020. إذ تشهد البصرة، مركز الإنتاج الأحفوري، ارتفاعاً سنوياً مُفرطاً بنسبة 7.38% لكل 100 ألف شخص. بينما سجلت المدينة أعلى معدل إصابة قُطرية بين الأطفال دون سن 15 عاماً، بمعدل 14.93 لكل 100.000. كشفت مفوضية حقوق الإنسان في البصرة، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن 9000 شخص يصابون بالسرطان سنوياً، 60% منهم يقيمون بالقرب من حقول النفط.
غالباً ما تتجوّل سحائب من الميثان في أجواء البصرة نتيجة الاستخراج غير النظيف للبترول. في 2018، أُحرق الغاز ضمن دائرة نصف قطرها 70 كيلومتراً ضمن البصرة، وهو ما يتجاوز إجمالي حجم إحراق الغاز للفترة نفسها في المملكة العربية السعودية والصين وكندا والهند مجتمعة. في تموز/ يوليو 2021، كشفت (Kayrros)، وهي شركة مقرها باريس تحلّل بيانات الأقمار الصناعية لوكالة الفضاء الأوروبية لتعقّب الانبعاثات، أن حقلاً غرب البصرة أطلق ميثاناً بمعدل 73 طناً مترياً في الساعة، عقب إطلاقات ميثان مماثلة في حزيران/ يونيو 2021، بمنتصف المسافة بين البصرة وبغداد، بمعدل 181 و197 طناً في الساعة. كفكرة تقريبية، يتسبب متوسط الانبعاثات السنوية في المملكة المتحدة لأكثر من 200 ألف سيارة في احتباس حراري يعادل 180 طناً مترياً من الميثان.
ورغم عدم قانونية حرق الغاز ضمن حدود 10 كيلومترات من المناطق المأهولة بموجب القانون العراقي، فإن السُّكان في حقل الرميلة باتوا غير قادرين على التحرك بحرية أو جلب مواد بناء لعزل منازلهم عن الدخان المُسرطن المنتشر في الهواء بسبب الطوق الأمني المُشدد المفروض على الحقل الضخم. تسببت أدخنة النفط الملوثة في حدوث وفيات بمعدل ينذر بالخطر. تقوم شركات النفط العالمية التي تُشغل حقول النفط المختلفة في البصرة، سواء في الرميلة (الحقول الشمالية أو الجنوبية)، وحقل مجنون، وحقلي غرب القرنة 1 و2، أو حقل نهر بن عمر، بالتعاقد مع شركات أمنية محلية لضمان السَّلامة. ومع ذلك، تُكلَّف الشركات الأمنية المحلية باستمرار بقمع أو تهجير أو ترويع السُّكان المحليين إذا ما حاولوا اتخاذ إجراءات ضد هذه الشركات بسبب التلوث البيئي.
تعمل الشركات المحلية كميليشيات قبلية قمعية لدى شركات النفط العالمية، فهي تابعة لعائلات وعشائر مؤثرة وأحزاب سياسية مرتبطة بالميليشيات الإيرانية أو الجماعات الشِّيعية الأخرى. بينما استحوذت شركة روسية تعمل في حقل غرب القرنة، على 49% من أسهم شركة أمنية عراقية متورطة بارتكاب مخالفات أمنية وقانونية واسعة النطاق. علاوة على ذلك، فإن الشركات الأمنية الدولية في حقول البصرة النفط ضالعة على نحو كبير في إسكات صوت السكان واضطهادهم، في حين يستخدم جهاز الأمن الوطني العراقي (INSS) نفس التكتيكات بقسوةٍ أكبر، تحت غطاء المسؤولية الأمنية للدَّولة.
تدابير بيئية مشحونة سياسياً
رغم الأذى البيئي للنشاط الهيدروكربوني المُتزايد، وبموازاة الأطنان المتراكمة من الملوثات التي تجوب سماء العراق، مسببةً أمراضاً مستعصية لسكانه وارتفاعاً حرارياً مُفرطاً، يفتقر العراق إلى جرد وطني مُحدّث لانبعاثاته الدفيئة، إذ ما زال يعتمد "جرد الانبعاثات الوطنية للعام 1997". في الوقت نفسه، لا يمتلك العراق، سواء في هياكله المؤسسية البيروقراطية أو دوائر صُناع القرار من السياسيين والمجموعات النيابية، النيّة أو الخطة لصياغة وتشريع قوانين لتنظيم انبعاثات الكربون المتولدة من حقول النفط والغاز، أو أكاسيد النيتروجين والكبريت المنبعثة من محطات توليد الطاقة الكبيرة والمُتقادمة، والتي تحرق بدورها النفط الخام عالي الكبريت وزيت الوقود الثقيل.
يُصنف العراق كثاني أكبر دولة في العالم من حيث حرق الغاز بعد روسيا، بما يعادل 1.7 مليار قدم مكعب يومياً، مُقترناً بأعلى مستوىً من انبعاثات كربونية ومشاكل جودة هواء خطيرة. يعد حرق ما يقرب من 570 مليار قدم مكعب سنوياً من الغاز الحر مساهماً كبيراً في التلوث السريع والمدمر في البلاد. في 2020، مَثَّل حرق الغاز المهدور في العراق حوالي 2.5 مليار دولار من القيمة السنوية المفقودة، ما كان كافياً لتوليد أكثر من 10 جيجاواط من الطاقة التي تشتد الحاجة إليها. وفي الوقت نفسه، يستورد العراق ما يصل إلى مليار قدم مكعب يومياً من إيران لتوليد الطاقة.
وبالتالي، يرتبط السياق الجيوسياسي للصراع في المنطقة، ارتباطاً وثيقاً بالأزمة البيئية العراقية. إذ تَحوّلَ اعتماد العراق على واردات الغاز الإيرانية لتلبية توليد الكهرباء إلى جزء مُعقد من التوتر السِّياسي بين إيران والولايات المتحدة. ورغم الإعفاءات الدَّورية المؤقتة التي تمنحها واشنطن لبغداد من أجل استمرار شراء الطاقة، إلا أن الولايات المتحدة طلبت من العراق تحقيق "استقلالية الطاقة"، والبحث عن مصادر بديلة متنوعة بعيداً عن طهران، وهو ما يُفسر تسارع خطوات العراق البيئية المُسيّسة لهيكلة مسار حرق الغاز المتواتر، من بينها خطة مقترحة أعدتها Gaffney وAssociates & Cline في 2018 لحكومة العراق، على مدى خمسة أعوام لتحويل الغاز إلى طاقة بكلفة أكثر من 44 مليار دولار.
في 2021، وبسبب ضغط مباشر من الولايات المتحدة، بدأ العراق خطة سياسية خمسية تهدف إلى الاستثمار في الغاز المصاحب حتى العام 2026، عبر إضافة 400 مليون قدم مكعب يومياً إلى إنتاج شركة غاز البصرة ما بين 2023-2024، ومن ثم زيادة المعدلات إلى 2.6 مليار قدم مكعب يومياً بحلول عام 2026، بهدف رئيس يتمثل بوقف استيراد الغاز الإيراني، وبالتالي قطع التمويل. بالنتيجة، لم تكن أهداف الخطة ذات دوافع بيئية. سُرعان ما أدرك المسؤولون العراقيون أن احتجاز الكربون "مكلف للغاية"، ولا يمكن اعتباره حلاً وطنياً، لذا عُمِلَ على جدولة تحييد حرق الغاز إلى العام 2028، وخفض الميثان بنسبة 30٪ بحلول العام 2030.
عوائق تشريع سياسات مناخية لتحييد الكربون
أولى العقبات الصلبة التي تعيق تطوير سياسات مناخية حكومية تنسجم مع النظري الإنتاجية (supply-side theory) تتمثل في عدم إحراز تقدم في سَنّ إطارٍ تنظيمي تأسيسي، إذ إن قانون النفط والغاز الاتحادي ظل مركوناً منذ 18 عاماً بسبب الخلافات حول امتيازات الثروة والإيرادات والاستثمار وصلاحيات التَّصدير بين الحكومة الفيدرالية العراقية وأكراد الشمال. تأخرُ التَّشريع يعيق تطوير إطار تنظيمي شامل يهدف إلى التخفيف من الاعتماد المفرط على اقتصاد ريعي مُكرْبن.
العائق الأساسي الثاني ضد تشريع قانون الحماية البيئية أو خفض البصمة الكربونية، يتمثّل في أنه سيصطدم برغبة النظام السِّياسي المُلحة بزيادة الإنتاج النفطي، من أجل تدفق المزيد من الأموال لتمويل الموازنة العمومية، وتوسعة شبكة زبائنية الدَّولة والجماعات السياسية لتهدئة الاضطرابات عبر توفير المزيد من الوظائف الرَّيعية، وفي الوقت نفسه، إفساح المجال أمام الجماعات السِّياسية والمسلحة للانخراط في الفساد مع ضمان الإفلات من العقاب.
العقبة الثالثة تتمثل في المقاومة الشَّرسة المتوقعة من جانب شركات النفط العالمية. إذ إنَّ مطالبة شركاء الإنتاج النفطي باتخاذ المزيد من التدابير البيئية الحمائية يعني زيادة تكاليف الإنتاج المرتفعة أصلاً، مما قد يؤدي إلى تخارجهم من الحقول العراقية، نظراً لانخفاض الرِّبحية وارتفاع مستويات المخاطر مع قانون بيئي قد يفرض غرامات وتعويضات كبيرة على المنتجين. التهديد بـ"هروب رؤوس الأموال" هو استراتيجية النظام السِّياسي في تعزيز سرّديته وخطابه المناهض للبيئة من أجل تبرير حرق المزيد من النفط والغاز.
سياسة التَّناقض والإنكار
إذا كانت الاستراتيجية العالمية للحد من تغير المناخ تعتمد على "التخفيف (Mitigation)" و"التَّكيف (Adaptation)"، فقد يُنظر إلى النموذج العراقي باعتباره النموذج القائم على "التناقض (Contradiction)" و"الإنكار (Deniability)". حتّى بات الخطاب الرسمي يتعامل مع الأزمة البيئية على أنها "أزمة سياقية" تندرج ضمن أزمات البلاد التي يتم القفز عنها عبر تخليق أزمات جديدة. ووفقاً لتوصيف UNESCO (تقرير إدارة الجفاف - 2014)، فإن العراق يتعامل مع مشاكله البيئية عبر "إدارة الكوارث" وليس "إدارة المخاطر"، ما يؤشر على تشوه إدراكي وبنيوي عميق في أنماط تفكير الدَّولة وهياكل صنع القرار المتشعبة التي تفتقر للمساءلة والحوكمة.
أدت الأزمة البيئية المستمرة إلى اتباع نهج إشكالي، وأطلقت مقاربة تمييزية حادّة قائمة على المفاضلة بين عدم قدرة العراق على ضبط حركة سكانه الهاربين من قسوة المُتغيّر البيئي، وما بيّن السِّياسات المتخوفة من تحول العراق إلى منطقة طاردة مُناخياً في المستقبل المنظور. لذا، تهدف سياسة "التَّناقض والإنكار" إلى منح ضمانة للعملاء الدَّوليين، بأن العراق سوف يستمر كنقطة إنتاج نفطي مُتصاعدة بغض النَّظر عن المديات المُخيفة لتسارع الانهيار البيئي.
استجابة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، تعد وثيقة "المساهمات المُحددة وطنياً بشأن تغير المناخ (NDCs)" الإطار المؤسسي الرسمي الأساس للتعامل مع الأزمة البيئية والتلوث الكربوني. مع ذلك، ما يزال العراق بحاجة إلى تحسين معاييره في التشريعات والقوانين المتعلقة بالمياه والحفاظ على البيئة وتقليل الملوثات والانبعاثات الناتجة عن النشاط النفطي أو إنتاج الطاقة. لكن بمساعدة مؤسسية من الحكومة العراقية، وجدت شركات النفط العالمية المُسيطرة على حقول الاستخراج ثغرات قانونية لتجنب الكشف عن مديات حرق الغاز، وتأثير ملوثاتها، والعواقب البيئية الضارة الناتجة عنها.
وفَّر الفساد المؤسسي المستشري في العراق غطاءً شاملاً لشركات النفط العالمية يمنحها القدرة على التخلي عن الالتزام بالضوابط البيئية، عبر معادلة: المزيد من التلوث يقابله المزيد من الإنتاج.
خلقت الطبيعة الزبائنية للفساد في العراق وتوسع النشاط الاستخراجي إلى المناطق المأهولة، (جولتي التراخيص الخامسة والسادسة مثالاً)، اقتصاداً موازياً يعتمد على التشارك في استغلال التوسع النفطي والتلوث من قبل شركات النفط العالمية والسُّكان المحليين على حدٍ سواء. تدعم الحكومة الشركات النفطية العالمية عبر تحصين مناطق الإنتاج باعتبارها "أراض نفطية مُحرمة" وفقًا لقانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم (84) لسنة 1985. وكحلّ متاح وسريع الاستجابة، يقوم السُّكان المحليون بمساومة هذه الشركات للحصول على وظائف وعقود تجارية ولوجستية وأمنية مقابل استمرار تعرّضهم لمزيد من التلوث.
تُمثل البصرة مثالاً صارخاً يوضح الأثر الضَّار لسياسات الدولة العراقية الطاقوية. لقد تحولت البصرة إلى بؤرة للتلوث الشديد، وتحتل حالياً "أراضي المُحرمات النفطية" جزءاً كبيراً من أراضيها، التي باتت تتعرض إلى تجريف واسع للمناطق الزراعية واعتداءات على مصادر المياه السطحية. تهدف هذه الإجراءات إلى تجريف البساتين والمناطق المحيطة بحقول النفط، مما يتسبب في نزوح السُّكان وتعميق التغيرات البيئية، ليقود في النهاية إلى مزيد من الاستخراج غير النظيف.
مشاركة الحكومة العراقية في المبادرات البيئية والمناخية وسياسات الطاقة النظيفة العالمية قد توحي أو تعطي انطباعاً بأن البلاد ملتزمة بالانتقال إلى مصادر طاقة أنظف. لكن الحديث عن التحوُّل الطاقي قبل إعداد السياسات المتعلقة بها، ووضع الإطار التنظيمي لضمان نجاحها، يُعدُّ بمنزلة السَّير الثابت بعكس المسار، مُلقياً بظلال الشَّك على جدية الالتزامات الحكومية. إذ لا تخضع صناعة النفط لعقوبات صارمة أو متطلبات بيئية، حيث تفتقر وزارة البيئة إلى الاعتراف المؤسسي المطلوب من وزارة النفط والمستثمرين الأجانب لإنفاذ معاييرها.
في 2015 انضم العراق إلى تحالف المناخ والهواء النَّظيف (CCAC) وفقاً لمسار (NDCs)، ضمن صفقة مُسيّسة ومشروطة لخفض الانبعاثات بحلول 2030 - 2035 ما بيّن 1 إلى 2٪ فقط كمساهمة وطنية من طرف واحد تمثل حالة الإنكار الحكومي لحجم الغازات الأحفورية، وقد ترتفع إلى 15٪ مشروطة بحصول العراق على 100 مليار دولار كتبرعات من المجتمع الدولي مقابل "خفض الانبعاثات وتكييف القطاعات وتحقيق الأمن".
ورغم مشاركة العراق في مؤتمر باريس للمناخ 2015، بثلاث وفود حكومية متنافرة مَثلت تصدع المؤسسية الوطنية. لم يستطع العراق التوقيع على (اتفاق باريس) حتى أوائل 2021، لعدم جدولة الأزمة المناخية ضمن أولويات الصراع السياسي الناشب في البلاد، والخشية من تأثر الوتيرة المتصاعدة للإنتاج البترولي وإطلاقاته الكثيفة من الميثان والحرق اليومي للغاز المُصاحب، ما يفسر معارضة العراق الشديدة في مؤتمرات الأطراف الثلاث الأخيرة: COP27 وCOP28 وCOP29، للتخفيف والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، فضلاً عن ادعاءات بأن "ذلك يتعارض مع مبادئ اتفاق باريس"، لذا أثنت الحكومة على "المفاوضين الوطنيين" لجهودهم في حماية دور الوقود الأحفوري في التنمية، ومنع اعتماد "المقترحات الضَّارة" التي كانت تدفع بها بعض الدول المتقدمة، والتي من وجهة نظر الحكومة "ستضر بمصالح العراقيين".
ما يزال العراق بحاجة إلى تمويل مُناخي قُطري مُستقل. رغم إعلانات الحكومة باعتماد مسار استباقي خلال "مؤتمر المناخ في العراق"، الذي عقد في المدينة الأكثر تأثراً بالإنتاج الكثيف للكربون، البصرة، في آذار/ مارس 2023. إلا أن التقرير الوطني الطوعي الثاني لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لم يشمل تعزيز البيئة ومكافحة تغير المناخ. بالمقابل، خصصت الحكومة 255 مليون دولاراً فقط لدعم استراتيجية العراق الرابعة للأمم المتحدة، والتي تركز على تحسين الموارد الطبيعية، وإدارة مخاطر الكوارث، والتخفيف من آثار تغير المناخ. وفي الوقت نفسه، "رؤية البقاء" وتعزيز الاستثمارات النظيفة التي اقترحها البنك الدولي، تفترض أن العراق بحاجة إلى 233 مليار دولار بحلول 2040.
تضاؤل مشاركة المجال العام
يؤشر غياب مشاركة المجتمع المدني في قضايا المناخ إلى تآكل المجال العام باعتباره مساحة للنشاط الاجتماعي ضد عنف النظام وإفلات أدواته من العقاب. ومما يثير القلق، هو إحجام المجتمعات المحلية عن التعبئة ومقاومة التوسع في إنتاج الطاقة الملوثة، كحرق كميات كبيرة من الغاز في البصرة. يشير ذلك الإحجام إلى نهج انتقائي للتعبئة البيئية وانحيازاً لسردية الدَّولة، التي تُعطي الأولوية لزيادة الإنتاج من أجل خلق فرص العمل مع تجنب المناقشات حول العواقب البيئية لإنتاج النفط والثروة الوطنية. نتيجة لذلك، تم التعتيم على الكوارث البيئية التي تسببها حقول الإنتاج. بالإضافة إلى ما سبق، تعمل معظم المنظمات البيئية غير الحكومية في العراق ضمن الحدود التي تضعها الدَّولة وتتوافق أحياناً مع نهجها، مما يؤدي إلى تسييس القضايا البيئية.
التلوث محمي بقوة القانون والسُلطة الغاشمة. إذ تُسجل البصرة ومناطق أخرى، مثل ذي قار، ارتفاعاً مخيفاً في أعداد المصابين بالسرطان أو المرشحين للإصابة به. بالمقابل، تَمنع السُلطات أي نشاط احتجاجي مرتبط بوقف عمليات الإنتاج المُدمرة أو خفضها.
إحدى الطُرق لإسكات المُدافعين عن البيئة، هي استخدام أدوات مكافحة الفساد. مثلاً، في أيار/ مايو 2024، ألقي القبض على مدير بيئة البصرة راضي محمد راضي بتهمة الفساد بعد شهر واحد فقط من تعيينه. كان الدافع الرئيس، رفع راضي دعوى قضائية ضد شركات النفط العالمية في حقل مجنون بسبب تزايد حالات الإصابة بالسرطان بين السُّكان المحليين والعاملين في الحقل. بالمقابل، مارست مافيات النفط المرتبطة بالجماعات القبلية ضغوطاً كبيرة على راضي، الذي فشلت جميع محاولاته لتفتيش المواقع النفطية بموجب أوامر قضائية. منعت الشركات الأمنية والمجموعات القبلية المتحالفة مع شركات النفط العالمية دخول فرق التفتيش البيئي إلى النقاط التي تشهد ارتفاعاً مُضطرداً في معدلات التلوث ومخالفة المعايير البيئية. أعلنت السلطات بعد ذلك أنها اتهمت راضي بالفساد، وهو مؤشر مثير للقلق على أن السلطات تستخدم مكافحة الفساد لإسكات الأصوات والقضايا المتعلقة بالدفاع عن البيئة.
كمُحصلة نهائية، سيؤثر تحول العراق نحو اقتصاد منخفض الكربون على الوظائف والأنشطة التي تعتمد على إنتاج النفط، مما قد يُفجر مخاطر يمكن أن تهدد الاستقرار السياسي للبلاد، وتؤدي إلى تغيرات اقتصادية واجتماعية عميقة. نتيجة لذلك، تتردّد الحكومة العراقية في الانخراط في عمليات تحول أخضر واسعة النطاق، التي قد لا تتماشى مع اعتماد المجتمع الرَّيعي على الأموال الحكومية وإيمانه بمركزية الدَّولة. لذا، سيستمر الإنتاج الأحفوري في الهيمنة على المسار البيئي للبلاد وزيادة تعقيداته الآخذة في التنامي.