*[الشوفار: بوق مجوّف مصنوع من قرن الكبش يستخدم في الطقوس الدينية اليهوديّة].
وجّه الباحث اليهوديّ من أصل بولنديّ مردخاي كيدار (مواليد 1952 م) نقدًا حادًّا لاتفاقية سايكس –بيكو بصفتها خطأً تاريخيًّا فادحًا، وهي اتفاقية سريّة عُقدت عام ١٩١٦ بين بريطانيا وفرنسا، بموافقة روسيا وإيطاليا، وحدَّدت مناطق نفوذهما وسيطرتهما في تقسيم الولايات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وقد قُسّمت المنطقة إلى منطقتين بريطانية وفرنسية، مع وضع فلسطين تحت إدارة دولية.
وارتأى كيدار أنَّ هذه الاتفاقيّة هي سبب وجود دول مثل سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، ولكن لا يصح في رأيه قبول أيّ دولة من هذه الدول من حيث ماهيتها بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة القوميّة في أوروبا؛ ذلك أنَّ ظهور الدولة القومية في أوروبا كنموذج سياسيّ، جاء بعد تراجع الإقطاع وصعود القومية. وتتميز هذه الدولة بنظام حكم مركزي يوجِّه شعبًا يتشارك هُويّة وطنية جامعة دون عقبات ترجع إلى اختلاف العِرق أو الدِّين أو اللغة. ذلك أنَّ الأوروبيين استطاعوا بسبب تطورهم الحضاريّ والعلميّ والثقافيّ أن يتجاوزوا أي انقسامات عرقيّة أو دينيّة أو لغويّة ليرتقوا إلى مفهوم الشَّعب، إذ لا يمكن قيام دولة بالمعنى الحديث إلا على أساس وجود شعب يتجاوز انقساماته كافةً، ولقد نجح البريطانيون والألمان والفرنسيون في تكوين دولهم لأنهم بلغوا مستوى من الوعي متقدّم جدًّا مقارنةً بالعرب، لذلك عندما قسّمت اتفاقية سايكس-بيكو المنطقة إلى دول على الطريقة الأوروبيّة خلقت بؤر صراع لا تنتهي، لأنها وضعت جماعات من الناس مؤلفين من قبائل أو طوائف متناحرة في دول حديثة تحاكي الدول الأوروبيّة.
انطلق كيدار من فكرة ماكرة وهي أنّه لا يوجد شعب عراقيّ ولا ليبي ولا سوريّ، إلخ.. فمثلًا لا يوجد شعب سوريّ-في رأيه، بل توجد قبائل وجماعات عرقية كالأكراد والعرب والتركمان والأرمن في سوريا. كما توجد ديانات مختلفة، علوية ودرزية ومسيحية، وجماعات إسلامية كالسُّنة والشيعة، متمسكة بإطارها التقليدي، أي القبيلة والعرق والديانة والطائفة. لم يستوعب السوريون–كما زعم كيدار الدولة كمصدر لهُويتهم، ولهذا السبب فشلت الدولة في الوصول إلى قلوبهم، ولم يقتنعوا بالمفهوم الحديث عن الدولة، فكل جماعة من السوريين تريد تأسيس الدولة إمَّا على الدّين أو العرق أو القبيلة. وعليه، يرفض كيدار وجود شعب سوري، أي شعب واحد موحَّد. وارتأى أنَّ الأمر سِيّان بالنسبة إلى العراق وليبيا. وأوضح كيدار انطلاقًا من فهمه لعلم اجتماع الشَّرق الأوسط أنَّ ما يُسَمَّى شعوبًا عربيّة ليست إلا مجموعات من الناس لم ولن تصبح أمة واحدة قط.
ويطبق كيدار نظريته على الشعب الفلسطيني. ويزعم أنّه قام بإحصائيّة تتعلّق بالزيجات داخل فلسطين. فلا توجد–وفق تخرُّصاته-فتاة تنتمي إلى عائلة من الخليل تملك خيار الزواج من شاب ينتمي إلى عائلة من نابلس بسبب المحافظة على عصبيّة الانتماء. ناهيك عن غزة التي يُنظر إليها كبيئة مختلفة تمامًا عما يُسمَّى بالضفة الغربية، حيث توجد العديد من حالات التمييز العربي ضدَّ سكانها-وفق تقوّلاته-. وينتهي كيدار إلى أنّه لا وجود لشعب فلسطيني حقيقي، كما لا وجود لشعب عراقي أو سوري أو سوداني بالمعنى الأصيل!
ويقترح كيدار حلًّا للمشكلات التي تعصف بدول المنطقة، فلا يوجد حلّ في رأيه إلا على طريقة الإمارات العربية المتحدة، والسبب هو أن الإمارات هي الشكل الوحيد للدولة القادرة على العمل في الشرق الأوسط. الدول الحديثة كالدول الأوروبية لا تنجح لأنها لا تتناسب مع ثقافتها. ولا يرجع نجاح الإمارات-في رأيه-إلى النفط، فدبي مثلًا لا تملك نفطًا، بل بفضل استقرار الوضع الاجتماعي، لأن المجتمع قائم على قبيلة واحدة. بمجرد أن يكون لديك مجتمع قائم على قبيلة واحدة، سيعمل المجال السياسي. لكن غاب عن كيدار أنَّ المادة الأولى من دستور الإمارات العربية المتحدة تنص على قضية مهمة جدًا هي: "يجوز لأي قطر عربي مستقل أن ينضم إلى الاتحاد متى وافق المجلس الأعلى للاتحاد على ذلك بإجماع الآراء"، وهذا يعني أنَّ دستور دولة الإمارات العربية المتحدة يتبنَّى تمامًا مفهوم الوحدة العربيّة.
يتابع كيدار تشريحه السوسيولوجيّ لواقع المجتمعات المجزأة، كما في العراق، التي تتقاتل فيما بينها طوال الوقت، وهذا الصراع مستمر داخل البرلمان، ونتيجة لكل هذا، الاقتصاد فاشل. ويضع كيدار حلَاً لمشكلة الفلسطينيين من أجل اجتناب مشكلات دول مثل العراق وسوريا وليبيا، وذلك يكون عن طريق إنشاء إمارات للفلسطينيين داخل المدن. هناك إمارة واحدة وفق منظوره قائمة بالفعل في فلسطين، وهي غزة، والغزِّيون يعرفون جيدًا كيف يتعاملون مع قضاياهم قَبَلِيًّا. ومن هنا يطالب بأنه يجب أن يكون هناك حلٌّ آخر في الخليل، وآخر في أريحا، وفي رام الله، وجنين، وقلقيلية، ونابلس. هذا –وفق زعمه-هو الحلّ الوحيد المبني على علم الاجتماع، لا على أحلام الأوطان غير الموجودة.
يكشف كيدار عن نمط من التفكير الماكر الهادف إلى تمزيق العالم العربيّ، فهو يرفض أي رابطة جامعة بين شعوب المنطقة، فمفهوم القوميّة العربيّة غير مُجدٍ -في نظره لوجود أعراق غير عربيّة، ولذلك لا يمكن أن تكون العروبة، عرقًا أو لغةً، صالحة لحلّ المشكلات القائمة. كما إنَّ مفهوم الإسلام إذا طُرح بوصفه إمكانيّة للتوحيد واجهه كيدار بنقد مفاده أن هناك أديانًا غير الإسلام تعتنقها جماعات بشرية متعددة. هذا، إلى أنَّ الإسلام نفسه ينقسم إلى مذاهب متعددة، لم يتوقف الصراع بين أتباعها، لذلك لا يجد كيدار أيّ مبرر لقيام دولة عربيّة بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة، وهو يفهم سكان المنطقة بصفتهم أعراقًا متصارعة أو طوائف متقاتلة أو قبائل متناحرة، وهنا يظهر عُقم اتفاقية سايكس-بيكو، فلا بدّ إذن –كما يُفكِّر-من أن تُعيد القُوى العالميّة الكبرى وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكيّة النظر في خرائط المنطقة، والقيام برسمها من جديد لتكوين كيانات تقوم على أُسس عرقية أو طائفيّة أو قبليّة، وإذا تمَّ هذا الأمر ستنتهي في تقديره أسباب الصِّراع، وسيحلّ السلام في أرجاء المنطقة. وبذا تضمن دولة الكيان الصهيونيّ البقاء الأبديّ في منطقة تحوّلت إلى كيانات تتزعمها شخصيات محليّة.
يمكن هنا أن نحلّل أعماق تفكير كيدار، فهو يعرف أنَّ حضارات كبرى نشأت في المنطقة مثل الحضارة الكنعانيّة/الفينيقيّة في سوريا، والحضارات السومرية والآشوريّة والبابليّة في العراق والحضارة المصريّة القديمة، ولا شك في أنَّ الوجود العَرَضيّ لليهود في الرقعة الجغرافيّة التي شملتها هذه الحضارات لا يعدو في حقيقته أن يكون مجرد وجود كتابيّ ضخَّمته الرواية التَّوراتيّة على أساس افتراض وجود مملكة إسرائيل القديمة منذ عهد الملك شاول التي يرجع وجودها–حسب المزاعم إلى أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد، لكن عجز حتى علماء الآثار الصهاينة إلى يوم النَّاس هذا عن إثبات أيّ وجود لهذه المملكة، من هنا يمكن أن نكتشف عقدة إسرائيليّة تاريخيّة بإزاء هذه الحضارات، تحديدًا الحضارة الكنعانيّة/الفينيقيّة، فقد أثبتت الدراسات المعاصرة أنَّ أسفار التناخ أو الكتاب المقدس العبريّ مستمدّة في جزء كبير منها من ألواح أوغاريت على وجه التخصيص.
وعليه، نهضة شعوب هذه الحضارات العظيمة تشكّل خطرًا مُحدقًا على دولة الكيان الصهيونيّ، فلا يجب أن تُترك لها أي فسحة من أجل التقدّم، وإلا عادت إلى سابق عهدها وشكلت سدًّا منيعًا في مواجهة أطماع الاحتلال التي لن تتوقف حتى الوصول إلى إسرائيل الكبرى التي تُعدّ أساسًا جوهريًّا لإيمان اليهود، فهي الأرض التي وعد بها يهوه أبرام: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: "لنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ." (انظرْ تكوين 15: 18).
ولقد تبنّى دافيد بن غوريون مؤسِّس دولة الكيان نظرية إسرائيل الكبرى، ففي رسالة بعثها إلى ابنه عاموس كتبت في 5 أكتوبر 1937، تم الحصول عليها من أرشيف بن غوريون باللغة العبرية، وترجمتها إلى الإنجليزية مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 5 أكتوبر 1995 م، قال: "عندما نستحوذ على ألف أو عشرة آلاف دونم، نشعر بالابتهاج. ولا يزعجنا أننا بهذا الاستحواذ لا نملك الأرض كلها. فهذا الازدياد في الملكية له أهميته ليس في حد ذاته فحسب، بل لأنه من خلاله نزيد قوتنا، وكل زيادة في القوة تُسهم في امتلاك الأرض كلها. إن قيام دولة، ولو على جزء من الأرض، هو أقصى تعزيز لقوتنا في الوقت الحاضر، ودفعة قوية لمساعينا التاريخية لتحرير الوطن بأكمله."
الحقيقة أنَّ ما لم يفهمه كيدار ولا ابن غوريون من قبله أنَّ الرَّوح الحضارية للمنطقة مهما تعرضت للتدهور أقوى بكثير من أن تخضع لهذا النوع من التقسيم، ومهما نفخ كيدار في شوفاره فرحًا بتمزيق روح حضارات عظيمة، إلا أنَّ هذا النفخ لن يستدعي في نهاية المطاف إلا أوغاريت وآشور وطيبة ودمشق وبغداد والقاهرة.