[النص مستلّ من كتاب «مجرد وقت وسيمضي: يوميات السرطان» الذي صدر مؤخراً عن دار الرافدين، بيروت، 2025].
"تجربتي مع السرطان فتحت عينيَّ على المصطلحات المرتبطة به. كلمات مثل معركة، قتال، ناجي، فوز، خسارة، محارب، وما إلى ذلك. بينما تهدف هذه المصطلحات إلى مساعدة المرضى، شعرت أنها تحفز الشعور بالذنب والفشل في حالات أبعد من قدرة المريض على السيطرة. أولئك الذين ماتوا بسبب السرطان كانوا أقوياء أيضاً.. إن القول بأنهم خسروا المعركة يعني ضمنياً أنهم لم يقاتلوا بما يكفي من أجل مرض ربما لا يمكن علاجه بالدواء أو حتى بالحظ."[1]
-
ريما شيري، السرطان ليس معركة، وأنا لست مقاتلة
"سنحارب" كانت أول كلمة نطقتها زوجتي ابتهال بعد أن تجاوزت، وتجاوزنا معنا الصدمة، عندما أخبرتنا الطبيبة في قسم المعدة و الأمعاء في مستشفى هيرلو، بأنني مصاب بسرطان المعدة وانهم قرروا إحالتي إلى المستشفى الرئيسي في كوبنهاكن لتلقي العلاج هناك، وأن عليّ أن أنتظر أول موعد لمراجعة المستشفى خلال أيام قليلة. قدمت لنا الممرضة التي كانت ترافق الطبيبة كتيباً يتحدث عن حقوق المصابين بالسرطان في الدنمارك، لكن ابتهال رفضت استلامه بعصبية واضحة، وكأنها ترفض ما قالته الطبيبة، وترفض أن أكون مصاباً بالسرطان، بل أنها رفضت حتى النظر فيه أو تصفحه فبادر الصديق قيس النجار، الذي كان يرافقنا، بتناول الكتيب من الممرضة.
لم تذهب ابتهال معي إلى الموعد الأول في مستشفى كوبنهاكن الرئيسي، فذهبنا أنا وابنتي ديار. كان الجو عاصفاً بشكل كبير؛ مطر شديد ورياح عاتية تمنعك من الوقوف، بل تدفعك بقوتها الشديدة. فطلبتُ من ديار أن نذهب بسيارة أجرة تكسي حتى لا نتأخر بسبب الجو العاصف والأمطار الشديدة. تضمنت الرسالة التي وصلتني من المستشفى ثلاثة مواعيد في يوم واحد وبأوقات مختلفة؛ فحص للمعدة بالناظور، وتحاليل دم، من ثم لقاء لتلقي المعلومات العامة عن وضعي الصحي وسجلي الطبي، وهو تقليد يقوم به القسم الصحي الذي يقوم بمعالجة مرضى السرطان بتقديم إرشادات عامة، بل وتفصيلية إلى حد ما للمرضى الذين يصابون بالسرطان. كنت أعلم أنًّهم سيستخدمون مادة مخدرة في الفم والبلعوم أو من خلال الوريد اثناء فحص ناظور المعدة الأمر الذي سيمنعني من سياقة السيارة بعد الانتهاء من الفحص ولمدة ٢٤ ساعة لذلك طلبت من ديار أن نذهب إلى المستشفى ونعود إلى البيت بسيارة أجرة (تكسي).
الموعد الأول أثار حيرتي وارتباكي، كان في الساعة السابعة وأربعين دقيقة، أي قبل موعد بداية العمل المعتاد في المستشفى وهو الساعة الثامنة صباحا. كنت مشغولاً بناظور المعدة أكثر من أي فحص آخر، أنبوب بلاستيكي- نطلق عليه في العراق اسم كيبل- يدخلونه في المعدة عن طريق الفم، المادة المخدرة تساعد المريض على تحمل ألم اللحظات الأولى التي يُدفع فيها الأنبوب البلاستيكي لتجاوز منطقة البلعوم، وهذه المرة الثالثة التي أخضع فيها إلى هذا الفحص خلال عدة أيام.
في صالة الانتظار التي لم تكن سوى غرفة صغيرة حشر فيها عدد كبير من الكراسي والمقاعد الكبيرة والطاولات، وبنظرة خاطفة سيكتشف المرء نوعيتها المتميزة، وطبيعة التصاميم الفاخرة والثمينة التي تحرص الدنمارك على توفيرها في مؤسساتها وابنيتها، وفي قاعات الانتظار، وخصوصاً تلك التي يكون المواطن بتماس مباشر معها، او تلك التي تمتلك حساسية ما، كالمستشفيات أو مؤسسات وأقسام معالجة السرطان، حيث يكون الموت هو الفكرة السائدة التي تدور في فكر الإنسان. في تلك الصالة التي كنت أجلس فيها رفقة ابنتي ديار، كان ثمة لوحة كبيرة تتصدر واجهة المشهد، وتسرق نظر كل من يدخل، أو يجلس في صالة الانتظار، وتجعله في حالة توجس وفزع، وهو ينتظر لحظة منادته لفحصه أو التشاور معه على تفاصيل المرض وآثاره وعواقبه، لا على المريض فحسب، بل على كل ما يحيطه، وعلى وجه التحديد عائلته. أقول جلبت تلك اللوحة انتباهي، رغم ما كنت اعيش فيه من خوف، ليس لأنها لوحة فنية معروفة أو رسمت بمهارة وامكانية لونية واضحة، بل لأنها كانت مصممة بشكل يثير الشك والذعر في داخل كل من يشاهدها، خصوصاً نحن الذين نواجه مرض السرطان. ثمة جملة واحدة كتبت باللون الأبيض وتحتل منتصف اللوحة، وتكاد الجملة التي كتبت باللغة الأنكليزية وبالخط الكبير، تكوّن الجزء الأبرز فيها:
THERE IS ALWAYS HOPE
"هناك دائما أمل"
بدت حروف الجملة في اللوحة وكأنها تسيل إلى الأسفل، وكأن الفنان صاحب اللوحة أراد أن يجعل تلك الحروف وهي تسيل بهذا الشكل، حيث تتخلى عن لونها الأبيض، تعبر لنا، أو تحدثنا، عن الأمل، هذا الشيء المراوغ، الذي لا نعرف حقيقته، وطبيعة مزاجه، أو طريقة القبض عليه.. عن الأمل المضطرب، العصي، الذي يشغل بال المصاب بالسرطان وهو يشاهد حياته معلقة بهذه الحروف؛ الأمل!!! لحظتها بدا لي، أن ليس هناك أمل، سوى الابتعاد عن هذه اللوحة، والهروب منها، والجلوس، ربَما خارج صالة الانتظار.
كنت أنتظر في المكان المخصص للفحص وصول الطبيب الذي سيجري فحص الناظور. كانت الممرضة التي جهزت كل شيء تشعر بتأخر الوقت وبتأخر الطبيب، وتتحدث معنا أنا وديار عن معنى اسمي ومن أين جئت، وأين أعيش وعن عملي وعائلتي. لم يكن حديثها هذا من أجل تزجية الوقت حتى يصل الطبيب فقط، بل من أجل إشعاري بأنني في مكان آمن وأنّ التعاطف والمرح والابتسامات التي لم تفارق وجهها، هو جزء من عملها حتى يشعر المريض بالاطمئنان وأنه ليس وحيداً في مواجهة مرضه ومتاعبه. لحظتها، كنت اشعر وكأن الممرضة، بحكم خبرتها وتعاملها اليومي مع حالات ومرضى مثلي، كانت تدرك حالة الغضب الذي يشتعل بداخلي، كانت تدرك أن غضبي لم يكن موجهاً ضدها، بل ضد كل ما يحدث لي، كانت تدرك فزعي من تأخر الفحص والعلاج، حتى لو كان لعدة دقائق، بعد أن أيقنت أن لا حل لقيامي من السرطان سوى القبول بالعلاج وبكل ما سيقرّره الأطباء في هذا المستشفى.
وصل الطبيب، واسمه بيتر، وهو الذي سيجري لي فحص الناظور، والطبيب من أصل أمريكي، اختار أن يعمل في الدنمارك. يتحدث الدنماركية بلكنة أمريكية واضحة. ما أن دخل غرفة الفحص حتى كانت كلماته المرحبة تسبقه. تحدث معي بتأن وكأنه يعرفني منذ سنوات بعيدة، يضحك بصوت عال ذكرني بضحكتي التي أكاد أنساها. قال انه طبيب جراح وسيكون ضمن الفريق الذي سيشرف على علاجي. أوضح لي أنهم سيقومون باجراء الفحص وأخذ مجموعة صور للمريء والمعدة والاثني عشري، ولن نأخذ عينات للفحص، وشدد مضيفا: وكما اعرف، إنك ستتحمل هذا الفحص، لأنك أجريته عدة مرات سابقاً. لم يستغرق الفحص سوى دقائق، بينما، عانيت الويل في الفحص السابق الذي استغرق أكثر من أربعين دقيقة، شعرت وكأنهم يريدون اختراق كل شيء في بطني وأحشائي. مرت رعشة عميقة في نفسي بمجرد تذكر ذلك.
قال بيتر، سنلتقي غداً لنتحدث عن خطة العلاج، وفي هذا اليوم سيعقد اجتماع موسع لمجموعة من الأطباء الاختصاص لمناقشة حالتك والاتفاق على أفضل خطة علاج ممكنة. وعندما سألته مستفسراً عن المعدة والإصابة السرطانية، أجاب أنها في مكان خطير، ولذلك يجب أن نسرع في خطوات العلاج. ولم يخف عني شيئاً، وهذه هي حالة وعادة الأطباء هنا؛ التحدث بصراحة مع المريض وشرح حالته بشكل دقيق، ووضعه أمام مجريات الأمور بصدق.
لم تنفع محاولاتي لمنع زوجتي ابتهال من المجيء معي في موعد اليوم التالي، وأن أكتفي بأن يكون طيف معي فقط. لأنني كنت أخشى عليها من سماع ما يتعبها ويسبب لها الإرباك والخوف. خَرجت من غرفة نومنا وكانت كل ملابسها باللون الخاكي، وعندما فهمت نظراتي المستغربة قالت: (سنحارب).
في يوم موعدنا مع الطبيب الجراح بيتر، الذي لم يتأخر في الحديث عن خطة العلاج ونتائج الاجتماع الموسع الذي عقد يوم أمس. قال: خطة العلاج التي اتفقنا عليها: كيمياوي، عملية جراحية لإزالة المعدة بالكامل، ثم كيمياوي مرة أخرى، وستستغرق هذه الخطة عدة أشهر. لم يكمل بيتر حديثه حتى تدخلت زوجتي ابتهال مستغربة كلامه عنّ إزالة المعدة بشكل كامل، وأعادت عليه حديث الطبيبة في مستشفى هيرلو بأن العملية ستكون إزالة جزء من المعدة، القرحة والمكان المصاب بالسرطان، وقد لا نحتاج إلى العلاج الكيمياوي. لم تنفع تدخلات ولدي طيف لتهدئة أمه وإقناعها بالاستماع لما يقوله الطبيب. بدا بيتر متفهما لقلق زوجتي ابتهال وخوفها الواضح، لذلك حاول أن يستعين بالرسوم التوضيحية المعلقة على جدران الغرفة التي نجتمع فيها. أشار إلى صور المعدة، وراح يؤشر على المكان الذي سيُزال وعن عملية ربط المريء بالأمعاء. لم تقتنع ابتهال واعترضت من جديد، إذا كان قراركم إزالة المعدة فلماذا تبدؤون بالكيمياوي قبل العملية، لماذا لا تزيلون المعدة وتبدؤون بالعلاج الكيمياوي بعدها؟
كان قلق ولدي طيف بادياً بوضوح على وجهه، لذلك تدخل مرة اخرى لمنع أمه من مقاطعة الطبيب والاستماع إلى ما يقول، - "ماما ماما، خل الطبيب يكمل حتى نفتهم وضع بابا وشلون تصير العملية". تحدث بيتر، في محاولة لطمأنتنا، عن أشخاص أصيبوا بسرطان المعدة، هنا في الدنمارك ودول أخرى، وأنهم تخلصوا من السرطان ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي بدون معدة، وأن مستشفى كوبنهاكن له ارتباطات مع مستشفيات عديدة في العالم، ومراكز أبحاث متخصصة بالسرطان وهي مراكز متقدمة جدا، وأن إزالة المعدة، ثم إجراء العلاج الكيمياوي أثبتت فشلها في اليابان ودول أخرى، إذ تصعب السيطرة على الخلايا السرطانية خلال العملية، بل أن العملية وحركة الدم يجعلانها أكثر شراسة ويمكن أن تنتقل من جسم المصاب بالسرطان إلى أعضاء أخرى، لذلك فإن خطة العلاج الأكثر نجاحاً الآن، هي: كيمياوي، إزالة المعدة، ثم كيمياوي مرة أخرى.
هل اقتنعت زوجتي ابتهال بحديث الطبيب وعلميته وبالتجارب التي يتحدث عنها والخبرات الطبية التي يشتهر بها هذا المستشفى، الذي أتلقى العلاج فيه، وهو أحد المستشفيات التي يشار إليها في العالم، عندما يتعلق الأمر بعلاج السرطان وبروتوكولات العلاج والتشخيص ونسب البقاء على قيد الحياة المرتفعة، رغم شيوع أمراض السرطان في الدنمارك وتحوله إلى ظاهرة صحية واجتماعية مؤلمة جداً؟
كنت على يقين من إن زوجتي ابتهال عندما تتحدث بهذه الحرقة والتشكيك بكلام الطبيب عن علاجي فإنها تتذكر تجربتها المؤلمة مع العلاج والعمليات الجراحية الفاشلة التي أجريت لها بعد تعرضها لإصابات في كتفيها أثناء عملها في القطاع الصحي ودور رعاية كبار السن، وعجزها بالتالي عن ممارسة عملها الذي أحبته وقضت عدة سنوات لدراسة اختصاصها، وعملها لأكثر من خمسة عشر عاماً، ولكنها أصبحت عاجزة عن تحريك كتفيها ويديها بشكل طبيعي، الأمر الذي جعل الأطباء يقررون إحالتها على التقاعد المبكر.
لم أتحدث طوال فترة اللقاء مع الجراح بيتر، لم أنطق جملة واحدة، وكأنني تركت أمري ومصيري، وسرطاني ومعدتي، وعلاجي القادم والعملية الجراحية بيد من يجلسون معي في الغرفة. عملياً، كنت خارج مكان الاجتماع أفكر بما يقوله الطبيب وأتخيل حالي وجسمي ووضعي الصحي بعد نهاية فترة العلاج. في تلك اللحظات، كان كل همي هو تهدئة ابتهال وطمأنة طيف لما يقوله الطبيب، لأنني أدرك الوضع والحالة التي يعيشونها وأي أفكار يائسة ومضطربة تسيطر عليهم أو تحركهم، وأي ذعر يعيشون وهم يستمعون إلى ما يقوله الطبيب. لم يكن صمتي سوى تعبير عن عجز واضح ومؤكد، كنت أشعر بالاحتراق الذي يستعر بداخلي، وأنني غير قادر على التعامل مع من حولي أو مشاركتهم في القضية التي يتحدثون عنها، إذ كنت أنا القضية التي يتحدث عنها كل من في غرفة الفحص إلا أنا.
لم تكن المعدة هي ما يشغلني، ولا العملية الجراحية التي ستجرى لي، ولا أعرف كيف سيكون وضعي الصحي حينها، أو هل سيكون إزالة المعدة طوق النجاة من كابوس السرطان والعودة إلى الحياة من جديد، لذلك لم أتحدث عنها مع الطبيب، كان كل همي وفكري مسلطين على اللغم المزروع في معدتي. هل يمكن التخلص منه بالكامل، بعد العلاج الكيمياوي والعملية الجراحية، كيف سيكون وضعي بعد كل الجرعات الكيمياوية التي سأتلقاها؟ هل كان حديث الطبيب عن ثماني جرعات أو تسعة قبل العملية وبعدها، أم أن اللغم سيتمكن مني ومن خطة العلاج وسيتحول كل هذا الكلام إلى مجرد حشو ومضيعة للوقت؟
"سنحارب" لم يكن شعار ابتهال وحدها، بل كان شعارنا جميعاً كعائلة، ديار وطيف وأنا، الذي أرتدي الخاكي كلما حان موعد جرعة الكيمياوي وكأنني أستعيد الحروب التي خضت فيها، وفي كل مرّة كنت أنجو من كوارثها ومن الموت المحقق الذي كانت ترسله لينهي حياةَ جنودٍ يخوضون حروباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل. هل نجوت حقاً من الحروب؟ قطعاً كلا، فآثارها وندوبها وكوابيسها رافقتني ولا تزال ترافقني منذ أن غادرت العراق. لكن حربنا هذه المرّة مختلفة تماماً، سنحارب وسأقاوم من أجل قهر عدو يكمن بداخلي، ينتظر لحظة الانقضاض على فريسته وهزمها وتدميرها. كان قرارنا أن لا نكون الفريسة، كعائلة أو أنا بشكل منفرد. لكن هل أنا محارب أو جندي مستعد للقتال حقاً كي أعلن الحرب على السرطان على أمل أن أنتصر فيها؟ لست كذلك، لست محارباً، بل أنا مريض ومصاب بسرطان يرقد في معدتي ولا أدري كيف سيكون وضعي، نفسيا وجسدياً، عندما يكون هذا اللغم أقوى من الجميع. كنت الأضعف بين الجميع، وكنت أستمع إلى كل ما يقال، وكأنه يقال في مكان بعيد ولا يعنيني بشيء، كنت أغرق في وجوم منقطع النظير، كنت كمن يدخل في نفق مظلم ويعجز حتى عن البحث عن ضوء في نهايته.
لم يتوان طيف عن المجيء معي في كل المواعيد، وفي كل المستشفيات التي ذهبت إليها. تفرغ لي بشكل كامل مع أنه يبحث عن عمل ليمارس اختصاصه الذي درسه وأحبه. لم يكتف بهذا، بل انه لم يتوقف عن سؤالي عن وضعي وعن احتياجاتي واستعداده لتلبية كل شيء احتاجه من الاهتمام بمواعيد أدويتي ونومي وبطعامي ونوعيته، خصوصا الأيام التي تعقب الجرعات الكيمياوية حيث يتعذر عليّ الأكل إذ يتحول الطعام إلى عبارة عن كتلة من المرارة التي لا تطاق. كان يرافقني عندما أخرج للمشي في مدينتنا، وعندما يشاهدني وأنا محني الظهر ومطأطئ الرأس وأنظر في الأرض كمن يبحث عن شيء ثمين أضاعه، كان يضع يده على ظهري لكي يقومه، ويرفع رأسي حتى أنظر إلى الأمام، وعندما أشعر بتعب شديد وكأني فقدت كل طاقتي كان يجلس بجانبي فأضع رأسي على صدره وكأنني أستمد منه طاقتي التي فقدتها، وأشعر بالملاذ الذي يشعرني بأنني لست وحدتي.
كانت ابتهال تصرّ، رغم متاعبها وآلام كتفيها، على الدخول معي في صالات العمليات التي دخلتها، وكانت عمليات صغرى، الأولى كانت عملية جراحية استكشافية (اللابروسكوبي) بتخدير كامل، حيث قام الطبيب الجراح بإدخال كاميرات دقيقة لفحص جدار المعدة ومعرفة ما إذا كان السرطان الذي بداخلها قد انتشر خارجها إلى أعضاء أخرى أم لا، وقد جاءت نتيجة الفحص سليمة. وما أن أبلغنا الطبيب بهذه النتيجة حتى شعرت وكأن ابتهال تريد أن تطلق هلهولة فرح في ردهات المستشفى. أما العملية الثانية فكانت لزراعة جهاز قسطرة في صدري من أجل استخدامه لحقن العلاج الكيمياوي في جسمي وكانت العملية بتخدير موضعي. كانت معي في كل جلسات العلاج الكيمياوي، برفقة طيف أو ديار، وفي كل مرّة كانت تقول: "سنحارب"، وسننجح ونهزم السرطان.
هوامش:
[1]: نشر هذا المقال على موقع: https://medium.com/@rimacherri/cancer-is-not-a-battle-and-i-am-not-a-warrior-bf01ab5a49ad
والمقتطف المترجم مأخوذ من كتاب "أنا قادم أيها الضوء" الطبعة الأولى، دار الشروق، ٢٠٢٣، ص ٧٧، للطبيب والصحفي المصري محمد أبو الغيط الذي توفى وهو بعمر 34 عاماً بعد أن أصيب بسرطان المعدة ولم تنفع معه كل جرعات العلاج الكيمياوي التي تلقاها وكل العمليات الجراحية التي أجريت له واقتطعت الكثير من أعضائه.