تَعرض الحلقة الأولى من مسلسل حكاية الجارية المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتبة الكندية مارغريت أتوود مشهد اختطاف جون، امرأة ثلاثينية كانت تركض هي وزوجها وابنتها في أحراش الغابة هرباً من جنود جلعاد الجديدة، تقع جون في قبضة جنود جلعاد الذين يقومون باختطافها وأخذ ابنتها بعيداً دون أن تعرف ما إذا تمكن زوجها من الهرب أم أنه قُتِل. ثم ندخل في ديستوبيا أرض جلعاد بمشهديتها السريالية، نارٌ مشتعلة في الزوايا تلتهم المنشآت المفرطة في تقنيتها وحداثتها، مشانق معلقة هنا وهناك لرجال ربما هم عمال أو مهندسون أو محامون أو أطباء، سياراتٌ شبحية سوداء، جنودٌ ملثّمون بزي عسكري فاحم السواد وأسلحة مُوجَّهة، ونساء بجلابيب حمراء طويلة.
جلعاد الخيالية في رواية مارغريت أتوود هي دولة ثيوقراطية شمولية تنشأ بعد انهيار الولايات المتحدة بسبب مشاكل بيئية وعقم واسع النطاق يحدث نتيجة التلوث الإشعاعي. وتتخذ جلعاد من التفسير المسيحي المتشدِّد لكتاب العهد القديم وسيلة لِحُكم البلاد.ويتخذ فيها العنف الأصولي أبرز صوره ضد النساء اللاتي يُجَرَّدن من حقوقهن بشكل كامل.
تُساق النساء الخصيبات اللواتي يتم اختطافهن إلى المركز الأحمر حيث يتم غسل أدمغتهن بآيات كتاب العهد القديم، بِغرض تهيئتهن لطقس الإخصاب المقدس، والذي سَيتّمُّ به اغتصابهن الممنهج من قبل القادة، وهُنَّ مستلقيات بين ركب زوجات القادة العقيمات، في طقس ديني احتفالي يسبقه تلاوة آيات من العهد القديم بحضور الخدم.
النظام في جلعاد يعتمد على اقتباسات جزئية مأخوذة بحَرفيتها من الكتاب المقدس كالآية "لمّا رأت راحيل أنها لا تلد، غارت من أختها التي كانت تنجب لأبيهم يعقوب، فقالت ليعقوب: هات جاريتي بلهة، فَتَدخل عليها، فَتَلد على ركبتيّ، ويَكونُ لي منها ولد."
عبارة "تلد على ركبتي" استخدمت حرفياً في جلعاد، فالخادمة تنام بين ركبتي الزوجة أثناء الطقس الجنسي كأن الطفل يُنسب إلى الزوجة رغم أنها لم تحبل به .لقد استخدم النظام في جلعاد هذه القصة لتبرير طقوس الإخصاب القسري، وجعل من التفسير الحرفي للنصوص المقدسة ذريعة لتحويل المرأة فقط إلى وعاء للإنجاب.
النظام في جلعاد اختار قصة تدعم أيديولوجيته. فهذا النص هو الأساس الشرعي الذي تُبنى عليه فكرة الجاريات: نساء يُستخدمن كأرحام مؤقتة. ويجيء التكرار الرمزي لطقس الإخصاب ليكون محاكاة بصريّة وطقسية دقيقة لما جاء في نص الكتاب المقدس، فالزوجة تمسك الخادمة أثناء فعل الإغتصاب، لتأكيد أنها "المالكة الشرعية" للطفل، رغم أن الجسد المُنجِب ليس جسدها ولا يخصها.
ترتدي الجاريات الأثواب الحمراء الطويلة كرمز للدم وللخصوبة وللعار وللطمث وللعبودية المفروضة، كما يضعن عند خروجهن للتسوق قلنسوة على الرأس لتحد من احتمالات رؤية الأشياء من حولهن، وتماثل القلنسوة في وظيفتها الغِمامة التي تتم بها تغطية عيون الدوابّ لتحديد اتجاه نظرها وانقيادها.
تُظهِر الأثواب الحمراء الموحدة تحديد هوية الجاريات كممتلكات للدولة، وتُدمَغ أجسادهن بعلامات حَرق أو وسم تدل على وضعهن كجاريات، حيث تُظهر مشاهد المسلسل زرع شريحة أو دمغ علامة معدنية صغيرة خلف وداخل أذن الجارية، كوسيلة لتَتبُّعها والتعرف عليها كَمُلكية للقائد والدولة. شيء يُشبه وَسم الحيوانات أو العبيد.
لقد تم استيحاء الأثواب الحمراء من نظام البيوريتانيين (Puritans) في أمريكا، حيث كانت النساء يُجردن من الحقوق ويعاقبن بالجلد على ما يرتكبنه من أخطاء، استلهمت رمزية الأبيض والأحمر في حكاية الجارية في جلعاد من تلك الحقبة تحديداً.
في المركز الأحمر تتعرض الجاريات لعقوبات جسدية ونفسية مبرحة، كالجلد والضرب والتعذيب وحتى قطع الأعضاء (مثل قلع العين أو الختان) عند أي تمرد أو تجاوز يبدينه أثناء تدريبهن، وقد ينتهي الأمر بالجارية إذا حاولت الهرب أو قامت بالإجهاض إلى تعليقها على مشنقة عامة كمثال وعبرة، أو بإرسالها إلى المستعمرات للموت البطيء والمؤلم ببقايا الإشعاع النووي.
في محاولة لإلغاء الهوية تُجرَّد الجارية من أبنائها السابقين قبل اختطافها، وتُمنح النساء أسماء تابعة للقادة مثل جون التي يُلغى اسمها ويتحول إلى أوف فريد، أي جارية فريد، وتتغير أسماء الجاريات بتغيير تعيينهن لقائد جديد، كما تُحرَّم عليهن القراءة أو الكتابة، أو أي وسيلة من وسائل التعبير عن الذات.
تقوم مرشدات المركز الأحمر بتدريب الجاريات على مهماتهن في طقوس الإخصاب المقدس، وتأتي بعد ذلك نساء القادة ليثبتن أن القهر في جلعاد لا يتطلب رجالاً فقط، بل يحتاج إلى نساء يبررنه بحجج الأمن والأمان والحاجة لأطفال الرب المباركين. فالزوجة التي كانت خصبة قبل حدوث التلوث الإشعاعي، تتحول لمُشارِكة في بناء نظام الحكم الديني القمعي، من خلال نشر وتبني أفكاره لتنتهي بدورها لتكون ضحية من ضحاياه.
يعرض سياق المسلسل تباعاً اضطرابات بعد الصدمة التي تظهر على الجاريات، جانين التي يفقؤون عينها لسخريتها من التعاليم تصاب بحالة هيستيرية وانفصال عن الواقع تجعلها في حالة ذهان وفرح ،وتزداد حالها سوءاً عندما تنتزع منها طفلتها التي تلدها لأحد القادة. فعند كل عملية إنجاب تُلزم بها الجارية يُنتَزع الطفل منها ليبقى في بيت القائد المُغتصِب، ليتم إعادة تعيين الجارية في بيت قائد جديد.
تمر الجاريات بمراحل الإنكار لفظاعة الواقع كما تفعل أوفريد التي تحاول الانفصال عن جسدها أثناء الطقوس الجنسية، وخلق عالم داخلي تعويضي وهمي واستعادة الذكريات رغبة باستعادة شعور الكائن ذي المعنى قبل فقدان الإرادة. فالنظام لا يقتلها جسدياً بل "يسكن جسدها"، ويراقبه، ويعيد تشكيله وتنظيمه وإخضاعه.
ألفت مارغريت أتوود حكاية الجارية عام 1985، وصرحت حينها أنها لم تكتب شيئاً خيالياً بالكامل، أو ليس له جذور في الواقع. ففي فترة كتابة الرواية، كان هناك صعود لحركات اليمين الديني المحافظة في الولايات المتحدة الأميركية، أتوود كتبت الرواية كنوع من التحذير ضد احتمالية تحول المجتمعات الديمقراطية إلى أنظمة شمولية ثيوقراطية متطرفة.
أرادت التذكير أن السكوت عن الظلم يبدأ بخطوات صغيرة ، وقالت إن كل ما في هذه الرواية قد حدث سابقاً، أو يحدث الآن، أو يمكن أن يحدث غداً لو توافرت له الظروف .فهي لا تخترع نظاماً في الرواية ، بل إنها فقط تجمع عناصر واقعية من التاريخ وتعيد ترتيبها في صورة مستقبلية مرعبة.
الرواية هي إجابة أتوود عن ماذا لو نجح تماماً هذا التحالف بين التطرف الديني والسياسة، عالم جلعاد هو الإجابة.
هنالك لغة محددة تُستخدم في جلعاد، تُظهر كيف تتحول لغة الدين إلى لغة تبرير وقمع ، حيث تَظهر معاناة الشخصيات الداخلية لأنها تُجبَرعلى قول عبارات دينية وهي في الغالب غير مؤمنة بها، كالتحية "تحت عينه" (Under His Eye)، و التي تُشعِر الجميع أنهم تحت مراقبة العين الإلهية والتحية: "مباركة هي الثمار" (Blessed be the fruit) والتي تتبادلها الجاريات أيضاً كتحية تذكرهن بأدوارهن في الحمل والإنجاب.
عين جلعاد هي عين الرقابة على الأجساد واللغة التي تُشعِر الجميع أنها عين الإله، تُشعِر الجميع بالخوف والمراقبة، وتستخدم النفاق لتبرير الاضطهاد وتكميم الأفواه والحرمان من التعليم وقتل الكفاءات وسرقة الأطفال وتبرير العنف والإذلال الجنسيين.
نظام جلعاد يستخدم الدين بشكل انتقائي ومُشوَّه، ويقدم القمع كأنه إرادة الإله، فكلما ازدادت القناعة بأن ما يحدث هو أمر من الإله كلما ازداد الاستسلام له . لذلك النساء في جلعاد يشعرن بالذنب حين يتم اغتصابهن بدلاً من أن يشعرن بالغضب.
لجعل أوامر النظام في جلعاد تبدو إلهية كان لا بد من إعادة كتابة الحقيقة، يتم تزوير السجلات، تُمسح الوثائق ويتم تبديلها وإخفاء آثارها، ويتم تدريب وتدجين الناس على تصديق النسخة الرسمية من الواقع.
فالاستخدام المُحرّف للدين أخذ اقتباسات من كتاب العهد القديم، ووضعها خارج سياقها في محاولة لشرعنة القمع، وتم تزوير التاريخ باسترجاع انتقائي للماضي وإعادة صوغه من أجل بناء حقيقة بديلة، وتمت تغذية و تعزيز الخوف الداخليين من أجل رقابة شاملة، وعُمِدَ إلى طمس الهوية بتغيير أسماء النساء وتحويل وتحجيم أدوارهن الاجتماعية.
تحاول الرواية بشده التنبيه إلى أن الاستبداد لا يأتي فجأة بل يتسلل تدريجياً، فجميع الدكتاتوريات التي اعتمدت على تحريف الدين تكونت تاريخياً عبر مراحل مترابطة بدأت بأزمات سياسية أو اجتماعية هيأت الأرضية، وتلقَّفت ذلك جماعات تُسند سلطتها إلى الدين الذي يصبح أداة للشرعية، بالاعتماد على النصوص الدينية وبتأويل انتقائي لتبرير الاستيلاء على الحكم، وبعد ذلك يعُمد إلى استغلال "سلطة المطلق" في الدين لإضفاء القداسة على النظام السياسي.
وهنا يبدأ القهر الاجتماعي الذي غالباً ما يُمَارس تحت ذريعة حماية القيم أو صون التعاليم، فالجسد الأنثوي في الأنظمة المتشددة ليس إلا ملكية عامة تُدار ولا تُحتَرم ، والنصوص المقدسة في تلك النظم هي أداة سيطرة لا أداة إيمان، فقصة قديمة كقصة راحيل نبعت من سياق زمني معين تم استخدامها لبناء نظام عبودية متكامل حديث وتام الأركان.
الرواية تُحيل إلى قاعدة معروفة هي أن من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه أن يعيشه من جديد، حيث نرى في جلعاد نسخة مُحدّثة من التفسير الحرفي للنصوص المقدسة، الذي يعيد التبشير بالتمييز الجندري الذي كان في غابر الأزمان، إلا أنّه يَظهر هنا بشكل حديث ومقنن ومعولم ويقدم نسخة مُحدَثة لنظام عبودية قديم جداً.
العديد من الظواهر في الرواية تجعل منها نبوءة مرعبة ، في الرواية تُسلب من الناس إنسانيتهم عندما تُسلب منهم قصصهم، تُسلب منهم الذاكرة واللغة والتاريخ الشخصي، أي تُسلب منهم كل أسباب بقائهم. تقول آتوود في الرواية: "لا أحد يعتقد أن هذا الأمر سيحدث حتى يحدث بالفعل" مشيرة إلى الغرور التاريخي والانبهار الدائم بالتقدم، والتوقع الخاطئ أن الانهيار هو أمر مستحيل.
تقول أيضاً: "لا شيء يتغير فجأة في حوض استحمام يسخن تدريجياً، ستُغلى حتى الموت قبل أن تدرك ذلك." الانهيار يكون قد بدأ فعلاً ،لا بنزع الحرية دفعة واحدة بل بسلبها تدريجياً، يجد الناس أنفسهم وقد فقدوا حرياتهم بهدوء مرعب من خلال إعادة تشكيل وتوجيه التعليم وصياغة الأدوار الاجتماعية بناءعلى عقيدة الدولة الرسمية، حيث يتم قمع الفنون وتُلغى التعددية، ويتمّ تبرير السجون والإعدامات، ففي جلعاد يتم تعليق الصحافيين على المشانق المتدلية من الجدران في الشوارع العامة، كل من يختلف يُصنَّف ككافر مرتد عدو للإيمان وللإله، وكل المجازر تُرتكب تحت غطاء "الإرادة الإلهية".
في جلعاد المتخيلة، يصبح التقدم خطياً نحو ماض متخيل، وليس نحو أيّ مستقبل، تتحول العلاقات الإنسانية إلى أدوار محددة شرعياً فقط، يُكتَب العقد الاجتماعي وفقاً للتأويل الديني، ويقصى كل آخر.
تُفرَض الهيمنة الرمزية بفرض تأويل محدد وواحد للنصوص، وتُهمَّش العلوم الإنسانية والمدنية لصالح الخطاب العقائدي، يتم خلق العدو الداخلي وفق ثنائية مؤمن كافر، تُلغى الفردية، تُقمعُ النخب أو تُقتَل أو تَهرب، يُلغى الاحساس بالذات والكرامة الإنسانية. يَنقلب المجتمع إلى مسرح للقمع المنظم، وتفقد القيم الدينية معناها الحقيقي لصالح "إله جلعاد".