اعتادت عقولنا أن تستلهم من الغربيين روح نهضتهم وتنويرهم وحداثتهم وما بعد حداثتهم، وكأنَّهم النموذج الأعلى للإنسانيّة بصفتهم حُماة العدالة والحريّة والديمقراطيّة والباحثين عن نشر القيم الأخلاقيّة "الكوزموبوليتانيّة" بين الشُّعوب المتخلِّفة التي لم تتجاوز حدود طوائفها وأعراقها وقبائلها. لقد طرح الأوروبيون أنفسهم على أساس كونهم حاملي رسالة سامية تهدف إلى إنقاذ العالَم الشَّرقي من ظُلمات العذاب التي استجلبها الشرقيون لأنفسهم بحروبهم الدَّامية وتخلّفهم وخضوعهم لحكَّامهم الطغاة واستهلاك عقولهم في وعي غيبيّ أبعدهم عن فهم ماهية التكنولوجيا التي مَنْ يقبض عليها يصبح سيدًا على العالم، لذلك وبصفةِ الغربيين سادة العالم –وفق نظرتهم إلى أنفسهم-لا بدّ من أن يتدخّلوا في أي دولة شرقيّة لتغيير سلوكها بذرائع شتّى. ولذلك تتجلّى الحضارة الأوروبية/الأمريكيّة الآن أو بالأحرى تُجَلَّى وكأنّها الأمل الوحيد بعالَم أفضل يضطلع الإنسان الغربيّ وحدَه فيه بإنقاذ الإنسانيّة المهدورة في كلّ مكان.
لقد استولت الحضارة الغربيّة على أرواحنا، فنحن جوهريًّا لسنا سوى محاكاة للإنسان الغربيّ في كلّ شيء، أصبحنا نسخة مخيفة عنه، في طريقة اللباس وعادات الطعام وشكل العُمران واستخدام التكنولوجيا المتخلِّفة التي يبيعها لنا، بل أصبح الفعلُ الإبداعيُّ نفسه ينبثق فينا تبعًا لنماذج كرَّسها الغربيون في الشِّعر والفلسفة والأدب والموسيقى والفنون بوجه عامّ، ليس هذا فحسب، إذ حتى الكشوف العلميّة في مختلف فروع المعرفة أصبحت حكرًا على الغربيين، ولا يمكن لأحد أن يتحرك خارج الأنساق الكبرى لمراكز الأبحاث الغربيّة أو في أُفق العمل معها أو الخضوع لرقابتها.
لقد تولَّدت في أعماقنا قناعة بأنَّ هذا الصنف الإنسانيّ الأوروبيّ/الأمريكيّ رغم استعماره لبلداننا واحتلاله لها وإخضاعه لنا وتغليب إرادته على إراداتنا ودورة الحروب التي لا تنتهي التي أدخلنا فيها بذرائع ملوَّنة، إلا أنّه في الوقت نفسه -أعني هذا الصنف الإنسانيّ الأوروبي/الأمريكيّ عينه أصبح في وجداننا الرمز الأعلى للوجود البشريّ، ولذلك يجب أن نبقى في حالة تبعيّة له، سواء أكان ذلك عن وعي منّا أم عن غير وعي، وهذا يرجع إلى لعبة ماكرة –مخيفة إلى أبعد حدّ، فالغرب الأوروبيّ/الأمريكيّ وإن خرجت منه جيوش دمرت بلدانًا بأكملها إلا أنّه في الوقت نفسه يحتضن داخله مؤسسات إعلاميّة ومنظّمات وهيئات يسمح لها بأن تندِّد بهذا التدمير نفسه، ولئن استولى الغربيون من بريطانيين وفرنسيين وأمريكيين وغيرهم على ثروات وخيرات شعوب بلدان كثيرة، إلا أنَّ هناك نشطاء ومثقفين ومفكّرين من هؤلاء الغربيين أنفسهم ينتقدون بقوّة نهب حكوماتهم لحقوق الشعوب الضعيفة، وإذا دعم هذا الغرب الأوروبي/الأمريكيّ حكومات استبداديّة تقمع شعوبها، إلا أنَّ منظمات حقوق الإنسان الغربيّة كفيلة بأن تدافع عن المظلومين والمقهورين والمضطهدين من قِبَلِ هذه الحكومات الاستبداديّة أنفسها، بل تدفع باتجاه استقبالهم كلاجئين في هذا الغرب الغرائبيّ.
إنَّ التحديق في ماهيّة الغرب الأوروبيّ/الأمريكيّ يحتاج إلى مهارة كبيرة في الإبصار لكشف العناصر المكوِّنة لحضارة يجب إعادة النظر في فهمها على نحوٍ جذريّ من أجل نزع أوهامنا عنها والخروج من مَوْحِل تضليلنا بسببها وانخداعنا بها، فهي حضارة عنصريّة قامت على استعباد الأفارقة وإبادة السكان الأصليين ومساندة الصهاينة في قتلهم للفلسطينيين واحتلال أرضهم وطردهم من ديارهم، وهي حضارة لاهوتيّة مغلقة رغم كلّ دعاوى علمانيتها الزائفة لأنها بكلّ قوّتها تدعم إعادة "شعب الله المختار" إلى مملكة إسرائيل القديمة، انطلاقًا من إيمان راسخ شبه عام بين العامَّة والخاصَّة، وهي حضارة كولونيالية تقوم أساسًا على القوَّة العسكريّة وفرض الهيمنة والسيطرة على دول العالم كافةً.
لكن يمكن أن تكون أكثر ممارسة كولونياليّة مؤلمة ومثيرة للرعب وتدفع إلى اليأس المطبق على نحو يكشف ماهيّة الغرب الأوروبيّ/الأمريكيّ هي ما يُطلق عليه اليوم حُذَّاق تغطية الفظائع الاستعماريّة الغربيَّة اسم ethnological expositions أي المعارض الإثنولوجيّة، وليست هذه المعارض في حقيقة الأمر سوى حدائق حيوانات بشريّة بكلّ ما تعنيه هذه التسمية من معنى.
كان الألمانيّ كارل هاجينبيك (1844-1913 م) رائدًا في مجال إنشاء حدائق الحيوانات البشريّة، إذ موَّل في عام 1876 م حملة إلى السودان لإحضار عدد من السُّكان النوبيين لعرضهم في عدَّة مدن أوروبيّة مع مجموعة من الحيوانات من بيئة النوبة، ومن أجل أن يضمن مشهدًا متسعَ الطيف لمُشاهدي عرضه قام فريقه بضم مجموعة من أفراد شعب الإنويت من لابرادور Labrador Inuit وهو شعب يعيش في المناطق القطبية المعزولة. وطاف هاجينبيك بمعرضه الذي أسماه المعرض النوبي في أنحاء مدن أوربية مثل برلين وباريس ولندن وغيرها ووصل نشاطه إلى شيكاغو في أمريكا ليحصّل أكبر قدْر من الأرباح من امتهان الكرامة البشريّة بهذه الطريقة الشنيعة، ولقد لاقى معرضه إقبالًا جماهيريًّا كبيرًا على نحو يدلّ على انحطاط أخلاقيّ لا مثيل له في التاريخ في عصر كانت أوروبا فيه في أوج انطلاقتها الحداثويّة المزعومة. ولا شك في أنّه كلما مرَّ أمد من الزَّمن على استغلاله للأشخاص الذين يعرضهم لجمهوره اتّجه نحو تبديلهم بغيرهم لاستقطاب روّاد معرضه أكثر، لكنه لم يكن يُرجع هؤلاء الأشخاص إلى أوطانهم، بل كان يُعلن موتهم بحجج مختلفة مثل مرض الجدريّ أو غير ذلك.
لم تقتصر صَنعة حدائق الحيوانات البشريّة على الألمان وحدهم، بل امتدت المنافسة إلى فرنسا، إذ قام ألبرت جيفروي سانت هيلير (1835-1919 م) بإنشاء حديقة في باريس في عام 1877 م تُعرف اليوم باسم "حديقة التأقلم Jardin d'Acclimatation" وتقع غرب باريس، عرض فيها مجموعة بشريّة من النوبيين والإنويت من غرينلاند، واستطاع أن يستقطب عددًا كبيرًا من المتفرجين.
وتوالى إنشاء حدائق الحيوانات البشريّة في مختلف أنحاء العالم الغربي مثل المعرض الدولي للاستعمار في أمستردام الذي أُسس في عام 1883 م وعُرضَ فيه سكان أصليون من أمريكا الجنوبيّة، كما أمرت ملكة إسبانيا ماريا كريستينا بإنشاء حدائق الحيوانات البشريّة في إسبانيا وعُرِضت هناك مجموعات بشرية من شعب الإغوروت، وهو جزء من المجموعات العرقية المختلفة في جبال لوزون الشمالية بالفلبين، وفي عام 1908 م قام الأمير آرثر حفيد الملكة فيكتوريا بافتتاح حديقة حيوانات بشرية في حديقة سوتون بأدنبرة، وعُرضت فيه مجموعة من الأفارقة لتمثيل قرية سنغاليّة. ولقد استمر هذا النوع من المعارض حتى منتصف القرن العشرين وبذرائع مختلفة.
لكن المرعب في هذه المعارض أو حدائق الحيوانات البشريّة هي أنَّ المشرفين عليها كانوا يستفيدون من الأشخاص المعروضين حتى بعد موتهم، فكانوا يستقطبون جمهورهم عن طريق إقامة حفلات تشريح لجثث الموتى، فقد كان الجمهور الغربيّ يتحلّق حول جثة أحد الأشخاص، ويقوم طبيب متخصص بتشريح جثّة رجل أو امرأة أو طفل أمامهم مباشرةَ، وكان الغرض من ذلك هو الكشف عن الأعضاء الداخليّة من حيث اختلافها عن الأعضاء الداخليّة للإنسان الغربيّ المتفوِّق صانع الحضارة بقامته الفارعة وعينيه الملونتين وشعره الأشقر!
والحقيقة أنَّ ما يمكن أن يشعر به المرء حيال هذه الوحشيّة المرعبة لا يمكن أن تنقله الكلمات، لكن ما يثير السخريّة إلى أبعد حدّ هو أنَّ هؤلاء القوم الذين كانوا يعرضون البشر مع القرود والنمور والسلاحف في حدائق حيواناتهم البشريّة أصبحوا الآن أكبر مدافعين عن حقوق الإنسان فمنظمة مراقبة حقوق الإنسان Human Rights Watch بمدينة نيويورك لا يبعد مقرها كثيرًا عن حديقة الحيوانات البشرية التي تمَّ تأسيسها في عام 1901 م في مدينة بوفالو بولاية نيويورك.
والحقيقة أنَّ رحلةً في الزمن والجغرافيا من مقرّ منظمة مراقبة حقوق الإنسان Human Rights Watch في مدينة نيويورك إلى حديقة الحيوانات البشريّة في مدينة بوفالو التي تُعرف الآن باسم منتزهات ديلاوير بارك-فرونت، حيث يمكن أن يكشف المرء هناك دلالة وجود نسخة مصنوعة من البرونز من تمثال الملك داود لمايكل أنجلو هي رحلة تستحقّ العناء فعلًا، لأنها قد تكشف أسرارًا لا نعرفها، أسرارًا عن تحضير حدائق بشريّة من نوع جديد.