في وقت تتراجع فيه القيم الثقافية الابداعية في مجتمعاتنا وينشغل الناس بترقب القادم، وينتشر القتل والقمع وتنتشر الحروب الداخلية والإقليمية لا زال هناك من يعتقد بأهمية الشعر و وجوده بين الناس.
طه خليل يصدر ديوانه "جريح كالوديان" في معمعة التغيرات والتوقعات، كما لو أنه يضيف إلى المشاهد اليومية ما يراه ضرورياً.
حين تصفحت مجموعة "جريح كالوديان" لطه خليل، شعرت أنني كمن يفتح باباً في جدار قديم، ليس ليخرج منه الهواء، بل ليتسلل منه صمتٌ لم أسمعه من قبل، هذه القصائد لا تكتب عن الألم، بل تكتب بالألم، كأن الحبر في هذا الديوان لا يجف، هو مشبَع بالدموع المؤجلة، والخيبات التي تكتب نفسها من غير إذن:
"وأنت تذهب إلى الشعر... سرْ إليه حافياً
امشِ على رؤوس أصابعك
وتلمّس حواف المعاني
لمسَ الولهِ ماءَ العاشق في الليلة الأولى
كل قصيدة هي الليلة الأولى."
ليست هذه استعارات بل طعنات. لا يتحدث طه خليل عن الجرح كحدث خارجي أو تجربة منتهية، بل يعيشه كطبقة جلد، كامتداد داخلي لصوته، تتشكل القصائد كأنها وثائق نفسية، لا بلاغية؛ وكأن الشاعر لا يكتب، بل يتساقط على الورق.
أكثر ما يلفت في "جريح كالوديان" ليس الموضوع بل المعالجة، الشاعر لا يعوّل على بناء شعري تقليدي أو حبكة شعورية مألوفة، فبنية القصائد ليست هشّة، بل هي مثل زجاج مهشّم ما زال يحتفظ بصلابة معناه، بعض النصوص قصيرة، مقطوعة الأنفاس، لكنها محروسة بإيقاع داخلي خفي، لا يقوم على الوزن بل على النبض العاطفي، وعلى توتر الجملة.
"كأننا نسينا كيف كان حديثنا
كأننا جريحا حرب
كأننا على سريرين في مشفى
نخفي عن بعضنا وجع الشراشف
وخجل السيروم."
الجمل مشحونة بتوتر خفي، لا تقول كل شيء، لكنها توصلك إلى مكان مأهول بما لا يُقال. والتكثيف هنا ليس زخرفة بل ضرورة، كأن تجارب الحياة لدى طه خليل أوسع من أن تُقال، لذا يكتفي بتمثيل الحزن لا بشرحه، بإيماء الجرح لا بشرح سببه.
ليست القصائد في هذا الديوان تعبيراً عن منفى جغرافي فحسب، بل عن منفى لغوي ووجودي، المنفى هنا ليس مكاناً خارجياً بل شرطاً باطنياً؛ حالة شعورية تقيم في جسد القصيدة وتظهر في صور متفرقة: الغياب، الضياع، الاغتراب عن الذات.
"نحن أصحاب المزاج السيء أيتها البلاد
كنا إذا استيقظنا، نبادل صباح الخير بالشتيمة
نحن أولادك الذاهلون، أربعون سنة وحليبنا عناد،
وأرق
نحن أولادك النزقون، ندلق كؤوسنا على المارة
نودّع حبيباتنا بخدورهن
ونبكي عليهن وعليك آخر الليل يا أيتها البلاد."
مثلاً هذا النص لا يُعبّر عن حنين تقليدي بل عن صلة جرحية، علاقة من التقديس الخاص والندم، عن حب عنيف ودموع، والوطن هنا لا يعود كمكان، بل كذاكرة متعبة، كأم عنيدة نحبها رغم أنها تقسو علينا كثيراً.
طه خليل شاعر وروائي يكتب بلغتين: الكردية، التي تمثّل ذاكرته العميقة وهويته العاطفية، والعربية، التي تحضر في الديوان بوصفها لغة الكتابة لا لغة الطمأنينة.
"وكنتُ عاجزاً، كتلميذ، ومتأخّراً عن الدوام
كتلميذ أضاع محفظته، ولم يكتب درس القراءة
كتلميذ يكرهه المعلّم
ويعرف أن المعلّم يكرهه."
بهذا التصوير، تتحوّل علاقة الشاعر باللغة إلى علاقة مدرسية، حيث الكلمة ليست أداة للتعبير، بل امتحاناً متكرّراً. اللغة هنا لا تُمنح للشاعر، بل تقف كمعلمٍ صارم أمام تلميذ خجول، يحاول أن يكتب وجعه بصوت ليس صوته، وبحروف لا تشبه يده.
المكان: بين الخراب والحنين
في قصائد هذا الديوان، لا نجد وصفاً للمكان بحدوده الجغرافية، بل صوراً من ذاكرة عنيدة، تتكرّر وتتشظّى. البيوت تظهر كقواقع فارغة، المدن كأحلام نُفيت قبل أن تكتمل، والمكان لا يُستعاد كما هو، بل كما تفقده.
"تسحب الفرات كل يوم لغرفتها
وتتركني أنتظر السمك على الرمال."
الفرات لم يعد نهراً، بل طريقاً خفياً، تغلقه امرأة وتفتحه الذكرى. صورة المكان هنا موجعة، لا تصف الجغرافيا بل ما تبقّى منها في النفس. في إحدى القصائد يقول طه:
"كانت تصف لي الجبال
وكنتُ جريحاً كالوديان."
الشاعر نفسه، وقد صار جريحاً كالوديان، العنوان إذاً لا يحيل إلى كيان خارجي، بل إلى استعارة داخلية، تتحدث عن الانحدار، الاتّساع الصامت، والنزف الطويل، فالجُرح هنا لا ينزف دماً بل ذاكرة، وكالوديان ليس سوى اسم جديد لهذا الكائن المنفي داخل نفسه.
ما بعد القصيدة: أثر لا يُشفى
في نهاية هذا الديوان، لا يشعر القارئ بأنه خرج من قراءة شعر، بل من عبور عاطفي كثيف، القصائد لا تعطيك شعوراً بالخلاص، لكنها توحي بأنك لست وحدك، وأن الألم حين يُقال بهذا الصدق يمكن أن يصير مساحة مشتركة.
"ماذا أفعل بعينين لا تريانك؟
أنا الملك الأعمى.. يؤنسني عماي
تسعدني غمزات الحاشية: مليكنا أعمى
الظلام أنيسي البعيد
على نصل الغياب."
طه خليل لا يطلب من اللغة أن تنقذه، بل أن تشهد، وفي شهادته، نحن نرى أنفسنا، كأنما القصيدة ليست مرآة، بل ضماد لا يغلق الجرح بل يعترف به.