لقد أَوقعنا خضوعنُا الأكاديميّ للمرجعيّات الثقافيّة الغربيّة في وهم كبير وللأسف صدّقناه وهو أنَّ تاريخ الفلسفة بدأ مع اليونانيين، ولقد أرجعَ مؤرّخو الفلسفة الغربيون بدايتها إلى القرن السَّادس قبل الميلاد مع طاليس الميليتوسيّ Thales of Miletus (الأعوام 624 -548 ق.م) الذي يُعَدّ بالنسبة إليهم أوَّل فيلسوف في التَّاريخ؛ ولذلك زعموا أنَّ الفلسفة من حيث ماهيتها التاريخيّة إبداع يونانيّ صِرْف لم يسهم فيه أيّ شعب من الشُّعوب الشَّرقيّة، وبما أنَّ الأوروبيين يعتقدون أنّهم امتداد للحضارة اليونانيّة جعلوا الفلسفة اليونانيّة تراثًا خاصًّا بحتًا، ورسخّ كبار الفلاسفة الأوروبيين حتى منذ زمن أرسطو فكرة الانحطاط العقليّ للآخر، إذ كان أرسطو يصف الشَّرقيين بـ"البرابرة"، وأكّد هيغل مرارًا أنّه لا يمكن للشَّرقيّ أن يصل إلى مستوى الوعي بحريته، لذلك لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى التفكير الفلسفيّ، كما إنَّ مارتن هيدغر تمسّك بفكرة أنَّ الفلسفة هي "العلامة المميّزة للتَّاريخ الغربيّ"، ولا يمكن أن تكون ماهيَّة الفلسفة إلا "فلسفة أوروبيّة غربيّة". والحقيقة أنَّ هناك نظرة مغلوطة عند مؤرِّخي الفلسفة العرب استوردوها من الدَّوائر الاستشراقيّة وهي أنَّ العرب لم يعرفوا الفلسفة إلا بعد تأسيس بيت الحكمة في بغداد في عصر المأمون (786 م-833 م) وانطلاق حركة النَّقل والتَّرجمة-التي قامَ بها النَّقلة والمترجمون السِّريان-للمؤلَّفات الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة، وتكرَّست هذه النَّظرة المغلوطة أكثر حينما طُرِحَ الفلاسفة في الحضارة العربيّة/ الإسلاميّة بصفتهم شُرَّاحًا للمتون الفلسفيّة اليونانيّة بدءًا من الكنديّ (801-873 م) الذي وضع أوَّل قاموس فلسفي بعنوان "رسالة في حدود الأشياء ورسومها"، لكنه أوقع العقل العربيّ بهذا القاموس في شَرَك التَّبعيّة المطلقة للفلسفة اليونانيّة، ذلك أنَّه ربط بين كون الإنسان العربيّ مفكِّرًا وبين كونه فيلسوفًا، بمعنى أن يكون الإنسان مفكِّرًا في حقيقة الوجود يجب أن يكون فيلسوفًا بالمعنى اليونانيّ لهذا المصطلح، فقد تبنّى الكندي تعريف الفلسفة من جهة اشتقاق اسمها في اللغة اليونانية، أي –كما قال: الفلسفة هي "حبّ الحكمة، لأنَّ فيلسوف مركَّب من فلا (اقرأ فيلوس= φίλος، وهي مُحِبّ، ومن سوفا (اقرأ صوفيا= σοφία)، وهي الحكمة." (انظرْ: رسالة الكندي في حدود الأشياء ورسومها، نشرة عبد الهادي أبو ريدة، 1950). ليس هذا فحسب، بل كرَّس الكندي في قاموسه المصطلحات الفلسفيّة اليونانيّة بصفتها الأفق الوحيد للتفكير النَّظريّ، لذلك عِوَضًا عن أن يتَّجه التَّفكير في حقيقة الوجود عند العرب في أفق خصوصيّة الحضارة العربيّة بمناهج واستبصارات ورؤى إبداعيّة مبتكرة لتأسيس رؤية مختلفة ومتطوّرة بالقياس إلى الفلسفة اليونانيّة نكصَ هذا التفكير عينه إلى الوراء لإعادة إحياء فلسفة مُغرِقة في القِدَم قبله أكثر من ألف عام، وأصبح كبار الفلاسفة في الحضارة العربيّة/الإسلاميّة يُلقّبون بألقاب تدّل على تبعيتهم لفلاسفة اليونان، تحديدًا لأرسطو، فقد لُقِّبَ الفارابيّ بالمعلِّم الثانيّ، لأنَّ أرسطو المُعلِّم الأوَّل، ولُقِّب ابن رشد بالشَّارِح لأنَّ أرسطو أيضًا صاحب المتن المشروح، وما تزال هذه الألقاب سارية إلى يوم الناس هذا وكأنّها مدعاة للفخرّ! ولم تقتصر هذه التبعيّة على التُّراث الفلسفيّ العربيّ، بل امتدت إلى الفلسفة العربيّة المعاصرة حيث نجد أنَّ غالبيّة الفلاسفة العرب المعاصرين يُصنَّفون وفق معايير ترجع إلى التيارات الفلسفيّة الغربيّة المعاصرة، إذ عبد الرحمن بدوي يُعَدُّ وجوديًّا، وزكي نجيب محمود وضعيًّا، وعبد العزيز الحبابيّ شخصانيًّا، وهكذا دواليك. وهنا لا نزعم أننا ننكر على هؤلاء الفلاسفة العرب قديمًا وحديثًا إسهاماتهم الكبيرة، لكن ما نركِّز عليه هنا أنَّ هؤلاء الفلاسفة العرب من قدماء ومُحْدَثين فكّروا على مستوى المناهج والموضوعات في أُفق الفلسفة الغربيّة اليونانيّة/الأوروبيّة. لكن يجب هنا فهم سبب وقوع الفلاسفة العرب في هذا الشَرَك من التبعيّة؟
أُرجِّح أنَّ الفلاسفة العرب الأوائل قَبِلوا الفلسفة اليونانيّة بصفتها تراثًا فلسفيًّا مُطلقًا، لكن انصبَّ اهتمامهم بعد أن نَقَلَ المترجمون السِّريان المؤلَّفات الفلسفيّة اليونانية إلى العربيّة على استيعاب هذا المؤلَّفات وشرحها، ولكن لم يُفكِّروا بنقدها وكشف أصولها، وهذا يرجع أساسًا إلى وجود قطيعة كبرى بين العرب في العصر الوسيط وبين الحضارة الكنعانيّة/ الفينيقيّة، إذ يُلاحَظ أنَّ كبار المؤرِّخين العَرب مثل الطبري (839 -923 م) والمسعودي (896-956 م) وابن خلدون (1332-1406 م) لم يذكروا شيئًا عن حضارات مثل مملكة أوغاريت أو مملكة أرواد أو مملكة صور، إلخ.. فلم يكونوا على اطلاع على تاريخ الحضارة الكنعانيّة/الفينيقيّة، باستثناء إشارات عَرضيّة تخبر عن أنَّ الكنعانيين من "العرب البائدة" أو من "العمالقة الذين سكنوا الشام" وإلى ما هنالك، علمًا أنَّ المؤرِّخ اليونانيّ هيرودوت أكّد أنَّ أصل الفينيقيين يرجع إلى مناطق البحر الأحمر والخليج العربيّ وهذا هو الرأي المجمع عليه الآن بين كثير من المؤرِّخين، وذلك يعني أنَّ الفينيقيين من أصل عربيّ إلا أنَّ كبار الفلاسفة العرب في العصر الوسيط ربطوا أنفسهم بالتراث الفلسفيّ اليونانيّ دون أن يكون لديهم أي معرفة بأنَّ هناك تراثًا فكريًّا فينيقيًّا عظيمًا كان معروفًا بالنسبة لمجموعة من المترجمين الفينيقيين الذين نقلوا المؤلَّفات المكتوبة أصلًا باللغة الفينيقية إلى اللغة اليونانيّة-وللأسف تحوّلت إلى تراث يونانيّ من قبيل فيلون الجُبيليّ (64-141 م) الذي ترجم كتابًا فائق الأهميّة من الفينيقيّة إلى اليونانيّة وعنوانه "تاريخ فينيقيا" وهو من تأليف كاتب فينيقيّ اسمه سانخونياثون Σαγχουνιάθων يُرجَّح أنّه ازدهر في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، لكن كتاب "تاريخ فينيقيا" الذي ترجمه فيلون الجبيليّ تعرّض للفقدان، لكن لحسن الحظ بقيت شذرات منه في كتاب "الإعداد للإنجيل" للمؤرخ الكَنَسيّ الفلسطينيّ المسيحيّ يوسابيوس القيصريّ (265-339 م)، ذلك أنَّ يوسابيوس كان قد ألَّف كتابه من أجل غاية واحدة وهي هداية الأمم الوثنيّة للإيمان بالمسيحيّة، واستعرض في هذا الكتاب عقائد الفينيقيين من أجل نقدها، وشاءت الأقدار أن يستشهد بمقاطع من كتاب تاريخ فينيقيا لسانخونياثون الذي ترجمه فيلون إلى اليونانية، وبما أنَّ ترجمة فيلون للكتاب مفقودة، حفظ لنا يوسابيوس في كتابه شذرات بقيت من ترجمة فيلون كان قد أوردها سانخونياثون في كتابه "تاريخ فينيقيا" علمًا أنَّ كتاب يوسابيوس "الإعداد للإنجيل" كان قد ألَّفه يوسابيوس نفسه باللغة اليونانيّة.
لا ترجع هذه الشذرات إلى سانخونياثون نفسه، بل أوردها نقلًا عن مؤلَّفات فلسفيّة فينيقيّة قديمة ترجع إلى عصور سابقة لزمنه، ولقد أثارت هذه الشذرات التي تثبت وجود فلسفة حقيقيّة عند الفينيقيين موجة تشكيك هائلة عند الباحثين الغربيين، لأنها أكدت وجود فلسفة فينيقية ظهرت قبل الفلسفة اليونانيّة بقرون عديدة، بل أثبتت أنَّ هناك مقولات فلسفيّة رئيسة في الفلسفة اليونانيّة مأخوذة من الفلاسفة الفينيقيين القدماء، تحديدًا في مرحلة الفلسفة ما قبل سقراط ولم تتوقف موجة التشكيك هذه إلا بعد اكتشاف ألواح أوغاريت في عام 1929 م، إذ أثبتت صدقيّة سانخونياثون بسبب التطابق المذهل بين ما أورده في كتابه وما كشفته ألواح أوغاريت من تسميات ومصطلحات ومفاهيم.
ونكتفي في هذا المقام بإيراد المقطع الآتي من كتاب سانخونياثون "تاريخ فينيقيا" -كما أورده يوسابيوس في كتابه الإعداد للإنجيل - الذي يدلّ على نحو حاسم على أنَّ هناك فلاسفة فينيقيين تأملوا فعلًا في حقيقة الوجود، وسبقوا الفلاسفة اليونانيين بمدة طويلة:
"المبدأ الأوَّل للكون يفترض أنَّه كان الهواء المظلم مع السَّحاب والرياح، أو بالأحرى انفجار الهواء الغائم، والفوضى العكرة المظلمة مثل إريبوس Erebus؛ وكانت هذه خارج حيّز أي تعيينات لها ولم يكن لها حدود لعصور طويلة. ولكن عندما أصبحت الريح مفتونة بوالديها، كما يقول، وحدث خليط، سُمِّي هذا الارتباط بالرغبة. هذه كانت بدايةُ خلقِ كلِّ شيءٍ، وأما الرِّيح نفسها فلم يكن لها علم بتكوينها الخاصّ. ومن صِلاتها تكوّن موت Mot، الذي يقول بعضهم إنه طين، ويقول بعضهم الآخر إنّه عبارة عن عَفَن من مركَّب مائي؛ ومن هنا جاءت كل جرثومة الخليقة وتوليد الكون. فكانت هناك حيوانات معينة ليس لها إحساس، ونشأت منها حيوانات ذكية، وكانت تسمى "زوفاسمين Zophasemin"، وتعني "مراقبي السماء" وكانوا على شكل بيضة. كما انفطر موت متحوِّلاً إلى النور، والشَّمس، والقمر، والنجوم، والأبراج العظيمة."
يبقى أن نؤكِّد أنَّ مقارنة هذا المقطع الذي يتحدّث عن مبدأ أوَّل للوجود وانفجار كونيّ وتطوّر كائنات عُليا من كائنات دُنيا يفوق من حيث الأهميّة بكثير ما تبقَّى من شذرات الفلاسفة اليونانيين الأوائل من أتباع مدرسة ميليتوس التي أسسها طاليس في القرن السَّادس قبل الميلاد الذين كانوا يكتبون بالطريقة نفسها، علمًا أنَّ المؤرخ ديوجينيس اللائرتي صاحب أقدم كتاب في تأريخ الفلسفة وهو "سِيَر مشاهير الفلاسفة" ذكرَ أنَّ هيرودوت (484 -425 ق.م) وديموقريطس (460 -370 ق.م) وأفلاطون (427 -347 ق.م) أجمعوا على أنَّ طاليس-الذي كما ذكرنا صنّفه مؤرِّخو الفلسفة الغربيّة أنفسهم كأوَّل فيلسوف في التاريخ-ينتمي إلى أسرة "الثيلداي الفينيقيّة النبيلة"، أي كان طاليس نفسه فينيقيًّا. والحقيقة أنَّه لا بدّ من الرُّجوع إلى الينابيع المطموسة للفكر الكنعانيّ/الفينيقيّ الذي استولت عليه الفلسفة اليونانيّة بصفته التراث الحقيقيّ من أجل استعادة تاريخ الوجود للشروع في إعادة التفكير فيه. وبذا يتحقّق الانفكاك عن التبعيّة للفلسفة الغربيّة. ونختم بالقول إنَّ هناك تراثًا فكريًّا فينيقيًّا عظيمًا محفوظًا باللغة اليونانيّة من تأليف فلاسفة فينيقيين لكن وفقًا لترجمات أسمائهم إلى اليونانيّة على نحو يُوهم أنهم يونانيون استغلَ مؤرخو الفلسفة الغربيون هذا الإيهام وجعلوهم جميعًا يونانيين، لكن هذا يحتاج إلى مقام آخر لكشفه.