"لو لم أُعَرِّف نفسي بنفسي لَسَحَقتني خيالات الآخرين، و لأُكِلتُ حيّة".
-
أودري لورد
أفتتح بمقولة المعلّمة الملهِمة والغاضبة أودري لورد. وأنا المرأة، الأم، الفلسطينية، الغزّاوية، اللاجئة، النازحة، والناجية من إبادة ما تزال تبطش بشعب غزة، يعتمرُ قلبي بالغضب الجامح فيما أناضل نضالاً مركّباً ضدّ كل أنواع الاضطهاد، المركّب أيضاً، كوني امرأة ومن شعب مستعمَر أعيش في عالم طبقي رأسمالي ونيو-كولونيالي، اخترتُ أن أقتفي أثر المعلّمات النسويات التقدّميات والمناضلات من منظور أدبيات نسوية ما بعد الاستعمار أو نسوية الجنوب.
تلهمني المقولة في الافتتاحية. ولكم يصعب أنْ تعرّفي نفسَك بنفسِك في وجه هذه التيارات المضادّة، لكني أفعل ما بوسعي.
فمن أنا؟
أنا امرأة فلسطينية، وُلدت في مخيم النصيرات للاجئين في قطاع غزة في أواخر الثمانينات. أنحدر من عائلة عربية فلسطينية من قرية زرنوقة الواقعة في قضاء الرملة المحتلّة والمطّهرة عرقياً عام 1948 بعد هجوم من وحدة جفعاتي في 27 مايو/أيار أجبر جميع سكانها إلى المشي جنوباً نحو غزة.
إن صورة الآباء والأجداد، الأمهات والجدّات، وهم يجرّون الخطى الثقيلة بحسرة وخيبة أمل، وهم يحرصون على الاحتفاظ بمفاتيح بيوتهم، ما هي إلا صورة ذهنية جمعية حافلة بالألم تتشاركها الأجيال الفلسطينية في كلّ بقاع الأرض. أما كلمة "النكبة" فهي مفتاح أي طبيب/ة نفسي أو متخصص/ة في علاج الصدمات النفسيّة لدراسة أو علاج "التروما" العابرة للأجيال التي يعاني منها الشعب الفلسطيني برّمته.
إذاً، كانت صورة اللاجئة هي أول صورة واعية أفهمها عن نفسي. كما أنني من الجيل الذي أدرك وعيه اتفاقية أوسلو الموقّعة عام 1993 لكني لم أفهمها. كنت الطفلة التي تحبّ قراءة الجرائد وإن لم تفهم ما يُقال، وتتابع نشرة الأخبار مع الكبار بعيون لا تنام. كان الناس من حولي منقسمين، منهم من يهلّل بالحكم الذاتي التي ستتولاه السلطة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، ومنهم من يرى أوسلو بمثابة نكبة ثانية ليست سوى تسوية مُجحفة وبوّابة لمزيد من التنازلات لأنها تتصادم مع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بما يشمله حق عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم الأصلية وتعويضهم ولا تتطرق هذه الاتفاقية لحلّ مشكلة القدس، ناهيك عن إنكارها الكامل لوجود 1.4 مليون فلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، وتناسيها لحقوق فلسطينيي الشتات الذين لجأوا إلى خارج الأراضي الفلسطينية، وعدم تمكّنها من تحرير الأرض الفلسطينية التي قضمتها إسرائيل عام 1967. أي أن الجانب الفلسطيني لم يركز إلا على تأسيس السلطة الفلسطينية لكنه أجّل القضايا الكبرى كالقدس والاستيطان واللاجئين والحدود لمرحلة المفاوضات النهائية التي لم تأتي بعد. ( تفهّمتُ الشق المُعارض لاحقاً).
جاء هذا الوعي السياسي بحقيقة أوسلو متأخراً قليلاً عن وعيي الجندري الذي تأثّر بالقراءة والتأمل وحسّ المراقبة في بيئة تقليدية، غير مرحّبة بكثرة الأسئلة وبالخروج عن التقاليد الاجتماعية والسياسية. وبما أن وعيي الجندري بدأ تشكلّه في خضم نقطة اشتباك مستمرّة، فإن صورتي عن نفسي كفتاة متمرّدة على الوصاية الذكورية المتحّكمة بحياتها وخياراتها ولباسها وطريقة مشيتها لم تنفصل أبداً عن التمرّد ضد القوة الاستعمارية التي تضطهدّ الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه، وذلك حتى قبل أن تتوسّع قراءاتي، بل كانت بذوراً غرسَتَها التجربة المصحوبة بحسّ التأمل.
لاحقاً، فهمت أنّ الاحتلال الإسرائيلي هو وجه من وجوه الاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين التاريخية، أي أنه يطمح للاندماج الديموغرافي بيننا دون أن يكون لعرّابيه وأزلامه بلد يعودون إليه مثل أشكال الاستعمار التقليدية. ليس لأبنائه الذين ولدوا هنا بلدُ أجداد ليعودوا إليه، لأن أجدادهم هم يهود العالم الذين نُظّمَت هجرتهم إلى فلسطين. إذاً، إسرائيل الأصغر عمراً من جدي وجدتي ليست فرنسا في الجزائر أو بريطانيا في مصر، بل هي أمريكا وأستراليا اللتان قامتا على أنقاض السكان الأصلانيين بعد إبادتهم و/أو عزلهم لتحل محلّهم قوة أجنبية "متحضرة" تنتزع ملكية الأرض وهويّتها. ومن هذه النقطة وحدها استخلصتُ أن أوسلو لن تقود يوماً إلى حل عادل للفلسطينيين، وأن حل الدولتين الذي روّجته الاتفاقية ما هو إلا وهم كبير، حتى ولو كانت الدولة الفلسطينية على 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية. كما أدركت أنّ الإبادة الإسرائيلية عبارة عن استراتيجية مستمرة طالما ظل الشعب الفلسطيني يطالب بأرضه وحقوقه.
في العام 2006، أي بعد سنوات من تجربة أوسلو والعلم الفلسطيني والنشيد الوطني الفلسطيني والوظائف الحكومية والمناصب الوزارية المصحوبة بتراجع الإيمان بإمكانية الانتصار على إسرائيل المدعومة دولياً أو حتى المساواة معها، واستبدال عقلية الفدائي بعقلية الموظف الحريص على راتب آخر الشهر وتسديد القروض البنكية التي غرق في وحلها لشراء بيت العمر وربما سيارة وتعليم أبنائه، خاض الفلسطينيون في مناطق 1967 (غزة والضفة الغربية) انتخابات طالبت أمريكا بإجرائها، لكن فوجئ المجتمع الدولي بأن الفلسطيني وُلد فدائياً عندما رجحت كفة الفوز لصالح حركة حماس. شخصياً، أعرف الكثير من غير المتدينين ومن غير المنتسبين للحركة لكنهم منحوها صوتهم في دليل على التصويت للبديل (المقاومة) ضد الحاضر (المفاوضات)، وأملاً في إصلاح الفساد المجتمعي الداخلي. مذاك، خضع جميع سكان قطاع غزة لحصار برّي بحري جوّي عقاباً جماعياً على التصويت لحركة حماس، حصارٌ شاركت فيه دول عربية لطالما كانت داعمة لفدائيي فلسطين وأحرارها في عقود خلت.
نضجتُ تحت براثن الحصار، القاسي كثيراً على الأحرار. تعلمتُ وعملتُ وأحببتُ وتزوجتُ وأنجبتُ تحت الحصار، ونجوتُ من أربع حروب قاسية على غزة تحت الحصار. حاصرتني الأسئلة الكبرى، وعلى رأسها الأمومة وجدواها، التحرير وإمكانيته، القانون الدولي وفرص تطبيقه، والعالم وضميره. كان الحصار الثقافي أشدّ إيلاماً كلما هجست باحتمال أن يكبر الأطفال معزولين عن العالم. عاماً بعد عام، صارت تتقلّص مساحات التنوع في المجتمع رغم أنها حافظت على وجودها ولو على مضض. اجتماعياً، تحوّلت الناس إلى أشباه يتسابقون في سرعة إطلاق الأحكام. سياسياً، اختفى الفارق شيئاً فشيئاً بين اليمين واليسار الذي تمت محاصرة أغلبيته بمؤسسات المجتمع المدني وشروط تمويلها. نضجتُ ونضجتْ نسويتي وأمومتي، أما غضبي فهو كما كان دوماً: بركانٌ لا يخمد.
قبل ذلك بسنوات، تطوعتُ في حركة مقاطعة إسرائيل بي دي أس التي أثرت معرفتي بمفاهيم مفهوم التضامن الأممي واستراتيجياته، ومنحتني الأمل في ظلّ افتقار الفصائل الفلسطينية بكافة ألوانها لاستراتيجية تحرير واضحة. رغم أن حركة المقاطعة لا تطرح حلاً سياسياً لكني آمنت دائماً بأن الحقوق التي تطالب بها - إن طُبّقَت - ستفتح الطريق حتماً نحو حلٍ سياسيّ سيكون الأقرب لمنهجيتي في التفكير. آمنت بالقوة الناعمة مع عدم اعتراضي يوماً على أي شكل أو نوع من أنواع المقاومة. ثم تعرفتُ إلى طرح حلّ الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة في ظل استحالة تطبيق حل الدولتين، والذي يمنح المستعمِر حقاً في البقاء مقابل تفكيك القوة الاستعمارية ومقابل تخلّيه عن الامتيازات التي مُنحت له، ثم إجراء انتخابات لكل سكان فلسطين التاريخية بغض النظر عن العرق والدين والجنس واللون. تماماً كما حصل في جنوب أفريقيا حين عُزِل نظام الأبرتهايد الأبيض بعد حملة مقاطعة دوليّة ثم أُجبر على إجراء الانتخابات التي انتهت بفوز نيلسون مانديلا، أول رئيس أسود للبلاد وطويت صفحة الفصل العنصري إلى الأبد. كنت أشارك في ورشات العمل وأستمع وأتعلم وأشارك في النقاشات التي تدعو أيضاً للتعلم من أخطاء التجربة الجنوب أفريقية وضرورة التوزيع العادل للثروات كي تشمل العدالة كل أوجهها، وبالتالي التشديد على أهمية توسيع النضال ليشمل الأبعاد الطبقية والجندرية ولا يقتصر على البعد السياسي.
كنسوية، لم تصوّر لي أحلامي يوماً أن أعيش تحت حكم ديني قاسٍ، متجبّر على النساء ولا يتسامح كثيراً مع الحريات الشخصية، لكنني لم أفقد بوصلتي الوطنية. أؤمن أنّ حركة حماس جزء من موزاييك الوطن وأنظر باحترام نحو التوجّه الوطني للحركة بغض النظر عن اختلافي الأيديولوجي معها، حيث أنني وإن كنت على مسافة خلاف واضحة من رؤيتها السياسية احتفظت على الدوام باحترام لاستراتيجية المقاومة.
ورغم أنني من غير الداعمين لتأجيل سؤال المرأة إلى ما بعد التحرير، لأن العدالة بمفهومي لا تتجزأ على الإطلاق، إلا أنني لا أستسيغ مهاجمة التيارات الرجعية والذكورية قبل مهاجمة المتسببين بالحصار المادي والثقافي على النساء والرجال الفلسطينيين على حدّ السواء، والذي يصبّ عنفه على الرجل الفلسطيني الذي لا يجد متنفساً إلا في إعادة إنتاج هذا العنف على من هو أضعف منه. وذلك من باب التحليل لا التبرير. ولا يمكنني أن أتصرّف كمعارضة سياسية مع فصيل مُقاوِم أختلف مع بعض توجهاته وكأنني في دولة حرة وديمقراطية قبل أن أركز طاقتي على مجابهة الاستعمار. وإلا بماذا تختلف نسويتي عن نسوية هيلاري كلينتون و كامالا هاريس؟
لم أكن وحدي غاضبة. لقد سأم تسونامي اللاجئين من السجن مفتوح السقف، ومن تقييد حرية الحركة وشحّ الكهرباء وتفشي البطالة، وغياب المستقبل وحالة الفراغ السياسي المستفزّ، ثم تمادي إسرائيل بحق الأسرى والمقدسات وتنامي الاستيطان، فقررت المقاومة الانقضاض على السلك الشائك ومهاجمة القوة التي تسيطر على غزة وتوظّف أعلى تقنيات برامج التجسس والمراقبة، فانتشتْ بقدرتها على اختراق هذه المنظومة وإمكانية القضاء على جنودها المدرَّبين. واستيقظ العالم كله على هذا الحدث الجلل في السابع من أكتوبر عام 2023.
من وقتها حتى كتابة هذه السطور وقطاع غزة بأكمله يتعرّض لإبادة جماعية مستمرّة شملت النساء والأطفال والعاملين/ات في القطاعات الطبية والتعليمية والأكاديمية والصحفية، وتدمير في البنية التحتية وإعدام كل مقومات الحياة، كما يتعرض القطاع لحملة تجويع شرسة لم ترحم طفلة أو مُسنّة، عقاباً للعبد على رفع رأسه في وجه سيده. لكنّ غزة ليست عبدة، إن غزة - مهد اللاجئين - واقعة في مأزق لأنها المسافة الزمنية بين فلسطين والعالم، بين النكبة والإبادة، وربما بين النكبة والعودة. بين العالم وضميره وحقوق إنسانه. لا هي وافقت على مذلّتها ولا هي حصلت على عدالتها، لا هي أجادت تمثيل دور الضحية الصامتة ولا حتى سمع العالم صوتها عندما صرخت. ما يزال صوتها المسلوب في قبضة المستعمِر الإسرائيلي الذي يبني سرديته مثل أي قوة استعمارية على الكذب والتضليل، فيما تضيع طاقة الشعب المستعمَر في بحر تعقيدات اللغة وفي شرذمة القضايا المتعددة التي خلقها العدو في غزة والقدس والضفة الغربية والداخل والشتات تحت سياسة واحدة واستراتيجيات متعددة.
أتأمل في صورتي عن نفسي كناجية وليس كضحية، يتضاعف غضبها باستمرار لكنها ما زالت تناضل كما هو الحال دوماً من أجل استرداد صوتها، وجدتْ أخيراً إجابة سؤال الأمومة في صفحات الإبادة وقررت التوقف عن جلد ذاتها والإيمان بأن طاقة الأرواح المُضحيّة لا تضيع، بل تنتقل لأجساد الأطفال الجدد. ورغم أن هذه الأم الناجية حزينة على توريث أطفالها المحتمل لنوبات الصداع النصفي والقلق والتروما العابرة للأجيال وغيرها مما يُحمَل على ظهر الجينات الوراثية، إلا أنها فخورة بإيمانها وإصرارها على ألّا تورثهم الاستسلام وروح الهزيمة. بل إنّ جزءاً من مسؤوليتها يتمثّل في أن تبقى صلبة في حضرة أبناء هذه القضية التي قد يمتدّ تحريرها كما قال القائد الغائب الحاضر جورج حبش إلى مائة عام أو أكثر، وأنه على قصيري النفس التنحي جانباً. إلى ذلك الحين، أنا هنا أعيش.. وأحب.. وأحلم.. وأقاتل..