في زمن يزداد فيه القبح تفشيًا والواقع تعقيدًا، تأتي مجموعة "العاقرات ينجبن أحيانًا" للكاتب أحمد إيمان زكريا كصرخة مكتومة في وجه الصمت، وكشهادة سردية تستعيد للمهمشين لغتهم وللمنسيين حضورهم. العنوان وحده – "العاقرات ينجبن أحيانًا" – كفيل بخلخلة التلقي، يوقظنا من سُبات الطمأنينة، إذ يواجهنا بتناقض لفظي ومجازي في آنٍ، ليصوغ منه مشروعًا أدبيًا فريدًا. "العاقرات" يوحي بالاستحالة، بـ"نهاية الحياة"، بينما "ينجبن" يحمل نقيضه، "بداية الحياة". هكذا، ومنذ العتبة الأولى، يبدأ الاشتباك مع الواقع الرمزي والمعنوي للعقم والإنجاب، لا كحالات بيولوجية، بل كرموز للخلق والجدب، للقول والصمت، للولادة والمحو.
المجموعة الصادرة عن دار المرايا (القاهرة، ٢٠٢٤) تتأرجح بين الواقعي والغرائبي، بين الجرح العادي والتجريد الرمزي، بين ما يبدو بسيطًا سهلًا وبين ما يخفيه من مفارقات وشروخ عميقة. لا يُقدم أحمد زكريا قصصًا للراحة أو الفرجة، بل نصوصًا لمساءلة الذات والعالم، نصوصًا تضع القارئ وجهًا لوجه أمام عنف الواقع، وأمام هشاشة الإنسان المعاصر. القصص في مجملها أشبه بأحلام متكسرة، أو كوابيس مفككة، تخرج من رحم الألم، وتكتب ضد النسيان، ضد الصمت، ضد العقم بمعناه الأخلاقي والإنساني والرمزي.
ومن هنا تنطلق قراءتي لهذه المجموعة: من الكتابة بوصفها فعل إنجاب رمزي، ومن الحكي باعتباره مساحة استعادة للذات، للكرامة، وللمعنى، في زمن يغتال فيه اليومي والبيروقراطي والسلطوي كاحتمال للحياة. لا تُسائل هذه القصص الواقع فقط، بل تسائل اللغة ذاتها، حدود التمثيل، وآليات السرد. إنها مجموعة تُراهن على التوتر، على الكسر، على الألم. لكنها لا تغرق في البؤس، بل تستنطق المفارقة، وتحفر في الذاكرة، وتخلق جمالها الخاص: جمالًا جريحًا، صادقًا، بلا زينة زائفة.
ومن أبرز سمات هذه المجموعة قدرتها على صنع المفارقة، فالقصص "صادمة في بساطتها"، لا تلجأ إلى البكائية أو الفجاجة، بل تسير بهدوء نحو الجرح على الرغم من سهولة اللغة وشفافيتها. السرد في هذه المجموعة يتسم ببساطته. يراهن أحمد إيمان زكريا على الاقتصاد اللغوي، على التقاط لحظات "انكشاف" نفسي أو اجتماعي، تتكثف في نهايات مفتوحة أو صادمة، تُجبر القارئ على التورط الأخلاقي والتأمل العميق. لا توجد حبكة تقليدية بقدر ما توجد حالة شعورية متوترة، تعيد ترتيب علاقة القارئ بالعالم. تتوزع الموضوعات ما بين العنف الأسري، الاغتراب الطبقي، الأمومة المستحيلة، العلاقات السامة، إلى جانب رصد مكثف للهشاشة الإنسانية في المجتمعات المعاصرة والتفاصيل الواقعية الموجعة. والنبرة العامة للنصوص تميل إلى السوداوية، لكنها ليست سوداوية استعراضية، بل كاشفة، صادقة، تهدف إلى فضح المسكوت عنه، إلى مساءلة تناقضات الواقع بدل التصالح معها. الكتابة هنا لا تواسي، بل تخلخل، تهز القارئ وتضعه أمام مسؤولية الفهم والمساءلة.
النص والقراءة: من الجرح إلى الجدل
منذ الصفحات الأولى، تُعلن مجموعة "العاقرات ينجبن أحيانًا" أنها لا تسعى إلى الترفيه أو الحكاية التقليدية، بل تتخذ موقعًا مواجهًا، ناقدًا، ومُفككًا لبنية العنف الذي يتخفى في تفاصيل الحياة اليومية. الجملة الافتتاحية: "بشاعة العالم والواقع تجعل ممارستنا اليومية العادية جحيمًا يتجاوز تصورنا عن النار" (ص ٥) تمثل إعلانًا سرديًا صريحًا عن أطروحة الكتاب بأكمله. هنا لا يعود العنف حدثًا استثنائيًا، بل هو جزء لا يتجزأ من المعيش، من الروتين، من اليومي. لا وجود هنا لبطل تقليدي ولا لذروة درامية تُنهي التوتر، بل نصوص مفتوحة على الاحتمال والوجع، حيث كل شخصية هي مرآة لحالة وجودية مأزومة، وكل لحظة يومية هي فرصة لاختبار حدود القهر. فيصير السرد استجواباً مستمراً للواقع، وعين يقظة تفضح المسكوت عنه في التفاصيل العابرة. تُذكرنا هذه المقاربة السردية بمنهجية فوكو في فضح علاقات القوة المضمنة في الخطابات والمؤسسات. فكما فضح فوكو عنف السجون والمصحات والمدارس بوصفها أدوات انضباطية تنتج "الطبيعي" وتُقصي "الشاذ"، تقوم قصص أحمد إيمان زكريا بتعرية ما هو مألوف، لكشف بنيته القمعية. إنها كتابة ضد التطبيع مع الألم، ضد الألفة مع القهر. وبدل أن تُغرق القارئ في الشفقة، تدعوه إلى تفكيك منطق العنف، إلى طرح الأسئلة: من يملك حق الحديث؟ من يقرر معنى الحياة؟ من يُنتج الألم ويعيد إنتاجه؟ بذلك تتحول "العاقرات ينجبن أحيانًا" إلى كتابة تقاوم، لا لأنها تروي المعاناة فقط، بل لأنها تُسائل بنيتها، وتعيد تأطيرها، وتكشف كيف يصبح المقموع ناطقًا، وكيف تتحول الكتابة إلى فعل رمزي مضاد – لا مجرد شهادة، بل أداة تفكيك، وعدسة تحليل، ومساحة استعادة للكرامة والذات.
ساعة تنبض وسط الأنقاض: عبثية التوقيت والنجاة في "سعد الساعاتي"
في قصة "سعد الساعاتي"، يضع أحمد إيمان زكريا القارئ أمام مفارقة قاسية بين دقة الزمن وهشاشة الحياة، بين الحرفة التي تسعى لترويض الوقت، والطبيعة التي تُمزق تلك الأوهام بلحظة. فالساعاتي، ذلك الرجل الذي "يرى نفسه مثل الجرّاح الذي يعالج التروس" (ص. 15) ويعيد الحياة إلى الساعات التالفة – يجد حرفته تنهار أمام زلزال مباغت، يقتل 368 شخصًا ويهدم أكثر من 180 منزلًا (ص. 23). هذه الكارثة ليست مجرد خلفية سردية، بل تدخل كبنية مضادة لفكرة التحكم البشري بالزمن والمادة، وتفكك وهم السيطرة الذي يحيط بمهن تبدو عقلانية ومنظمة. في هذا السياق، يتحول الزمن من منظومة قابلة للضبط إلى كيان منفلت، عبثي، قاسٍ. الساعات التي طالما كانت رموزًا للنظام والترتيب والدقة، تتحول فجأة إلى شواهد على العجز الإنساني. المشهد الذي يُدفن فيه الجار المتفائل تحت الأنقاض – الرجل الذي كان يردد بابتسامة ساذجة: "الحياة حلوة، حتى لو فيها زلزال وناس هتموت، كلنا هنموت، أنت عارف مصر عدت عليها كم زلزال؟ أكثر من 50 زلزال" (ص ٢٣) – يفضح لا عبثية الموت فحسب، بل عبثية الأمل الذي لا يعترف بالفجائع. وتبقى من هذا الجار بقايا لا تُنبئ بالحياة: نظارة مكسورة، جريدة قديمة، وساعة يد ما تزال تدق. هنا تبلغ المفارقة ذروتها "يد محشورة وسط الأسمنت والتراب والحجارة... ساعة جراند سايكو تتحرك عقاربها بكل رشاقة وسط هذا الحطام." (ص ٢٥). الساعة التي تنبض وسط الأنقاض تصبح رمزًا لزمن ميتافيزيقي – لا إنساني، لا يتعاطف، ولا ينتظر، بل يستمر بصمت، رتيب، جاف، فوق الموت والحياة. لكن القصة لا تتوقف عند المفارقة، بل تنقلنا إلى مستوى رمزي أعمق: استعادة "سعد" للساعة وارتداؤه لها، بعد أن نزعها من يد جاره الميت، ليس مجرد تصرف عملي، بل فعل نذري، شبه شعائري. لقد ورث الزمن، لا كميراث مريح، بل كعبء أخلاقي ووجودي. في هذا المعنى، تقترح القصة قراءة فكرية فلسفية للنجاة: النجاة ليست خلاصًا، بل عبء. والساعة ليست رمزًا للحياة المستمرة، بل شاهد على الفقد، على هشاشة الإنسان أمام قوى أكبر منه. إن هذه القصة، بحبكتها المحكمة ولغتها المتقشفة، تفتح أبوابًا فلسفية وتأملية في معنى الزمن، الفقد، والنجاة.
القتل كتحرر جسدي وولادة رمزية في "نار هادئة"
تأتي قصة "نار هادئة" كواحدة من أكثر قصص العاقرات ينجبن أحيانًا جرأةً واستفزازًا للحدود الفنية والأخلاقية، حيث تتحول جريمة القتل إلى طقس تحرر نفسي وجسدي، وإلى لحظة تأسيس ذات جديدة. الزوجة المضطهدة، التي عاشت في ظل عنف زوجي طبقي متجذر، تنتقل من موقع الضحية إلى مركز الفعل من خلال قتل زوجها الثري المتسلط، وتشريح جسده، وتحويل لحمه ودمه إلى صابون وكعكة. لكنها لا تتوقف عند القتل كفعل عنفي، بل تعيد تشكيل العلاقة مع جسدها ومع العالم عبر هذه الطقوس التي تمتزج فيها الجريمة بالفن والكتابة: "استحممت بالصابون المصنع من جسد زوجي المقتول... كي أعود للكتابة من جديد" (ص ٣٦). بهذا المشهد الصادم، تقلب القصة معادلة السلطة: الجسد الذكوري الذي كان أداة للهيمنة، يتحول إلى مادة أولية، إلى شيء منزوع السيادة، تُعيد المرأة تشكيله حرفيًا، وتغتسل به كي تولد من جديد. ليس الانتقام هنا مجرد ثأر شخصي، بل هو تفكيك رمزي للنظام الأبوي، وتحرير للجسد الأنثوي من وصايته التاريخية. الزوجة لا تستعيد جسدها فحسب، بل تُعيد إنتاجه في فعل مزدوج: فني وجسدي. تشتغل القصة على مستويات متعددة من التأويل. من جهة، يمكن قراءة القتل بوصفه ذروة رمزية لرفض الخضوع، وكسراً للدوائر المغلقة للعنف الزوجي. ومن جهة أخرى، يتخذ الجسد الذكوري صفة "المادة الخام"، حيث يصبح مُستهلكًا لا من أجل اللذة، بل من أجل إعادة ولادة ذات نسوية جديدة. إن اللحظة التي تستحم فيها البطلة بالصابون المصنوع من جسد الرجل الذي قهرها ليست مجرد فعل غرائبي، بل هي إعلان استقلال وجودي، وانعتاق داخلي عميق. فالكتابة، التي كانت متوقفة، تنتظر هذا التحول الجذري كي تُستأنف، لتعود الكاتبة إلى ذاتها لا بالورق والقلم، بل بالدم والجلد والرائحة. القصة بذلك لا تقدم القتل كفعل شيطاني، بل تُفرغه من بعده الإجرامي وتُلبسه رداءً وجوديًا، يجعل من الجريمة وسيلة لا للخراب، بل لإعادة تدوير العنف نفسه وتحويله إلى تمكين سردي. "نار هادئة" ليست قصة عن القتل بقدر ما هي قصة عن استعادة السيادة. عن امرأة تصوغ جسدها وحياتها من جديد، لا في مواجهة الرجل فقط، بل في مواجهة اللغة، والتاريخ، والمؤسسات التي جعلت من النساء دومًا موضوعًا لا فاعلًا. وهكذا، يتحول الجسد في القصة من مساحة قهر إلى أرضية للكتابة، ومن ميدان انتهاك إلى مختبر خلْق، لتُصبح الكتابة ذاتها فعلاً تجميعيًا يعيد بناء الذات من حطام العنف.
الطفولة المسحوقة تحت المسطرة: عنف التلقين في "مسطرة وممحاة"
في قصة "مسطرة وممحاة"، يُعاد تعريف المدرسة، لا كمؤسسة للتعليم، بل كآلة قمع مبكرة، تُحول براءة الطفولة إلى مادة قابلة للضرب والمحو. الطفل، الذي لا يريد سوى اللعب مع أخته، يُقتاد إلى دروس القرآن حيث التعليم مزيج من التلقين والعقاب. المسطرة، أداة القياس، تنقلب إلى أداة عقاب. والممحاة، رمز الطفولة واللعب، تصبح استعارة لمحو الذات، للامتثال القسري، للطمس الرمزي الذي يبدأ في الطفولة ولا يتوقف. في هذا الفضاء، لا تُبنى الهوية، بل تُقمع. فالتعليم، الذي يُفترض أن يكون فعل تحرر، يتحول إلى عملية انضباط قاسية، تُسحق فيها الشخصية باسم النظام، ويُستبدل الاكتشاف بالامتثال، والبراءة بالخوف. القصة، رغم بساطتها الظاهرة، تفضح البنية السلطوية المغروسة في المؤسسات التربوية، حيث يُعاد إنتاج القهر على الأجساد الصغيرة التي لم تُمنح بعد فرصة للتفكير أو الرفض.
السجن كبنية رؤية: "جدران غارقة" وتفكيك السلطة الفوكوية
في قصة "جدران غارقة"، تتجسد السلطة لا كعقوبة، بل كمعمار، لا كقمع مباشر بل كمراقبة دائمة تتسلل إلى كل زاوية، حتى إلى الجسد والنفس. تصميم السجن هنا يستعيد بدقة نموذج "البانوبتكون" الذي تحدث عنه ميشيل فوكو، حيث يكون الحارس في مركز الرؤية، ويشعر السجين بأنه مرئي على الدوام حتى إن لم يُراقب فعليًا: "هذا التصميم الحديث جعلنا نرى كل سجين دون المرور في كل زنزانة، في كل ليلة يجلس الحارسان في منتصف السجن أعلى برج دائري، ثم يبدآن في حركة متوازية بالنظر نحو كل غرفة، فيرى كل منهما أي همسة يقوم بها السجناء" (ص ٧٢). بهذه التقنية، لا تعود السيطرة في حضور الجلاد، بل في هندسة الخوف، في تحويل الرؤية إلى أداة ضبط ذاتي. إنها السلطة التي تجعل السجين يراقب نفسه، ويعيد تشكيل جسده وسلوكه وفق ما يفترضه الحارس حتى وإن لم يكن حاضرًا. إنها سلطة المعمار، لا العنف الصريح. ويعزز هذا المعنى مشهد النمل داخل الزجاجة الشفافة التي يحتفظ بها القائد V. رغم وجود فتحات في الأعلى، لا يحاول النمل الخروج: "أصبح النمل معتادًا على ما يقدمه لهم من سائل زكي فلا يلفت انتباههم العالم الخارجي" (ص ٧٢). هذه الاستعارة الذكية تربط بين السجين والنملة: كائنات محاصرة، لكن لا بالسلاسل، بل بعادة الطاعة، وبمنظومة ترويض تُغني عن العقوبة. إنها ليست فقط بنية رقابية، بل بنية إنتاج للوعي المقهور، حيث يفقد الفرد حتى الرغبة في الهروب. لكن الذروة تأتي حين تنكسر السلطة نفسها من داخلها. القائد، الذي يجسد رأس النظام، يفقد صوته. هذه المفارقة البليغة تقلب المعادلة: فالسلطة، رغم امتلاكها للمراقبة والرؤية، تُصاب بالخرس، وتضطر إلى استخدام لغة الإشارة كي تبقي على سلطتها. القائد الذي لا يستطيع الكلام، لا يستعيد صوته، بل يحافظ على صورته. إننا أمام رمزية دقيقة لانهيار خطاب السلطة، حين تفقد اللغة – أداة الهيمنة والتوجيه – وتضطر إلى لغة بديلة لا تُصدر أوامر بقدر ما تحاول البقاء. بهذا، لا تعود السلطة فقط عقابًا جسديًا، بل مشروعًا بصريًا ولسانيًا، ينتهي حين تنكسر أدواته. فالسجن ليس جدرانًا فقط، بل توزيعًا للزوايا، واحتكارًا للرؤية، واحتلالًا للصوت. لكن حين يضيع الصوت، وتصبح الإشارات وسيلة الوحشة لا السيطرة، يُفتح المجال للتساؤل: من هو المسجون حقًا؟ ومن يراقب من؟
الجسد كدفتر موسيقي: عنف لا يُعزَف في "العزف على أوتار الجسد"
أما في قصة "العزف على أوتار الجسد"، فتصل اللغة إلى ذروة الوحشية الرمزية، حيث يتحول الاغتصاب من جريمة جسدية إلى مشهد بصري قاسٍ يعيد تمثيل الجسد كآلة موسيقية للانتهاك. في هذا النص الصادم، تُغتصب معلمة موسيقى وزميلتها على يد طلابٍ في الصف الثاني الإعدادي، ضمن سرد يتعمد التشريح لا التلميح، والتجسيد لا الإيحاء: "بعدما رفع فستانها، استخدم إبراهيم أظافره الخمسة وغرزها في إحدى فخذيها حتى رسم خمسة خطوط مثل خطوط كراسة الموسيقى، ثم بدأ عزف مقطوعته على جسدها حتى اكتفى منه" (ص ١١٧). بهذه الصورة المفجعة، يُعاد تشكيل العنف الجنسي كأداء فني معكوس، حيث تتحول النوتة إلى جرح، والموسيقى إلى صراخ صامت. الجسد لم يعد فقط ضحية، بل مسرحًا لأداء همجي يتخفى تحت استعارة جمالية كاذبة. التوحش هنا لا يكتفي بالفعل، بل يلبس قناع الفن– في فعل قاسٍ من تواطؤ الذوق مع العنف. ولعل أكثر ما يرسخ هذا الانفصال بين الفعل وأخلاقيته هو صمت التماثيل – رموز الطلاب الشاهدين – الذين لا يحركون ساكنًا، كأنهم يشاهدون مشهدًا سينمائيًا لا جريمة واقعية: "أما التماثيل التي تشاهد المقطوعة، فكانت تنصهر من الخوف، لم تحرك ساكنًا، فقد رأوا مصيرهم يكتب أمامهم. ففي نهاية الأمر، لا يمكن للتماثيل أن تتحول لأبطال سوى في الأساطير والأفلام" (ص ١١٧). في هذا التوصيف، يُفضَح جُبن الجماعة، ويتحول العنف إلى عرض، بينما تتحول الشخصيات الثانوية إلى جمهور عاجز، مشلول بالرهبة أو اللامبالاة. الكاتب لا يصور فقط الجريمة، بل يتورط في مساءلة إمكانات تمثيلها: هل يمكن للفن أن يعبر عن العنف دون أن يتحول إلى شريك فيه؟ وهل يمكن للجمال أن ينجو من تواطئه مع الألم؟ هكذا، تُقدم القصة نقدًا مزدوجًا: من جهة، فضحًا لمجتمع يُربي جلادين في هيئة أطفال، ومن جهة أخرى، تساؤلًا مريرًا عن حدود الجمال في وجه البشاعة. كأن الكاتب يصرخ بين السطور: لا فن بعد الجريمة، أو أن كل فن بعدها ملوث.
"ساحة ميمونة": القردة تتكلم... والسلطة تُستجوب
في قصة "ساحة ميمونة"، تنقلب بنية الخيال السياسي الكلاسيكي رأسًا على عقب. القردة الناطقة، ميمونة، تصبح تمثيلًا رمزيًا مزدوجًا: للمرأة المقهورة وللكائن المستلب إنسانيته تحت نير السلطة الذكورية والقمع الاجتماعي. ليست القصة مجرد فانتازيا، بل سرد رمزي مشحون بوعي سياسي، تُقدم فيه الحرية لا كامتياز طبقي أو امتداد سلطوي، بل كحقٍ بسيط وجذري. عندما يسألها القرداتي – سيدها الرمزي – إن كانت ترغب بأن تكون دكتورة أو ذات مهنة مرموقة، تجيب بنعم. لكنها ترفض أن تكون "ملكة" أو "أميرة" عندما يسألها، رغم أن "لا... ليست كلمة في قاموسها" (ص. 122). هذا الرفض المفاجئ يُعلن تحولًا عميقًا في وعي ميمونة: رفضٌ لتمثيلات القوة الزائفة، لا رغبة في تكرار نماذج الهيمنة. حين يسمع بها الملك، يندهش من هذا الصوت الخارج عن المألوف، فيستدعيها ليسأل عن سبب رفضها لامتيازات القصر. فتجيبه بصراحة دامغة: كل ما أريده هو حريتي، لا ملكًا ولا سلطانًا. يقرر الملك إذن أن يبدل موقعه معها، ويعرض عليها الجلوس على العرش بينما ينزل هو ليعيش بين الناس متخفيًا. فتشترط عليه أن يرافق القرداتي – جلادها القديم – في عمله اليومي، ليفهم بنية السلطة لا من موقع السيادة، بل من موقع القهر. هذا القلب الهرمي للسلطة من الأعلى إلى الأسفل، هو في جوهره دعوة لإعادة التفكير في ماهية الحكم: لا كحق إلهي، بل كعلاقة يومية، مجتمعية، وتبادلية. ميمونة، القردة الناطقة، ليست فقط ضحية تستعيد صوتها، بل ذات مقاومة تعيد تعريف العلاقة بين السيد والمسود، بين الملك والشعب، بين اللغة والسلطة. فبمجرد أن تنطق "لا"، تُنتزع السلطة من جذورها الرمزية. الساحة التي كانت فضاءً للترويض والاستعراض، تتحول إلى ساحة ميمونة، رمزًا لميلاد نظام جديد حيث لغت فيه ميمونة مهنتا القرداتي والملك، لأنهما وجهان لعملة واحدة: القمع باسم الترفيه أو باسم الدولة.
أرشيف الجد وصوت أمل دنقل: حين تتحول الذاكرة إلى مقاومة
في قصة "شريط كاسيت ونورس"، لا تنبع المقاومة من المواجهة المباشرة أو الشعارات، بل من فعل بسيط، حميمي، ومُلح: الأرشفة. الجد، هذا الحارس الصامت للذاكرة، يسجل كل شيء على شرائط كاسيت: الحكايات، الأغاني، البرامج، وحتى "الصمت بين البرامج"، كأنه يُدجن النسيان، أو بالأحرى يُقاومه بهدوء. الأرشفة هنا ليست هواية، بل شكل من أشكال الاحتجاج ضد المحو. رفض لأن يُنسى الزمن، أو أن تُمحى الحياة العادية من دون أثر. إنه إيمان عميق بأن ما لا يُسجل، يُمحى، وأن ما يُمحى، يُخسر للأبد. في خضم ذلك كله، يعود صوت الشاعر أمل دنقل، شاعر الرفض والإباء، ليتردد في الخلفية: "أثرى الشعر العربي بدواوين الرفض والإباء" (ص ١٣٠). وكأن الجد، عبر هذه الشرائط، يُعيد وصل الأجيال، لا بالماضي فقط، بل بمخيلة المقاومة، بصوتٍ ما يزال يُحاور الخراب، ويؤمن أن الكلمة لا تموت. فبين كل شريط وآخر، هناك سجل إنساني مضاد للسطوة، صوت هامشي لا يسعى للسلطة، بل للبقاء. هنا تصبح الذاكرة فعلًا من أفعال النجاة، لا بوصفها استعادة الماضي، بل كآلية دفاع ضد القطيعة، ضد ثقافة تُريد محو الحكايات الصغيرة لصالح الروايات الكبرى. والجد، بهذا الفعل الصغير، يتحول إلى مؤرخ بديل، ومقاوم لا يرفع سلاحًا، بل ميكروفونًا صغيرًا يسجل فيه العالم الهارب.
أمومة مستحيلة: "العاقرات ينجبن أحيانًا" ونهاية تولد من الفقد
في القصة الأخيرة، التي تحمل اسم المجموعة "العاقرات ينجبن أحيانًا"، تبلغ رمزية العقم ذروتها، وتتكشف حدود المأساة. امرأة تنتظر طويلًا أن تنجب، أن تُحقق أمومتها المؤجلة، لكن حين تأتي اللحظة، يُقتل المولود على يد شقيقة الزوج، "قبل أن تراه أمه" (ص ١٤٢). ليس القتل هنا مجرد فعل فردي، بل تجسيد عنيف لواقع اجتماعي لا يسمح للحياة أن تبدأ أصلًا. العقم لا يعود بيولوجيًا، بل مركبًا اجتماعيًا، بنيويًا، يُجهِض المعنى قبل الولادة، ويخنق الأمل لحظة تنفسه الأول. فالعنوان الذي بدا للوهلة الأولى وعدًا بمفارقة من نوع ما – أن العاقرات يمكن أن ينجبن – يتحول في النهاية إلى مرثية لتجربة هشة للحياة في عالم لا يحتمل وجودها. في هذا الإطار، تصبح القصة الأخيرة خاتمة لا تُقفل النص بل تفتحه، تكشف عن دائرة العنف التي تبدأ بالحرمان وتنتهي بالوأد، لتجعل من كل محاولة ولادة مواجهة مع أنظمة القمع، لا فقط الجسدية، بل أيضًا الرمزية والعائلية والطبقية.
خاتمة: السرد كأمل يولد من العقم
تأتي مجموعة "العاقرات ينجبن أحيانًا" بوصفها مشروعًا سرديا مقاومًا، لا يكتفي برصد العنف، بل يعمل على تفكيكه، وفضح آلياته الرمزية، من الجسد إلى المؤسسة، من الطفولة إلى الموت. تشتغل القصص إذًا على تفكيك الطبقات الخفية للواقع، لتعيد تشكيل وعي القارئ بالعنف لا بوصفه عنفًا صريحًا وواضحًا، بل عنفًا مؤسسًا ومؤسِسًا، عنفًا يتغلغل في المعيش ويُطبع في الجسد والذاكرة. في زمن تُعاد فيه صياغة العنف وتطبيعه بلُغة ملساء، تأتي هذه المجموعة لتزعج اللغة، وتخلخل الطمأنينة السردية. "العاقرات ينجبن أحيانًا " ليست مجرد مجموعة قصصية، بل أرشيف جماعي متشظ، ذاكرة سردية تُدين القهر دون أن تُجمله، وتكتب من موقع الشك، لا من موقع اليقين. شخصيات المجموعة تائهة، مأزومة، تبحث عن خلاص – ولو في البوح العابر أو الصمت المدوي – شخصيات تعيش على هوامش الوجود، لكنها تظل مشحونة بإمكانية التشظي أو التمرد. فالكتابة لا تنحاز للضحايا بقدر ما تُعري المنظومات: مؤسسات التعليم، الدولة، العائلة، الذكورة، والتمثيل الفني ذاته. كتابة تسائل اللغة قبل أن تسائل الواقع. وتضع القارئ أمام سؤال: ما معنى أن نحكي وسط هذا الكم من الإنهاك؟ والجواب لا يأتي بصيغة يقينية، بل بصيغة ولادة رمزية: الحكاية هي الوليد الوحيد الممكن، في عالم أصبح فيه العقم جماعيًا، والأمل فعلاً شاقًا يشبه الصراخ داخل صمت كثيف.