لم تبخل سوريا – منذ سالف العصور – على العرب والعالم بمبدعين وسياسيين وفنانين ومفكرين، أثروا العالم بما تركوه من أثرٍ لا يزول..
ومن هؤلاء الأدباء الذين ساهموا في وعي أجيال متلاحقة المعلم الكبير سعيد حورانية، أما لقب "المعلم" فلم نختره جزافاً إذ يكفي الاطلاع على محطات حياته الفكرية والأدبية والسياسية لنضع هذا الرجل في مصاف المفكرين الأوائل ليس في سوريا وحسب، إنما في العالم العربي أجمع.
ولد سعيد حورانية لأسرة ميسورة في الميدان في العاصمة دمشق من عام ١٩٢٩ بعد أن نزحت من حوران، حيث تلقى تعليمه في العاصمة السورية وحصل على إجازة في الأدب العربي ثم نال دبلوم التربية من جامعتها.
بدأ حورانية الكتابة في وقت مبكر فكانت بوادر إبداعه أثناء دراسته الثانوية إذ كتب العديد من القصص ونشر معظمها في مجلة "المنار" ثم قام بنشر مسرحيتين في مجلة الجامعة، أما القصة التي اعتبرها النقاد تحدياً صارخاً على السائد آنذاك فقد كانت "الصندوق النحاسي" وشاركت في مسابقة (النقاد) التي على إثرها نال لقب تشيخوف العرب.
كان سعيد يكتب بغضب كل من كتب في الخمسينيات من القرن العشرين حاملاً بين سطوره فاجعة النكبة الكبرى، تقسيم فلسطين واحتلالها، حيث بشّرت مجموعته الأولى "وفي الناس المسرة" التي صدرت عام 1952 بميلاد كاتب جديد ذي عالم خاص استطاع وضع حد فاصل بينه وبين السلف من الكتاب، فكانت قصصه بمثابة ثورة ترفض الواقع المأساوي الآني الذي هو استمرار للماضي .. ليصبح الصراع في كتاباته هو صراع بين الماضي والحاضر، القديم والجديد، ذلك الصراع الذي أخذ صورته وبعده الاجتماعي في المجموعات القصصية اللاحقة "شتاء قاسٍ آخر" و "سنتان وتحترق الغابة".
رفض أن يبني سرده القصصي على القدرية والمصادفة، فعالم سعيد حورانية هو عالم الكفاح والتغيير الذي تأثر أيما تأثّر بالصراعات السياسية التي شهدتها الساحة السورية في ذلك الوقت.. لينتهي ذلك الصراع –دائماً– بانتصار الشعب والقوى المُستضعفة وبرهان الكاتب الدائم على الإنسان الحر.
لم يقف سعيد عند عالم الخمسينيات وتغيراته السريعة والمتلاحقة بل فتح في جدرانه نافذة تحاكي المستقبل.. خاطب من خلالها القوى الشعبية كي تثور على حكم العسكر وأعوانه، فكان للعامل والفلاح المناهض لنظم الإقطاع والاستعمار النصيب الأكبر من شخوصه المبنية بإتقان مدهش.
أما مكان الصراع فهو الأرض السورية على امتداد ترابها من الجنوب حيث السويداء وحوران إلى الشمال والشرق حيث القامشلي.. ومع ذلك لم يكتفِ كاتبنا بتصوير الواقع (المحلي) كبطل من أبطال قصته بل تجاوزه لواقع كوني وإنساني ليكون الإنسان –أولاً وأخيراً– هو محور ذلك الصراع وعصبه..
وأكثر ما ميز سعيد حورانية عن غيره من كتاب عصره، البساطة في السرد والابتعاد عن التكلف في التصوير والاقتراب من اللهجة العامية، وقد بدا ذلك جلياً في قصته "عريظة استرحام" تلك (العريظة) التي يرفعها فلاحو قرية مضطهدة في وجه الإقطاع الجائر، ولنا هنا أن نقف ولو قليلاً عند مصطلح "عريظة" التي أرادها عن قصدٍ رمزي – بديلاً لكلمة "عريضة" الفصيحة، مخاطباً الآخر المعني بلسان (الظاء أو الظه) الريفي النقي عوضاً عن لسان الضاد العربي المزخرف، فإنّ ارتفاع قيمة الترميز وارتفاع قيمة ملاصقة الواقع بدون رمز في عالم سعيد حورانية القصصي يثبت حقيقة أدبية وهي: أنّ الشكل بذاته لا يعني دائماً الكثير طالما أنه منفصل عن المضمون.
فكانت تلك المشافهة العلنية والقوة في المباشرة إلحاحاً صارخاً لقراءة الواقع المعيش لتصبح – هذه المباشرة المحكية – فيما بعد الحجر الأساس لكثير من كتاب القصة بعده أمثال جميل حتمل وابراهيم صموئيل.
لم يكن سعيد حورانية – كما أسلفنا – مجرد كاتب عادي غريب عن ألم الشارع السوري والعربي .. بل على النقيض كان ابن ذلك الألم ووليد تلك التطلعات المطالبة بالحرية والعيش الكريم .. ما دفعه مع نخبة من اليساريين والكتاب لتأسيس "رابطة كتّاب سوريا" والتي توسعت فيما بعد باتحادها مع نقابات الكتاب العرب في كل من لبنان ومصر ودول عربية أخرى ليصبح اسمها "رابطة الكتاب العرب" حيث شغل فيها سعيد رئاسة الفرع السوري.
كما انطلق حورانية في مجمل كتاباته من واقع الأسرة والعلاقة مع العائلة المتسلحة بمفاهيم رجعية – على حد تعبيره – فكان لا بد من الوقوف في وجهها، ليس بقصد التدمير وإنما بقصد البناء والإصلاح ويبدو ذلك جلياً في مجموعته الأولى التي حملت عنوان "وفي الناس المسرة" لكنّ حياة كاتبنا لم تخلُ من المنغصات سيما السياسية منها، فعند قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام ١٩٥٨ اعتقل من المدرسة التي كان يدرس بها ضمن جملة اعتقالات الشيوعيين واليساريين وزج به في سجن "السراج".
وبعد خروجه فر هارباً من سلطات الوحدة إلى لبنان حيث عمل فيها مدرساً، وبعد الانفصال عاد إلى سوريا برفقة الشاعر شوقي بغدادي لكنهما اعتقلا مرة أخرى لمدة اثنين وخمسين يوماً ثم قضيا في سجن المزة تسعين يوماً، وفور خروجه عاد إلى لبنان ليعمل من جديد في سلك التعليم في مدرسة "الفرير" بين عامي ١٩٦٣ – ١٩٦٥ ونشر في بيروت المجموعتان اللتان أشرنا إليهما سابقاً سنتان وتحترق الغابة وشتاء قاسٍ آخر بينما كان يعمل في الوقت ذاته على كتابة روايته "بنادق تحت القش" وقام بنشر فصلين منها في مجلة "الثقافة الوطنية" إلا أنها لم تنشر كاملة بسبب إحراق الأمن اللبناني للرواية إضافة لاثنتين وخمسين قصة عند مداهمة منزله في لبنان على إثر مسرحية حملت عنوان "إنسان اسمه فرج الله الحلو!" كان قد نشرها في أربعة أجزاء في جريدة الأخبار، إذ تكمن أهمية وخطورة هذه المسرحية في وثائقيتها وفي وصفها الدقيق لموت الحلو وتعذيبه إضافة إلى الحوارات التي جرت بينه وبين معذبيه والمأخوذة –نقصد الحوارات– عن عبد الكريم محملي ورفاق آخرين.. ورغم أن سعيد كان يكتب في تلك المرحلة باسم مستعار وهو "سهيل صالحاني" إلا أنه لم ينجُ من الاعتقال عاماً كاملاً في سجن الرمل – من قبل سلطات الوحدة – بعد نشر المسرحية آنفة الذكر وعرض مسرحية "صياح الديكة".
وفي عام ١٩٦٩ آثر كاتبنا السفر إلى الاتحاد السوفييتي وعمل في موسكو كخبير لغوي وقام بترجمة "فلتثمل سترندبيرغ" ليعود أخيراً إلى سوريا عام ١٩٧٤.. متابعاً نشاطه الأدبي والسياسي حتى وافته المنية عام ١٩٩٤ مخلفاً وراءه إرثاً عظيماً في القصة والمسرح.. والأدب الواقعي الذي وقف ضد النزعات الذاتية وحرض الإنسان على الحرية ودفع أغلى الأثمان من أجلها.
[تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول "المنعطف السوريّ"].
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].