رفض الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن يكون نقده لليهود مبنيًّا على موقف عنصريٍّ، ولم يقبل أن يُصنَّف بصفته فيلسوفًا وجوديًّا معاديًا للسَّاميَّة، لأنَّ في ذلك اختزالًا وتضليلًا وتسخيفًا لرؤيته عن حقيقة ما يفعله اليهود في العالَم. هذا ما كشفته دفاتر ملاحظات كان يكتبها هايدغر بشكل يوميّ في شيخوخته، ولم تُنشر إلا بعد موته بعنوان "الدَّفاتر السَّوداء"، لكن لم يكترثْ الباحثون الغربيون بوجه عامّ بموقف هايدغر الجوهريّ بعد نشر "الدَّفاتر السَّوداء"، بل تجلّت ردود أفعالهم في موجة هائلة من الاتِّهامات الصبيانيّة الموجَّهة ضدّه بذريعة أنّه كان مؤيدًا للنازيّة حينما كان رئيسًا لجامعة فرايبورغ (1933 م) في مرحلة حكم هتلر لألمانيا، وبذا أعادوا بشكل سخيف إلصاق تهمة معاداة السَّامية به على نحو يُفرِّغ تأمله النقديّ النَّادر من مضمونه. هنا محاولة لتبيان أصالة توجُّه هايدغر في الدَّفاتر السوداء.
شعر هايدغر بالمرارة مِمَّا أسماها "قذارة عصرنا المندثر" التي تشهد عليها حقيقة أنَّ الحركة المعارضة الوحيدة فيه ضدَّ الظلم والويلات والحروب ليست في جوهرها إلا "ثرثرة هُواة" و"ضجيج علوم سياسية" زائفة، ولم تَعُدْ توجد فعليًّا بعد الحرب العالميّة الثانيّة سوى قوَّة واحدة تتحكّم بمصير العالم هي "اليهوديّة العالميّة"، وهنا أكد هايدغر أنَّ "اليهود قد استولوا على السيادة في كلِّ مكان، حتى أنَّ القتال ضدَّ اليهود، أصبح تحت سيطرة اليهود أنفسهم"، ولذلك ليست "المسألة اليهودية" سياسيّة، بل ميتافيزيقيّة، فاليهود الآن يُشكّلون الحياة الإنسانيّة، على نحو يهدّد حقيقة الوجود.
تعمَّق هايدغر في ماهيَّة الترحُّل عند اليهود منذ بداية ظهورهم في التاريخ، وصولًا إلى ما يرويه سِفْر الخروج عن قصة استعبادهم في مصر، والأوبئة، وهروبهم الإعجازيّ عام 1450 ق.م وفق التاريخ الكتابي، وتيههم اللاحق في صحراء سيناء مدَّة أربعين عامًا، واكتشف أنَّ جوهر الحياة اليهوديّة يكمن في "العَالَميّة"، ولا تشكِّل هذه "العالميّة" أي قيم إنسانيّة مشتركة، بل هي ناتجة عن نمط حياة اليهود الأوائل المُتَديّنين أنفسهم في تلك العصور الغابرة، فتاريخهم ذاته يُظهرهم بصفتهم "رعاةً مترحِّلين"، أي يفتقدون إلى جذور أصيلة تربطهم بوطن محدّد وحتى أرضهم التي وعدهم بها يهوه ليست لهم أصلًا، بل هي أرض الكنعانيين، لذلك "عالميّة اليهود" تعني بالنسبة إلى هايدغر فقدان المكان/الجذر، وبما أنَّهم من دون وطن أصيل جعلوا العالم كلّه مِلْكيّة مفتوحة أمامهم.
يكشف هايدغر أنَّ تحليل حياة هؤلاء اليهود الأوائل من الرًّعاة –الرُّحَّل يُظهر أنَّ تنقُّلهم المستمرّ من مكان إلى آخر ليس فقط بسبب جفاف الأراضي والسُّهوب التي ترتع قطعانهم فيها، بل نمط حياتهم نفسه يحوِّل الأراضي الخصبة إلى أراضٍ قاحلة على عكس البشر الذين ترسَّخت جذورهم في الأرض فعرفوا كيف يصنعون لأنفسهم أوطانًا حتى في أعالي الجبال، ولذلك لا يمكن لهؤلاء اليهود الأوائل من الرُّعاة-الرُّحَّل أن يستمروا في الحياة إلا باقتلاع مستمرّ للخِصْب/للجذر من أيّ أرض يَحِلّون فيها، وهذه عملية لا يمكن أن تتوقَّف في مكان محدّد، لذلك أصبحت "مهمة تاريخيّة عالمية" اضطلع هؤلاء اليهود الأوائل بوظيفة القيام بها. وهذه المهمة هي الاقتلاع. ولقد قارن هايدغر على نحو مدهش بين هؤلاء اليهود الأوائل المتديّنين من "الرُّعاة-الرُّحَّل" ونظرائهم الحديثين، أي اليهود الكوزموبوليتانيين العلمانيين الذين يتحكّمون بمراكز القرار السياسي في أهم العواصم الغربيّة، وانتهى إلى أنَّ وجه الخلاف بينهم في إلحاق الخراب بالعالَم كميّ وليس كيفيًّا. ذلك أنَّ هؤلاء اليهود الكوزموبوليتانيين بما أنَّهم لا يمتلكون وطنًا حقيقيًّا أو لا يريدون الانتماء إلى البلدان المتعدّدة التي يقيمون فيها بصفتها أوطانهم، كانت مهمتهم الأساسيَّة الراهنة استئنافًا لمهمة أسلافهم من الرُّعاة، فإذا كانت المهمة العالميَّة لليهود المتديّنين من "الرُّعاة-الرُّحَّل" هي اقتلاع الخِصْب/الجِذْر من العالَم وتحويله إلى صحراء عالمية، فإنَّ المهمة العالَميّة لليهود الكوزموبوليتانيين الحاليين بما أنَّهم يعيشون في شتات إراديّ هي -وفق تعبير هايدغر- "اقتلاع كلّ الموجودات من الوجود"، أي أن يقتلعوا فكرة أيِّ ارتباط بالوطن/الأصل عند الشُّعوب العظيمة؛ لذلك لم يَعُدْ نمط حياة اليهود من الرُّعاة-الرُّحَّل استثناءً تاريخيًّا، بل أصبح بسبب تحديثه من قِبَلِ اليهود الكوزموبوليتانيين يؤثر في العالَم بأكمله.
ارتأى هايدغر أنَّ اليهود عاشوا، بموهبتهم الواضحة في الحِساب، مدة طويلة وفقًا لمبدأ العِرق، وأصبحوا بارعين في المحافظة على وجودهم كعِرق بوساطة شكواهم من أيّ عرق آخر يقف ضدّهم، ولذلك استطاعوا تقويّة عنصريتهم بذريعة الدفاع عنها في مقابل نزع العنصرية بالكامل من الشعوب المغايرة لهم، ولقد سارَ نزع العنصرية الذي قام به اليهود جنبًا إلى جنب مع اغتراب الشعوب عن أنفسها على نحو أفضى إلى فقدان تاريخها، أي فقدان مجالات اتخاذ القرار بشأن وجودها. ويمكن تفسير ذلك على أساس أنَّ اليهود يمثلون تجسيدات لموقف حِسابي تجاه وجود الموجودات، أي إنّهم أصلًا مترحِّلون بلا وطن يخضع كل موجود وفق رؤيتهم للقياس الكميّ بالأرقام، فهم يختزلون معنى وجود الموجودات في الفائدة المباشرة، وليس الوجود بالنسبة لهم مدعاة للتساؤل الفلسفيّ، بل للمساءلة الحسابية، وهنا يكمن سرّ أنَّ اليهود الكوزموبوليتانيين المعاصرين القابضين الآن على ماهية التكنولوجيا ليسوا إلا استمرارًا لأسلافهم من الرُّعاة الرُّحَّل القابضين على ماهيّة الحِساب. ولذلك ما يفعله اليهود اليوم في عصر سيادة التكنولوجيا هو تغييب تاريخ الوجود وهم لا يفعلون ذلك وحدهم بل تساعدهم جماعات عظيمة التأثير من الديكارتيين الفرنسيين والبلاشفة الروس والتجريبيين الإنكليز والبراغماتيين الأمريكان من أجل تحقيق هدف واحد هو إطلاق الوحشية المتمثلة في إتقان التكنولوجيا التي تدمر حياة البشر على جميع المستويات من أجل زرع العدميّة في أعماق وجودهم، ذلك أنَّ التكنولوجيا تدمِّر على نحو لا يعرف التوقّف الحدود بين الشُّعوب، من أجل اقتلاع جذورها وخلطها، وتسليط نوع أو شكل عالميّ من الكائنات التكنولوجية الذكية على وعي أجيالها من أجل اقتلاع فطرتها.
لقد أراد اليهود استئصال الشعوب العظيمة من تاريخها، كما فعلوا مع الكنعانيين والبابليين والألمان (وكما يفعلون الآن مع الفلسطينيين)، لأنَّ اليهود أصلًا شعب غير تاريخيّ، لأنَّ دخول شعب إلى التاريخ لا يكون عن طريق المكائد والدسائس والحِيَل، بل لا بد من أن يدخله عن طريق "اللغة والعزم والقرار". ولذلك قال هايدغر: "إن كل ما يمر يصبح جزءاً من الماضي على الفور؛ ولكن ليس كل ما يمر وينتمي إلى الماضي يحتاج إلى الدخول في التاريخ".
إنَّ الدخول في التاريخ يتطلّب العَظَمَة وليس المكر والمؤامرة والغدر، ولكن شاءت الأقدار أنَّ العَظَمَة تقتضي نهايتها، ذلك أنَّ بداية ونهاية ما هو عظيم تنبثقان معًا. من هنا لا يوجد أيّ تفكير حقيقيّ في الوجود إلا واتّجه نحو سقوطه، لأنَّ الوجودَ نفسَهُ هاويةٌ لنفسهِ.