في منتصف شهر تموز الماضي، دخلت قوات الأمن العام إلى محافظة السويداء برفقة أرتالٍ كبيرة من عناصر وزارة الدفاع، ضمن عمليةٍ عسكرية استُخدمت فيها الدبابات والأسلحة الثقيلة والطائرات المسيرة، ثم تبعها بعد أيام دخول عشرات الآلاف من مجموعات العشائر التي قَدِمت من عموم سوريا تلبية لنداءات "الفزعة". وقد زعمت سلطة الحكومة الانتقالية في دمشق أن سبب دخول المحافظة جاء نتيجة وجود عصاباتٍ مسلحةٍ خارجة عن القانون، إلا أن الواقع الكارثي الذي شهدته المحافظة وحجم القصف الوحشي العشوائي، وشهادات الناشطين وأهالي الضحايا وشهود العيان، وفيديوهات المجازر التي صُورت من قبل مرتكبي الجرائم والانتهاكات، كل ذلك أوضح للقاصي والداني أن الهدف الأساسي لدخول المحافظة، بالنسبة لمعظم الفصائل المسلحة التي اقتحمتها، كان بغرض الانتقام من أبنائها وإذلالهم ونشر الرعب في قلوبهم، وقتلهم على أساسٍ طائفي، في مشهدٍ يُذكرنا بمجازر الساحل، دون التمييز بين مسلحٍ ومدني وطفل وامرأة ومُسنّ، وهو ما أكده القتلة بأنفسهم عبر نشرهم لمئات مقاطع الفيديو التي تُظهر إهانتهم ومعاقبتهم لكل من وقع في أيديهم، ابتداءً بحلق شوارب الشباب والشيوخ، وترديد العبارات الطائفية المشحونة بخطاب الحقد والكراهية والتوعد بذبح وسفك دماء "الدروز الخنازير"، مروراً بإهانة الرموز الدينية وخطف النساء وتمزيق صور الشيوخ والمجاهدين ودوسها وتحطيمها بالأقدام، وليس انتهاءً بالانتهاكات الإنسانية الفاضحة وعمليات التدمير والنهب والإعدامات الميدانية والمجازر الجماعية.
حتى اليوم يصعب الحصول على رقمٍ نهائي لأعداد الضحايا التي تجاوزت الألف وأربعمائة، وذلك نتيجة صعوبة الوصول إلى مئات الجثث المتناثرة في القرى المنكوبة، وعدم معرفة مصير كثير من المفقودين. ولو أردنا الحديث فقط عن المجازر الجماعية وعمليات القنص والتصفية الميدانية لاحتجنا لعشرات المقالات، لذا سنكتفي بالحديث عن بعضها.
"تالا يا عمري سامحيني لقد خذلتكِ ولم أحميكِ، خذلكِ الوطن، خذلكِ ما كنا نسميها ثورة، ولم تري منها سوى الظلام والموت، هل تألمتِ عندما اخترقت الرصاصة رأسك؟ ماذا أقول للغيتار والكمان؟ من سيعزف عليهما بعدك؟ ماذا أقول لدفتر الرسم والألوان؟" تلك الكلمات هي جزء مما نشره المهندس حسام الشوفي على صفحته في فيسبوك، ناعياً طفلته التي قَضَت برصاصة قناص. تالا عازفة الكمان والغيتار، التي لطالما رافقت والديها إلى ساحة الكرامة، خلال المظاهرات التي نادت بإسقاط نظام الأسد، ورفعت لافتات تُندّد بقتل المدنيين وتحلم بوطنٍ لجميع السوريين، تالا التي كتبت ولحّنت وغنت أغنية لسوريا الجميلة، التي حلمت بولادتها بعد سقوط نظام الأسد.
خلال نزوحها مع عائلتها، هرباً من الموت، لم تتمكن عازفة الكمان الطفلة غنى هلال من اصطحاب الكمان معها، لكنها، وبحسب ما قالته والدتها، وضعت في حقيبتها، إلى جانب ثيابها، دفتر الرسم والألوان، لعلها كانت تأمل أن تتمكن من ممارسة هواية الرسم في مكانٍ ما، أو ربما أرادت أن تُجابه سلاح القتل بسلاح ألوانها، لكن رصاص القناص كان أقوى من شغفها بالحياة. أصابتها إحدى رصاصته في عنقها، وهي جالسة في حضن والدتها، داخل السيارة التي كانت تنقلهم. أمالت رأسها على كتف والدتها وفارقت الحياة على الفور.
في مشهدٍ مشابه، قد تعجز السينما عن صناعته، وخلال محاولة عائلتها مغادرة المدينة نحو مكانٍ قد يكون آمناً، اُصيبت الطفلة تالا العبدالله مع جدتها برصاصة قناص. الرصاصة الحاقدة اخترقت كتف الجدة واستقرت في رأس الطفلة لتنهي حياتها.
خلال تعرض مدينة السويداء للقصف، وفي محاولة للنجاة من الموت، خرجت الطفلة تايلا الحمود (التي لم تكمل عامها الأول) من المدينة مع والدتها وعدد من أفراد العائلة باتجاه مدينة شهبا، وبحسب شهادة والد الطفلة، تعرضت السيارة التي كانت تنقلهم لإطلاق نارٍ، دون سابق إنذار، من قبل دورية تابعة لجهاز الأمن العام، ما أدى لاستشهاد تايلا مع خالها وجدتها.
وفي مصادفةٍ قد لا تحدث إلا في الروايات والأفلام: نجت الطفلة جودي عمار زغيبة من مجازر بانياس/ القصور (التي وقعت بحق أبناء الطائفة العلوية) بعد مقتل عددٍ من جيرانها بذات المبنى التي كانت تقطنه، لكنها قُتلت في إحدى المجازر التي ارتكبت بحق أبناء الطائفة الدرزية في السويداء، المدينة التي انتقلت إليها هرباً من الموت وطلباً لحياة آمنة.
في إحدى الشوارع صادف بعض المسلحين رجلاً مُسنّاً يسير بخوفٍ وارتباك، فسأله أحدهم: أنت درزي؟ وفي محاولة يائسة للنجاة، وظناً منه أن جوابه قد يُنجيه من الموت المُحقق، أجاب الرجل بذعر: "أني رايح جيب خبز"، وقبل أن يُنهي جملته قاطعه رصاص المُسلحين، الذي امتزج بقهقهاتهم وعباراتهم الطائفية.
أحد مشاهد القتل الطائفي ذكَّرنا بمجزرة التضامن التي ارتكبتها عصابات الأسد بحق عدد من المدنيين: يُظهر المشهد ثلاثة شُبان (طبيبان ومهندس) من عائلة عرنوس، أخرجهم المسلحون إلى شرفة منزلهم تحت تهديد السلاح، ثم أجبروهم على إلقاء أنفسهم من الشرفة، وخلال سقوطهم أطلقوا النار عليهم، تماماً كما حدث خلال مجزرة التضامن، التي طُلب من ضحاياها أن يسيروا نحو حفرةٍ كبيرة ليتم إطلاق النار عليهم خلال سقوطهم بداخلها.
وفي واحدٍ من أقسى المشاهد وأكثرها إيلاماً، يصور القتلة رجلاً يدعى منير الرُجمة وهو يجثو أمام إحدى مدارس بلدة الثعلة. يسألونه: أنت درزي؟ فيجيبهم بصدقٍ وألم: سوري أنا يا أخي. ولأن القتلة لم يفهموا ما قاله الرجل الضحية، ولا يعنيهم إن كان سورياً، أعادوا السؤال بنبرةٍ صارمة وتهديدية: أنت درزي؟ الرجل الذي تبوح عينيه بمدى صدقه، لم يستطع أن يُنكر من هو، وبمجرد أن أجاب: "يا أخي أنا درزي" انهالت عليه طلقات الحقد ليُقتل على الفور هو و"سوريته" التي ظنَّ أنها ستنقذه.
رغم سنوات عُمره الذي تخطى الثمانين، ورغم جلوسه إلى كرسي متحرك وعجزه عن المشي وإصابته بمرض السكري، لم يرأف القتلة بحال الشيخ حسين أبو محمود، بل تفنّنوا في قتله، خلال اقتحام منزله، فقاموا بتقييده إلى الكرسي الذي يجلس عليه أمام بيته، وأطلقوا النار عليه، ثم قاموا بإحراق جثته، في مشهدٍ يعكس مدى حقدهم وشهوتهم للانتقام.
لم يشفع لمضافة آل رضوان تاريخها الوطني واستقبالها للنازحين والمعارضين الهاربين من بطش نظام الأسد البائد، إذ تعرضت لمجزرة مروعة بعد اقتحامها من قبل مسلحين أعدموا جميع من كان بداخلها (أكثر من 10 أشخاص) رمياً بالرصاص، بتهمة أنهم دروز، لتمتزج دماؤهم مع القهوة التي اندلقت في المكان بعد أن حطَّم الرصاص أباريقها. قبل تلك المجزرة، وللمصادفة المؤلمة، قام بعض المسلحين، خلال اقتحامهم للمدينة، بتحطيم وتفجير تمثال المجاهد حسين مرشد رضوان باني تلك المضافة، وأحد أبرز المناضلين ضد الاحتلال الفرنسي.
تلك المجزرة هي واحدة من المجازر الجماعية التي ارتُكبت لأسباب طائفية بحق عائلات بأكملها، ومن بينها عائلة بدرية، مزهر، الأشقر، وعائلة سرايا التي يحمل أحد أبنائها الجنسية الأمريكية، وعائلة بدر التي ينتمي إليها وزير الزراعة المهندس أمجد بدر، إذ تعرض نحو عشرة مدنيين من عائلته إلى عملية تصفية ميدانية، على يد مسلحين يرتدون زياً عسكرياً، داخل مضافةٍ للعائلة بالقرب من ساحة سمارة، بعد دخول قوات الأمن العام وعناصر وزارة الدفاع إلى المدينة في 15 تموز.
وللمفارقة المؤلمة، كثير من ضحايا المجازر كانوا ممن ينتمون للثورة السورية ومن أشد معارضي الأسد ومن رواد ساحة الكرامة. لم يسألهم قاتلوهم عن موقفهم السياسي والوطني، وإنما قتلوهم فقط لأنهم دروز، ومن بينهم الإعلامي بهاء الحناوي، والمهندس أنيس ناصر، والفنان التشكيلي توفيق شيا وغيرهم الكثير والكثير.
حالات اختفاء واختطاف للنساء
وثَّق العديد من نشطاء السويداء اختفاء نحو 80 امرأة وفتاة، يُرجح أن معظمهن قد تعرّضن لعمليات اختطاف من قبل بعض المجموعات المسلحة التي اقتحمت المحافظة، وهو ما أكده كثير من الشهود والفيديوهات التي صورها ونشرها الخاطفون بأنفسهم، إذ أظهر أحد تلك الفيديوهات مجموعة من النساء المحتجزات لدى مجموعة مسلحة، يتحدث أحد أفرادها عن إمكانية مبادلتهن بالأسرى الذين وقعوا في أيدي أبناء المحافظة، وفي مقطع فيديو آخر ظهر بعض مسلحي العشائر يدَّعون حمايتهم وإنقاذهم لمجموعة من النساء المحتجزات في أحد البيوت، إلا أن ملامحهن وهيئاتهن كانت تُظهر أنهن تعرضن لعملية اختطاف. وقد أظهر مقطع فيديو، من تقرير للتلفزيون العربي، إحدى عمليات الخطف على الهواء مباشرة، لثلاث نساء وطفلة يجلسن في سيارة لمسلحي العشائر، الذين ادّعوا أنهم أخرجوا النساء من المدينة بغرض حمايتهن، وعند سؤال المراسل لإحداهن عن حقيقة الأمر، أجابت بخوف وارتباك: "هني طلعو جابونا"، في مشهدٍ يُظهر أنهن اختطفن من بيتهن عنوة.
وبعد ظهور السيدة ماجدة ريدان مع ابنتيها وحفيدتها في فيديو نشره أحد مسلحي العشائر، الذي كان يدعي نقلهن إلى المستشفى بغرض علاجهن، تم تأكيد عملية اختطافهن من خلال مقابلة مع السيدة ماجدة (بعد تحريرهن من الخطف في عملية تبادل للأسرى) التي تحدثت عن تفاصيل اختطافهن من قريتهن (رضيمة اللواء) وعن نقلهن إلى محافظة حماة، التي بَقين فيها لعدة أيام. وقد تم تسليمهن للأمن العام خلال عملية التبادل، ومن ثم عدن إلى المحافظة عن طريق الهلال الأحمر.
أكثر من 35 قرية لم تعد صالحة للعيش
أدت الحملات العسكرية وما تبعها من هجماتٍ واقتحاماتٍ إلى تدمير وإحراق ونهب أكثر من 35 قرية، بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من مدينة السويداء، حيث تعرضت جميعها إلى قصف بالأسلحة الثقيلة وقذائف الهاون والمسيرات، هذا إلى جانب ما تعرضت له خلال عمليات الاقتحام من تخريبٍ مُمنهج. وقد أدى ذلك كله لإحداث كارثة إنسانية كبيرة وتهجير أكثر من 100 ألف شخص، نزحوا إلى مدينتي شهبا وصلخد وبعض قرى وبلدات الريف الجنوبي، ومازالوا يعيشون حتى اليوم في مراكز الإيواء والمدارس والمقامات الدينية وفي كثير من البيوت التي قامت باستضافتهم.
من مدخل المحافظة الشمالي حتى بلدة أم الزيتون، ولمساحة تمتد لنحو أربعين كيلو متراً، جميع القرى المنتشرة محاذاة طريق دمشق السويداء أصبحت منكوبة ولم تعد صالحة للعيش وتم تهجير جميع سكانها، ومن بينها قرية الصورة الكبيرة، رضيمة اللواء، السويمرة، ذكير، لاهثة، الصورة الصغيرة، الخالدية، المتونة، خلخلة، أم حارتين، حزم، وغيرها.
المصير ذاته تعرضت له معظم قرى الريف الغربي والمحاذية لمحافظة درعا، ومن بينها، قرية الثعلة، الدور، المزرعة، الطيرة، الدويرة، تعارة، لبين، حران، نجران، قراصة، داما، المجدل، المجيمر، ريمة اللحف، ولغا وغيرها.
ولم تقتصر الهجمات المسلحة على حرق وتدمير ونهب البيوت والمقامات الدينية والسيارت والمحلات التجارية وغيرها، بل طالت أيضاً البنى التحتية و جميع مرافق الحياة في كثير من القرى، إذ تم تخريب وتدمير شبكات وأعمدة الكهرباء والبنى التحتية للمياه، إلى جانب تدمير معظم الآبار والخزانات المركزية الكبيرة، في أغلب المناطق التي سيطرت عليها الفصائل والمجموعات المسلحة، من خلال تفجيرها بالألغام والمتفجرات أو تخريبها ونهب معداتها، ومن بينها آبار قرية الثعلة التي كانت تزود مدينة السويداء بنسبة 70% من مياه الشرب. ولم تنجُ خزانات المياه المنزلية بدورها من عمليات التخريب والتدمير الممنهج، في محاولة واضحة لحرمان الناس حتى من مياه الشرب. كل ذلك حدث في ظل أقسى موجات الجفاف التي تشهدها عموم البلاد، والتي أدت إلى نضوب معظم مياه السدود الحيوية في المحافظة، كسد الروم والجوالين والعين وغيرها.
وفي محاولة واضحة للانتقام من جميع سكان المحافظة، تم إحراق صوامع الحبوب في بلدة أم الزيتون وتخريب المطحنة المركزية التي تمدُّ عدداً من الأفران بمادة الطحين، كما تم نهب وحرق الكثير من الصيدليات ومستودعات الهلال الأحمر وسيارات الإسعاف، وخاصة في مدينة السويداء، ولم ينجُ المستشفى الوطني للمدينة من عمليات القصف والاقتحام والحصار، التي أدت لخروجه عن الخدمة لعدة أيام، ولحدوث أزمة إنسانية وطبية كبيرة ولتراكم الجثث في الممرات وفي العراء، هذا عدا عن الانتهاكات والإعدامات الميدانية التي ارتكبت بحق عدد من المصابين والكوادر الطبية.
ولاتزال محافظة السويداء، حتى اليوم، تعيش أوضاعاً إنسانية كارثية، وأزمات معيشية قاهرة، في ظل نقص المواد الغذائية والأدوية والطحين ومياه الشرب، وغياب المحروقات والوقود، وانقطاع الكهرباء، وكل هذا يحدث في ظل استمرار الحصار الخانق المفروض على المحافظة، منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وإغلاق كافة الطرق المؤدية إليها من دمشق ودرعا، حيث يقتصر دخول الإمدادات والمساعدات على بعض القوافل الإغاثية التي تُدخلها منظمة الهلال الأحمر وبعض المنظمات الإنسانية عبر طريق بصرى الشام /السويداء، الذي بات معبراً إنسانياً وحيداً، وضمن كميات محدودة وإسعافية، لا تكفي لسدّ جزء بسيط من احتياجات المحافظة.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].