لاهوت الفينيقيين: أقدم نصّ فلسفيّ في التَّاريخ

مقدّمة وترجمة: علي محمد اسبر

ندين للمؤرِّخ الكنسيّ السوريّ يوسابيوس بامفيلوس أو القيصريّ (265-339 م) الذي تولّى منصب أسقف قيصريّة في مقاطعة سوريا/فلسطين الرُّومانيّة بكلّ ما نملكه من معلومات عن لاهوت الفينيقيين كما قدّمه سانخونياثون Σαγχουνιάθων وهو كاتب فينيقيّ يرجع تاريخه على وجه التقريب إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ ذلك أنَّ يوسابيوس قام بتأليف كتاب عنوانه "الإعداد للإنجيل" أراد منه عرض عقائد الأمم الوثنيّة وتفنيدها لإثبات صحة العقيدة المسيحيّة وتشجيع الناس على اعتناقها، ولقد نقل يوسابيوس بأمانة كبيرة فلسفات الأمم الغابرة التي اعتقد أنَّها وثنيّة، وجاء ما نقله عن الفينيقيين في هذا السياق. استند يوسابيوس إلى ما ذكره الفيلسوف الأفلاطوني المُحْدَث مالك السُّوريّ (234-305 م) المعروف بين مؤرِّخي الفلسفة بلقبه بورفيريوس Πορφύριος في أحد مؤلفاته (المفقودة الآن) عن أنَّ سانخونياثون أخذ السجلات التي اعتمدَ عليها في تاريخه من هيرومبالوس Hierombalus كاهن الإله إيو Ieuo؛ وأهدى تاريخه إلى أبي بعل (أبيبالوس) ملك بيروت Abibalus king of Berytus الذي استحسنه. كما قال بورفيريوس أيضًا –وفق يوسابيوس- إنَّ سانخونياثون هو الذي جمع التاريخ القديم من سجلات المدن المختلفة ومن سجلات المعابد وكتب باللغة الفينيقية، وتُرجمت أعمال سانخونياثون إلى اللغة اليونانية على يد فيلون الجبيلي Philo of Byblos. والحقيقة أنَّ يوسابيوس كان مخلصًا في مواقفه النقديّة، فبحث عن ترجمة فيلون الجبيليّ (ازدهر في القرن الأول قبل الميلاد) لكتاب "تاريخ فينيقيا" واستطاع العثور عليها بدليل ما أورده من مقبوسات من ترجمة فيلون الجبيلي لكتاب سانخونياثون "تاريخ فينيقيا"، سواء أكانت هذه المقبوسات ترجع إلى كلام فيلون نفسه أم إلى كلام سانخونياثون الذي نقله فيلون من الفينيقية إلى اليونانيّة. وأورد يوسابيوس ما قاله فيلون الجبيليّ عن سانخونياثون على النحو الآتي: "سانخونياثون، كان رجلًا كثير التعلم ومستطلعاً كبيراً، وراغباً في معرفة أقدم تاريخ لجميع الأمم منذ خلق العالم، بحث بعناية كبيرة في تاريخ طَاوُوتَس history of Taautus، عالماً أن طَاوُوتَس من بين كل البشر تحت الشَّمس كان أول من فكر في اختراع الحروف، وبدأ في كتابة السِّجلات: ووضع الأساس لتاريخه، إذ بدأ به، وقد أطلق عليه المصريون اسم تحوت Thoyth. وتحوت الإسكندري، الذي ترجمه اليونانيون إلى هيرميس "Hermes". وعليه يجب الانتباه إلى أنَّ نص لاهوت الفينيقيين الذي أورده يوسابيوس في كتابه "الإعداد للإنجيل"، ونقدّم ترجمته إلى العربيّة لم يكتبه سانخونياثون نفسه، بل جمعه من سجلات فينيقيّة قديمة. لكن لا بدّ من الإنباه أخيرًا إلى أنَّ الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا اليونانيّة قد أخذهم اليونانيون القدماء من تراث الفينيقيين كما لاحظ يوسابيوس نفسه، ولا نعلم إلى أيّ حدّ انتحل اليونانيون التراث الفينيقيّ، لأنَّ هذا المجال يحتاج إلى تضافر جهود عظيمه لكشفه. هذا، وقد أحلنا عند نهاية كلّ مقطع من مقاطع النصّ المترجم إلى مكان وروده في كتاب يوسابيوس الإعداد للإنجيل، وفقًا لطبعة ترجمته من اليونانية إلى الإنكليزية: 

EUSEBII PAMPHILI EVANGELICAE PRAEPARATIONIS LIBRI XV AD CODICES MANUSCRIPTOS DENUO COLLATOS RECENSUIT ANGLICE NUNC PRIMUM REDDIDIT NOTIS ET INDICIBUS INSTRUXIT E. H. GIFFORD, S.T.P. OLIM ARCHIDIACONUS LONDINENSIS TOMUS III. PARS PRIOR OXONII TYPOGRAPHEO ACADEMICO M. CM. Ill

النصّ

يَفْتَرِضُ أَنَّ بِدَايَةَ كُلِّ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ هَوَاءً مُظْلِمًا مُكَثَّفًا، أَوْ نَسِيمًا مِنْ هَوَاءٍ مُعْتِمٍ،

وَفَوْضَى عَكِرَةً غَيْرَ وَاضِحَةٍ مثل إِرِيبُوسَ. [1]

وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَتْ لَا نِهَائِيَّةً، وَلِزَمَنٍ طَوِيلٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا حُدُودٌ.

لَكِنْ حِينَمَا أَصْبَحَ هَذَا الْهَوَاءُ مُفْتَتَنًا بِمَبَادِئِهِ الذَّاتِيَّةِ،

وَحَدَثَ امْتِزَاجٌ، سُمِّيَ ذَلِكَ الْعِنَاقُ "الرَّغْبَةَ"،

وَكَانَتْ بِدَايَةَ خَلْقِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ.

غَيْرَ أَنَّ الْهَوَاءَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نِتَاجَ فِعْلِهِ. 

وَمِنْ ذَلِكَ الْهَوَاءِ، مِنْ عِنَاقِهِ، وُلِدَ "مُوتُ" (الْفَوْضَى أَوِ الْخَوَاءُ)؛

الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ "الطِّينَ"، وَآخَرُونَ "تَعَفُّنَ خَلِيطٍ مَائِيٍّ".

وَمِنْ هَذَا نَبَعَتْ كُلُّ بُذُورِ الْخَلْقِ،

وَتَكَوَّنَ الْكَوْنُ بِأَسْرِهِ.

وَلَكِنْ كَانَتْ هُنَاكَ حَيَوَانَاتٌ مُعَيَّنَةٌ
لَا تَمْلِكُ إِدْرَاكًا، مِنْهَا انْبَثَقَتِ الْحَيَوَانَاتُ الْعَاقِلَةُ،
وَسُمُّوا "زُوفَاسِمِينَ"، [2] أَيِ الْمُتَفَحِّصِينَ السَّمَاوِيِّينَ،وَكَانُوا مَخْلُوقِينَ عَلَى هَيْئَةِ بَيْضَةٍ بِمِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ.
وَمِنْ "موت" [3] أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ.
وَلَمَّا أَشْرَقَ الْهَوَاءُ بِالنُّورِ كُلِّيًّا،
بِتَأْثِيرِهِ النَّارِيِّ في الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ،
تَكَوَّنَتِ الرِّيَاحُ، وَالسُّحُبُ، وَانْدِفَاعَاتٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا،
وَسُيُولٌ مِنَ الْمِيَاهِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَلَمَّا تَفَرَّقَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ،
وَانْفَصَلَتْ عَنْ مَوَاضِعِهَا الْأَصْلِيَّةِ،
ثُمَّ الْتَقَتْ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ،
وَتَحَطَّمَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ،
كَانَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ أَثَرَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ دَوِيِّ الرُّعُودِ،
اسْتَيْقَظَتِ الْحَيَوَانَاتُ الْعَاقِلَةُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا،
وَفَزِعَتْ مِنَ الصَّوْتِ،
وَتَحَرَّكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى عَلَى الْأَرْضِ،
وَفِي الْبَحْرِ.

هَذِهِ الْأُمُورُ مَكْتُوبَةٌ فِي كَوْسْمُوغونِيَا طَاوُوتَسَ،
وَفِي مَذَكِّرَاتِهِ،
وَمِنَ الِاسْتِنْتَاجَاتِ وَالْعَلَامَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا عَقْلُهُ وَاكْتَشَفَهَا،
وَبِهَا أَنَارَ لَنَا الطَّرِيقَ.

وَبَعْدَ ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَسْمَاءَ الرِّيَاحِ: الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ وَغَيْرِهِمَا،
يُضِيفُ هَذَا الْخَاتِمَةَ:
"لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَشَرَ الْأَوَّلِينَ قَدَّسُوا نَبَاتَاتِ الْأَرْضِ، وَحَكَمُوا بِأَنَّهَا آلِهَةٌ،
وَعَبَدُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَانُوا يَعِيشُونَ عَلَيْهَا،
هُمْ وَجَمِيعُ ذُرِّيَّتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ سَبَقَهُمْ.
لها قَدَّمُوا الْقَرَابِينَ وَالذَّبَائِحَ."

ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ:
"هَكَذَا كَانَتْ طُرُقُ عِبَادَتِهِمْ،
مُتَّفِقَةً مَعَ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ جُرْأَةِ نُفُوسِهِمْ."
(يوسابيوس، الإعداد للإنجيل، الكتاب الأول، الفصل العاشر).

الأَجْيَالُ

مِنَ الرِّيحِ "كُولْبِيَاسَ" وَزَوْجَتِهِ "بَاوُ"، الَّتِي تُفَسَّرُ بِـ"اللَّيْلِ"،

وُلِدَ مَوْتَمَانِ (توأمان=إنسانان فانيان) يُدْعَيَانِ "إِيُونَ" وَ"بْرُوتُوغُونُوسَ". 

وَاكْتَشَفَ "إِيُونُ" الطَّعَامَ مِنَ الْأَشْجَارِ. 

وَالَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ هَذَيْنِ سُمُّوا "جِنُوسَ" وَ"جِنِيَا"،

وَسَكَنُوا فِي فِينِيقِيَا.

وَعِنْدَمَا حَلَّتْ جفافات عَظِيمة،

مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ السَّمَاءِ إِلَى الشَّمْسِ؛

لِأَنَّهُمْ ظَنُّوهُ السَّيِّدَ الْوَحِيدَ لِلسَّمَاءِ،

وَسَمَّوْهُ "بَعْلَسَامِينَ"،

وَمَعْنَاهُ فِي الْفِينِيقِيَّةِ "رَبُّ السَّمَاءِ"،

وَلَكِنْ فِي الْيُونَانِيَّةِ "زَيُوسَ".

وَبَعْدَ ذَلِكَ، وُلِدَ لِـ"جِنُوسَ"، ابْنِ "بْرُوتُوغُونُوسَ" وَ"إِيُونَ"،

أَبْنَاءٌ بَشَرِيُّونَ، أَسْمَاؤُهُمْ "فُوسُ" وَ"بُورُ" وَ"فْلُوكْسُ".

هَؤُلَاءِ اكْتَشَفُوا طَرِيقَةَ إِشْعَالِ النَّارِ بِحَكِّ قِطَعِ الْخَشَبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ،

وَعَلَّمُوا الْبَشَرَ اسْتِخْدَامَهَا.

وَأَنْجَبَ هَؤُلَاءِ أَبْنَاءً ذَوِي أَجْسَامٍ هَائِلَةٍ وَطُولٍ فَارِعٍ،

وَسُمِّيَتْ بِأَسْمَائِهِمُ الْجِبَالُ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا أَوَّلًا:

فَسُمِّيَتْ بِهِمْ جِبَالُ "كَاسِيُوسَ (=الأقرع)"، وَ"لِبْنَانَ"، وَ"أَنْتِي لِبْنَانَ (=جبال لبنان الشرقية)"، وَ"بْرَاثُو".

وَكَانَ "مِمْرُومُوسُ" وَ"هِبْسُورَانِيُوسُ" ثَمَرَةَ اتِّصَالِ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ بِأُمَّهَاتِهِمْ،

نِسَاء ذَلِكَ الزَّمَانِ، دُونَ خَجَلٍ،

حَيْثُ كَانُوا يَضْطَجِعُونَ مَعَ أَيِّ رَجُلٍ.

ثُمَّ سَكَنَ "هِبْسُورَانِيُوسُ" فِي صُورَ،

وَابْتَكَرَ صُنْعَ الْأَكْوَاخِ مِنَ الْقَصَبِ وَالْغَابِ وَالْبرْدِيِّ.

وَوَقَعَ فِي عَدَاوَةٍ مَعَ أَخِيهِ "أُوسُوسَ"،

الَّذِي صَنَعَ أَوَّلَ مَلَابِسَ لِلْجَسَدِ مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ الَّتِي كَانَ يَصْطَادُهَا.

وَعِنْدَمَا هَبَّتْ عَوَاصِفُ شَدِيدَةٌ مِنَ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ،

تَحَاكَّتِ الْأَشْجَارُ فِي صُوْرَ وَاشْتَعَلَتْ بِالنَّارِ،

وَاحْتَرَقَ الْغَابُ هُنَاكَ.

وَأَخَذَ "أُوسُوسُ" شَجَرَةً، وَكَسَرَ أَغْصَانَهَا،

وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ.

وَقَدَّسَ عَمُودَيْنِ لِلنَّارِ وَالرِّيحِ، وَعَبَدَهُمَا،

وَسَكَبَ لَهُمَا دِمَاءَ الْوُحُوشِ الَّتِي كَانَ يَصْطَادُهَا.

وَعِنْدَمَا انْتَهَتْ هَذِهِ (الْعَاصِفَةُ وَالنَّارُ؟)،

قَدَّسَ من أجلهما جُذُوعَ الْخَشَبِ الْبَاقِيَةِ،

وَعَبَدَ الْعَمُودَيْنِ،

وَأَقَامَ أَعْيَادًا سَنَوِيَّةً لِتِلْكَ الْجُذُوعِ.

وَفِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَلَتْ جِيلَ "هِبْسُورَانِيُوسَ"،
ظَهَرَ "أَغْرِيُوسُ" وَ"هَالِيُوسُ"،
مُخْتَرِعَا فَنِّ الصَّيْدِ وَصَيْدِ الْأَسْمَاكِ،
وَمِنْهُمَا سُمِّيَ الصَّيَّادُونَ وَصَيَّادُو الْأَسْمَاكِ.

وُلِدَ مِنْ هَذَيْنِ أَخَوَانِ
اكْتَشَفَا الْحَدِيدَ وَطَرِيقَةَ صَهْرِهِ.
أَحَدُهُمَا يُدْعَى "خْرِيسُورَ"،
وَهُوَ نَفْسُهُ "هِفَسْتُوسُ"،
تَمَرَّسَ فِي الْكَلِمَاتِ وَالتَّعَاوِيذِ وَالتَّنَبُّؤَاتِ؛
وَابْتَكَرَ الْخُطَّافَ وَالطُّعْمَ وَخَيْطَ الصَّيْدِ،
وَالْقَوَارِبَ الْخَفِيفَةَ الْبِنَاءِ.
وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ يُبْحِرُ فِي الْبَحْرِ.

لِذَلِكَ عُبِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَإِلَهٍ،
وَسُمِّيَ "دِيَامِيخِيُوسَ".
وَيُقَالُ إِنَّ أَخَوَيْهِ
ابْتَكَرَا طَرِيقَةَ بِنَاءِ الْجُدْرَانِ مِنَ الطُّوبِ.

وَبَعْدَ ذَلِكَ، وُلِدَ مِنْ هَذَا الْجِيلِ
شَابَّانِ، أَحَدُهُمَا يُدْعَى "تِخنِيتِسَ، [4] وَالْآخَرُ "جِينُوسَ أَوْتُوكْثُونَ".
هَذَانِ اكْتَشَفَا طَرِيقَةَ مَزْجِ التِّبْنِ بِطِينِ اللِّبْنِ،
وَتَجْفِيفِهِ فِي الشَّمْسِ؛
وَابْتَكَرَا صِنَاعَةَ الْقَرَامِيدِ.

وُلِدَ مِنْ هَذَيْنِ آخَرُونَ،

أَحَدُهُمَا يُدْعَى "أَغْرُوسَ"،

وَالْآخَرُ "أَغْرُويْرُوسَ" أَوْ "أَغْرُوتِسَ". 

وَكَانَ لَهُ فِي فِينِيقِيَا تِمْثَالٌ يُحْظَى بِأَعْلَى دَرَجَاتِ التَّوْقِيرِ،

وَهَيْكَلٌ يُجَرُّ بِنِيرِ الثِّيرَانِ.

وَفِي جُبَيْلَ، يُدْعَى بِطَرِيقِ التَّمْيِيزِ "أَعْظَمَ الْآلِهَةِ".

هَذَانِ ابْتَكَرَا السَّاحَاتِ وَأَسْوَارَ الْمَنَازِلِ،

وَالْكُهُوفَ وَالْأَقْبِيَةَ.

مِنْهُمَا انْحَدَرَ الْفَلَّاحُونَ وَالصَّيَّادُونَ بِالْكِلَابِ،

وَيُسَمَّوْنَ أَيْضًا أَلِيتْاي" وَ"تِيتَان". 

وَانْحَدَرَ مِنْهُمَا "أَمِينُوسُ" وَ"مَاجُوسُ"،

اللَّذَانِ عَلَّمَا النَّاسَ بِنَاءَ الْقُرَى وَرِعَايَةَ الْقُطْعَانِ.

وَوُلِدَ مِنْهُمَا "مِيسُورُ" وَ"سِيدِيكُ"،

أَيْ "المتحرّر" وَ"الْعَادِلُ."

وَهُمَا اللَّذَانِ اكْتَشَفَا اسْتِخْدَامَ الْمِلْح. 

وَمِنْ "مِيسُورَ" جَاءَ "طَاوُوتُسُ"،

الَّذِي ابْتَكَرَ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ الْأُولَى.

سَمَّاهُ الْمِصْرِيُّونَ "ثُورَ"،

وَالْإِسْكَنْدَرِيُّونَ "ثُويُثَ"،

وَالْيُونَانِيُّونَ "هِرْمِيسَ." 

وَمِنْ "سِيدِيكَ" جَاءَ "الدِّيُوسْكُورِيُّ"،

أَوِ "الْكَابِيرِيُّ"، أَوِ "الْكُورِيبَانْتِسُ"، أَوِ "السَّامُوثَاسِيُّ."

هَؤُلَاءِ (كَمَا يَقُولُ) بَنَوْا أَوَّلَ سَفِينَةٍ كَامِلَةٍ.

فِي زَمَنِ هَؤُلَاءِ عَاشَ "إِلِيُونَ"،

وَهُوَ يُرْمَزُ إِلَى "هِبْسِيسْتُوسَ" (الْأَعْلَى)،

وَزَوْجَتُهُ تُدْعَى "بِيرُوثَ"،

وَكَانَا يُقِيمَانِ حَوْلَ جُبَيْلَ.

وُلِدَ لَهُمَا "إِبِيجِيُوسَ" أَوْ "أَوْتُوكْثُونَ"،

الَّذِي سُمِّيَ لَاحِقًا "أُورَانُوسَ" (السَّمَاءَ).

وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعُنْصُرُ الَّذِي فَوْقَنَا،

بِسَبَبِ جَمَالِهِ الْبَاهِرِ، "السَّمَاءَ." 

وَكَانَ لَهُ أُخْتٌ مِنَ الْوَالِدَيْنِ نَفْسِهِمَا،

وَسُمِّيَتْ "جِي" (الْأَرْضَ)،

وَبِسَبَبِ جَمَالِهَا سُمِّيَتِ الْأَرْضُ بِالِاسْمِ نَفْسِهِ.

"هِبْسِيسْتُوسَ"، وَالِدُ هَذَيْنِ،

قُتِلَ فِي صِرَاعٍ مَعَ وُحُوشٍ بَرِّيَّةٍ،

فَتَمَّ تَقْدِيسُهُ،

وسكبَ أَبْنَاؤُهُ لَهُ الخمر كقربان وَقدَّموا الذَّبَائِحَ.

أَمَّا "أُورَانُوسَ"، فَقَدْ تَسَلَّمَ مَمْلَكَةَ أَبِيهِ،

وَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ "جِي"،

وَأَنْجَبَ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَبْنَاءٍ:

"إِيلُوسَ" الَّذِي يُدْعَى "كْرُونُوسَ"،

وَ"بِيتِيلُوسَ"،

وَ"دَاجُونَ" [5] الَّذِي هُوَ "سِيتُونَ"،

وَأَطْلَسَ."

وَلَكِنْ مِنْ زَوْجَاتٍ أُخْرَيَاتٍ،

أَنْجَبَ "أُورَانُوسَ" ذُرِّيَّةً كَثِيرَةً،

فَحَزِنَتْ "جِي" وَغَارَتْ،

وَلَامَتْ "أُورَانُوسَ"،

فَافْتَرَقَا عَنْ بَعْضِهِمَا.

وَلَكِنْ "أُورَانُوسَ"، رَغْمَ افْتِرَاقِهِ عَنْهَا،

كَانَ يَعُودُ إِلَيْهَا بِالْقُوَّةِ مَتَى شَاءَ،

وَيَضْطَجِعُ مَعَهَا ثُمَّ يَرْحَلُ.

بَلْ حَاوَلَ قَتْلَ الْأَبْنَاءِ الَّذِينَ أَنْجَبَهُمَا مِنْهَا.

وَكَانَتْ "جِي" تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ تَنْتَقِمُ،

بِجَمْعِ قُوًى مُسَاعِدَةٍ لَهَا.

وَلَكِنْ عِنْدَمَا بَلَغَ "كْرُونُوسَ" سِنَّ الرُّشْدِ،
بِنَصِيحَةِ وَمُسَاعَدَةِ "هِرْمِسَ تْرِيسْمِيجِيسْتُوسَ"،
الَّذِي كَانَ مستشاره،
عَارَضَ أَبَاهُ "أُورَانُوسَ"،
لِيَنْتَقِمَ لِأُمِّهِ "جِي".

وَكَانَ لِـ "كْرُونُوسَ" ابْنَتَانِ،
"بَرْسِيفُونِي" وَ"أَثِينَا"؛
تُوُفِّيَتِ الْأُولَى وَهِيَ عَذْرَاءُ.
وَبِنَصِيحَةٍ مِنْ "أَثِينَا" وَ"هِرْمِسَ"،
صَنَعَ "كْرُونُوسَ" مِنَ الْحَدِيدِ سَيْفًا وَرُمْحًا.

ثُمَّ خَاطَبَ "هِرْمِسَ" حُلَفَاءَ "كْرُونُوسَ" بِكَلِمَاتٍ سِحْرِيَّةٍ،
فَأَشْعَلَ فِيهِمْ رَغْبَةً شَدِيدَةً لِلْقِتَالِ
ضِدَّ "أُورَانُوسَ" نُصْرَةً لِـ "جِي".

وَهَكَذَا، هَزَمَ "كْرُونُوسَ" "أُورَانُوسَ" فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَطَرَدَهُ مِنْ مَمْلَكَتِهِ،
وَخَلَفَهُ فِي السُّلْطَةِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ.

فِي الْمَعْرَكَةِ، أُسِرَتْ جَارِيَةٌ مُحَبَّبَةٌ لِـ "أُورَانُوسَ" كَانَتْ حَامِلًا.
أَعْطَاهَا "كْرُونُوسَ" زَوْجَةً لِـ "دَاجُونَ"،
فَوَلَدَتْ طِفْلًا سُمِّيَ "دِيمَارُونَ".

بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ، بَنَى "كْرُونُوسَ" سُورًا حَوْلَ مَسْكَنِهِ،
وَأَسَّسَ جُبَيْلَ، أَوَّلَ مَدِينَةٍ فِي فِينِيقِيَا.

وَبَعْدَ ذَلِكَ، وَبِسَبَبِ شَكِّهِ فِي أَخِيهِ "أَطْلَسَ"،
وَبِنَصِيحَةٍ مِنْ "هِرْمِيسَ"،
أَلْقَى بِهِ فِي كَهْفٍ عَمِيقٍ فِي الْأَرْضِ،
وَدَفَنَهُ هُنَاكَ.

فِي هَذَا الْوَقْتِ، بَنَى أَحْفَادُ "الدِّيُوسْكُورِيِّ" سُفُنًا خَفِيفَةً وَأُخْرَى أَكْثَرَ اكْتِمَالًا،
وَأَبْحَرُوا بِهَا فِي الْبَحْرِ.
وَعِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى مُقَابِلِ جَبَلِ "كَاسِيُوسَ"،
قَدَّسُوا هُنَاكَ هَيْكَلًا.

أَمَّا حُلَفَاءُ "إِيلُوسَ"(الَّذِي هُوَ "كْرُونُوسَ")،
فَكَانُوا يُدْعَوْنَ "إِلُوهِيمَ" [6] أَيْ حُلَفَاءَ "كْرُونُوسَ"،
وَسُمُّوا بِذَلِكَ بَعْدَ "كْرُونُوسَ".

وَكَانَ لِـ "كْرُونُوسَ" ابْنٌ يُدْعَى "سَادِيدُوسَ"،
فَقَتَلَهُ بِسَيْفِهِ الْخَاصِّ،
لِأَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ،
وَحَرَمَهُ مِنَ الْحَيَاةِ بِيَدِهِ.

وبالطَّرِيقَةِ نفسها، قَطَعَ رَأْسَ ابْنَتِهِ
حَتَّى أَنَّ جَمِيعَ الْآلِهَةِ دُهِشُوا مِنْ عَقْلِ "كْرُونُوسَ".
وَمَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ، وَبَيْنَمَا كَانَ "أُورَانُوسَ" فِي الْمَنْفَى،
أَرْسَلَ ابْنَتَهُ "أَسْتَارْتَ"، مَعَ أُخْتَيْهَا "رِيَا" وَ"دِيُونَ"،
لِيَقْتُلْنَ "كْرُونُوسَ" بِالْخِدَاعِ.
لَكِنَّ "كْرُونُوسَ" أَخَذَ الْفَتَيَاتِ،
وَتَزَوَّجَهُنَّ وَهُنَّ أَخَوَاتُهُ.

عِنْدَمَا عَلِمَ "أُورَانُوسَ" بِذَلِكَ،
أَرْسَلَ "إِيمَارْمِينَ" وَ"هُورَا" مَعَ حُلَفَاءَ آخَرِينَ
لِيُحَارِبُوهُ.
لَكِنَّ "كْرُونُوسَ" كَسَبَ وُدَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا،
وَأَبْقَاهُمْ مَعَهُ.

عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ،
ابْتَكَرَ الْإِلَهُ "أُورَانُوسَ""بايتُولِيَا"،
وَصَنَعَ حِجَارَةً تَتَحَرَّكُ كَأَنَّهَا حَيَّةٌ.

وَأَنْجَبَ "كْرُونُوسَ" مِنْ "أَسْتَارْتَ" سَبْعَ بَنَاتٍ،

سُمِّينَ "تِيتَانِيدِسَ" أَوْ "أَرْتِيمِيدِسَ."

وَأَنْجَبَ مِنْ "رِيَا" سَبْعَةَ أَبْنَاءٍ،

كَانَ أَصْغَرُهُمْ مُقَدَّسًا مُنْذُ وِلَادَتِهِ.

وَأَنْجَبَ مِنْ "دِيُونَ" بَنَاتٍ،

وَمِنْ "أَسْتَارْتَ" أَيْضًا ابْنَيْنِ، "بُوثُوسَ" وَ"إِيرُوسَ."

وَبَعْدَ أَنِ اكْتَشَفَ "دَاجُونَ" الْخُبْزَ وَالْمِحْرَاثَ،

سُمِّيَ "زَيُوسَ أَرُوتْرِيُوسَ."

وَأَنْجَبَتْ إِحْدَى الـ"تِيتَانِيدِسَ Titanides " لِـ "سِيدِيكَ" (الْعَادِلِ) "أَسْكَلِيبِيُوسَ."

وَكَانَ لِـ "كْرُونُوسَ" فِي "بَرْسِيَا" ثَلَاثَةُ أَبْنَاءٍ:

"كْرُونُوسَ" الَّذِي حَمَلَ اسْمَ أَبِيهِ،

وَ"زَيُوسَ بَيلُوسَ"،

وَ"أَبُولُّو."

وَفِي الْعَصْرِ نَفْسِه عَاشَ "بُونْتُوسَ"،

وَ"تِيفُونَ"،

وَ"نِيرِيُوسَ" وَالِدُ "بُونْتُوسَ."

وَمِنْ "بُونْتُوسَ" انْحَدَرَتْ "سِيدُونَ"،

الَّتِي ابْتَكَرَتْ بِصَوْتِهَا الْعَذْبِ أَوَّلَ أَنَاشِيدِ الْمَدْحِ وَالتَّسْبِيحِ.

وَ"بُوسَيدُونَ."

وَوُلِدَ لِـ "دِيمَارُونَ" "مِلِيكَارْثُوسَ"،

الَّذِي يُدْعَى أَيْضًا "هِرَاكْلِيسَ." 

ثُمَّ شَنَّ "أُورَانُوسَ" حَرْبًا ضِدَّ "بُونْتُوسَ"،

لَكِنَّهُ انْفَصَلَ عَنْهُ وَتَحَالَفَ مَعَ "دِيمَارُونَ."

هَاجَمَ "دِيمَارُونَ" "بُونْتُوسَ"،

لَكِنَّ "بُونْتُوسَ" أَجْبَرَهُ عَلَى الْفِرَارِ،

فَنَذَرَ "دِيمَارُونَ" قُرْبَانًا لِنَجَاتِهِ.

فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ حُكْمِهِ وَمُلْكِهِ،
نَصَبَ "إِيلُوسَ"( الَّذِي هُوَ "كْرُونُوسَ)" كَمِينًا لِأَبِيهِ "أُورَانُوسَ"
فِي مَكَانٍ بِوَسَطِ الْأَرْضِ،
وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَطَّعَ أَوْصَالَهُ بِالقُرْبِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ.
هُنَاكَ تَمَّ تَقْدِيسُ "أُورَانُوسَ"،
وَانْفَصَلَتْ رُوحُهُ،
وَسَقَطَ دَمُهُ فِي الْعُيُونِ وَمِيَاهِ الْأَنْهَارِ.
وَالْمَكَانُ مَعْرُوفٌ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا.

(ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ الْمُؤَرِّخُ بَعْدَ بَعْضِ الْأُمُورِ كَالتَّالِي):

لَكِنَّ "أَسْتَارْتَ" الْعُظْمَى،
وَ"دِيمَارُونَ" الَّذِي سُمِّيَ "زَيُوسَ"،
وَ"أَدُودُوسَ" الْمُلَقَّبَ بِمَلِكِ الْآلِهَةِ،
حَكَمُوا الْبِلَادَ بِمُوَافَقَةِ "كْرُونُوسَ".
وَوَضَعَتْ "أَسْتَارْتَ" عَلَى رَأْسِهَا رَأْسَ ثَوْرٍ
كَعَلَامَةٍ لِسِيَادَتِهَا.
وَبَيْنَمَا كَانَتْ تَجُوبُ الْعَالَمَ الْمَأْهُولَ،
وَجَدَتْ نَجْمًا يَلْمَعُ فِي الْهَوَاءِ،
فَأَخَذَتْهُ وَقَدَّسَتْهُ فِي جَزِيرَةِ صُورَ الْمُقَدَّسَةِ.
وَيَقُولُ الْفِينِيقِيُّونَ إِنَّ "أَسْتَارْتَ" هِيَ "أَفْرُودِيتَ".

وَ"كْرُونُوسَ" أَيْضًا، بَيْنَمَا كَانَ يَجُوبُ الْعَالَمَ الْمَأْهُولَ،
مَنَحَ ابْنَتَهُ "أَثِينَا" مَمْلَكَةَ أَتِيكَا.
وَعِنْدَمَا حَلَّ وَبَاءٌ وَمَوْتٌ،
قَدَّمَ "كْرُونُوسَ" ابْنَهُ الْوَحِيدَ قُرْبَانًا لِأَبِيهِ "أُورَانُوسَ"،
وَخَتَنَ نَفْسَهُ،
وَأَجْبَرَ حُلَفَاءَهُ عَلَى فِعْلِ الْمِثْلِ.

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ،
قَدَّسَ بَعْدَ مَوْتِهِ ابْنًا آخَرَ يُدْعَى "مُوثَ"،
الَّذِي أَنْجَبَهُ مِنْ "رِيَا"؛
وَيُسَمِّيهِ الْفِينِيقِيُّونَ "الْمَوْتَ" وَ"بْلُوتُو."

بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ،
مَنَحَ "كْرُونُوسَ" مَدِينَةَ جُبَيْلَ لِلْإِلَهَةِ "بَعْلَتِسَ" (الَّتِي هِيَ "دِيُونَ)"
وَبَيرُوتَ لِـ "بُوسَيدُونَ"،
وَلِـ "الْكَابِيرِيِّ" الْفَلَّاحِينَ وَالصَّيَّادِينَ.
وَقَدَّسُوا بَقَايَا "بُونْتُوسَ" فِي بَيرُوتَ.

لَكِنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ،
مَثَّلَ الْإِلَهُ "طَاوُوتُسَ" "أُورَانُوسَ"،
وَصَنَعَ رُمُوزًا لِوُجُوهِ الْآلِهَةِ "كْرُونُوسَ" وَ"دَاجُونَ"،
وَالْحُرُوفَ الْمُقَدَّسَةَ لِلْعَنَاصِرِ الْأُخْرَى.
وَابْتَكَرَ أَيْضًا لِـ "كْرُونُوسَ" شِعَارَ سُلْطَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ،
الَّذِي يَحْمِلُ أَرْبَعَ عُيُونٍ فِي الْجِهَتَيْنِ الْأَمَامِيَّةِ وَالْخَلْفِيَّةِ،
كتمت اثْنَتَانِ مِنْهَا مُغْمَضَتَينِ كَأَنَّهُمَا فِي نَوْمٍ؛
وَعَلَى الْكَتِفَيْنِ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ،
اثْنَانِ فِي حَالَةِ الطَّيَرَانِ،
وَاثْنَانِ فِي حَالَةِ الرَّاحَةِ.

وَكَانَ الرَّمْزُ يَعْنِي أَنَّ "كْرُونُوسَ" يَرْقُبُ وَهُوَ نَائِمٌ،
وَيَسْتَرِيحُ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِأَجْنِحَتِهِ،
كَانَ يَطِيرُ وَهُوَ مُسْتَرِيحٌ،
وَيَسْتَرِيحُ وَهُوَ يَطِيرُ.

أَمَّا الْآلِهَةُ الْأُخْرَى،
فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ جَنَاحَانِ فَقَطْ عَلَى كَتِفَيْهِ،
لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَطِيرُونَ تَحْتَ سَيْطَرَةِ "كْرُونُوسَ".
وَكَانَ لَهُ أَيْضًا جَنَاحَانِ عَلَى رَأْسِهِ،
وَاحِدٌ لِلْعَقْلِ (أَعْلَى قُوَّةٍ حَاكِمَةٍ)،
وَوَاحِدٌ لِلْحَوَاسِّ.

وَعِنْدَمَا دَخَلَ "كْرُونُوسَ" مَدِينَةَ الْجَنُوبِ،
مَنَحَ كُلَّ مِصْرَ لِلْإِلَهِ "طَاوُوتُسَ"،
لِتَكُونَ مَمْلَكَتَهُ.

هَذِهِ الْأُمُورُ، كَمَا يَقُولُ،
سَجَّلَهَا أَوَّلًا "الْكَابِيرِيُّ"،
أَبْنَاءُ "سِيدِيكَ" السَّبْعَةُ،
وَأَخُوهُمُ الثَّامِنُ "أَسْكَلِيبِيُوسَ"،
بِأَمْرٍ مِنَ الْإِلَهِ "طَاوُوتُسَ".

وَقَامَ "ابْنُ ثَابِيُونَ"،
أَوَّلُ هِيرُوفَانْتَ [7] بَيْنَ الْفِينِيقِيِّينَ، 

بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَخَلْطِهَا بِأَحْدَاثِ وَعَوَاطِفِ الطَّبِيعَةِ وَالْعَالَمِ،
وَسَلَّمَهَا لِلْكَهَنَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ،
مُشْرِفِي الْأَسْرَارِ.
وَعِنْدَمَا لَاحَظُوا ازْدِيَادَ الْحَمَاسَةِ لِهَذِهِ الرُّمُوزِ،
سَلَّمُوهَا لِخُلَفَائِهِمْ وَلِلْأَجَانِبِ.

وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ كَانَ "إِيزِيرِيسَ"،
مُخْتَرِعُ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ،
أَخُو "كْنَا"،
الَّذِي يُدْعَى أَوَّلَ فِينِيقِيٍّ.

(يوسابيوس، الإعداد للإنجيل، الكتاب الأول، الفصل العاشر).

عَنِ الذَّبِيحَةِ الْغَامِضَةِ عِنْدَ الْفِينِيقِيِّينَ 

كَانَتْ عَادَةُ الْقُدَمَاءِ، فِي أَوْقَاتِ الْكَوَارِثِ الْعَظِيمَةِ،

لِمَنْعِ دَمَارِ الْجَمِيعِ،

أَنْ يُقَدِّمَ حُكَّامُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأُمَّةِ

ذَبِيحَةً لِلْآلِهَةِ الْمُنْتَقِمَةِ،

وَهِيَ أَعَزُّ أَبْنَائِهِمْ ثَمَنًا لِلْفِدَاءِ.

وَكَانَ مَنْ يُخَصَّصُ لِهَذَا الْغَرَضِ

يُقَدَّمُ بِطَرِيقَةٍ غَامِضَةٍ.

فَـ كْرُونُوسَ"، الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفِينِيقِيُّونَ "إِيلَ"،

وَالَّذِي بَعْدَ مَوْتِهِ تَمَّ تَأْلِيهُهُ وَوَضْعُهُ فِي الْكَوْكَبِ الَّذِي يَحْمِلُ اسْمَهُ،

عِنْدَمَا كَانَ مَلِكًا،

أَنْجَبَ مِنْ حَوْرِيَّةٍ مِنَ الْبِلَادِ تُدْعَى "أَنُوبْرِيتَ"

ابْنًا وَحِيدًا،

وَلِذَلِكَ سُمِّيَ "إيُودَ Ieoud "،

لِأَنَّ الْفِينِيقِيِّينَ لَا يَزَالُونَ يُسَمُّونَ الِابْنَ الْوَحِيدَ بِهَذَا الِاسْمِ.

وَعِنْدَمَا حَلَّ خَطَرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْحَرْبِ بِالْبِلَادِ،

زَيَّنَ الْمَذْبَحَ،

وَأَلْبَسَ هَذَا الِابْنَ رُمُوزَ الْمَلَكِيَّةِ،

وَقَدَّمَهُ ذَبِيحَةً.

(يوسابيوس، الإعداد للإنجيل، الكتاب الأول، الفصل العاشر)

عَنِ الْحَيَّةِ 

كَانَ "طَاوُوتُسَ" أَوَّلَ مَنْ قَدَّسَ "الْبَاسِيلِيسْكَ" [8]، 

وَأَدْخَلَ عِبَادَةَ الْحَيَّاتِ.

وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْفِينِيقِيُّونَ وَالْمِصْرِيُّونَ.

لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى هَذَا الْحَيَوَانَ

أَكْثَرَ الْزَّوَاحِفِ حَيَوِيَّةً وَذَا طَبِيعَةٍ نَارِيَّةٍ؛

حَيْثُ يُظْهِرُ سُرْعَةً لَا تُصَدَّقُ،

وَيَتَحَرَّكُ بِرُوحِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى أَيْدٍ أَوْ أَرْجُلٍ

أَوْ أَيِّ أَعْضَاءَ خَارِجِيَّةٍ،

بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فِي حَرَكَتِهَا. 

وَفِي تَقَدُّمِهِ، يَأْخُذُ أَشْكَالًا مُتَنَوِّعَةً،

وَيَتَحَرَّكُ فِي مَسَارٍ لَوْلَبِيٍّ،

بِالْمُسْتَوَى الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَ السُّرْعَةِ.

وَهُوَ طَوِيلُ الْعُمْرِ جِدًّا،

وَلَهُ خَاصِّيَّةُ التَّخَلُّصِ مِنْ شَيْخُوخَتِهِ،

وَافْتِرَاضِ شَبَابٍ ثَانٍ،

بَلْ يَحْصُلُ عَلَى زِيَادَةٍ أَكْبَرَ.

وَعِنْدَمَا يُتِمُّ الْمِقْدَارَ الْمُحَدَّدَ لِوُجُودِهِ،

يُفْنِي نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ.

كَمَا وَضَعَ "طَاوُوتُسَ" فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ،

وَلِذَلِكَ يُدْخَلُ هَذَا الْحَيَوَانُ فِي الطُّقُوسِ وَالْأَسْرَارِ الْمُقَدَّسَةِ.

(يوسابيوس، الإعداد للإنجيل، الكتاب الأول، الفصل العاشر)

الهوامش:

1- إريبوس Erebus إله الظلام الدامس.

2- زوفاسمين Zophasemin كائنات ذكية تسكن في بيضة لتسهم في تشكيل العالم، وسيظهر مفهوم البيضة الكونيّة لاحقًا عند الأفلاطونيين المحدثين السوريين. 

3- موت Mot موت هو إله الموت والعالم السفلي عند الكنعانيين، وكان معروفًا أيضًا لدى أهل أوغاريت وفي فينيقيا، حيث انتشرت الديانة الكنعانية على نطاق واسع.

4- تخنيس Technites" من هذا الاسم الفينيقيّ اشتُقت عبر اليونانية كلمة تكنولوجيا Technology.

5- داجون Dagon إله القمح عند الكنعانيين القدماء، ومن الجميل حتى الآنَّ أنَّ بعض كبار السِّن تحديدًا في الساحل السوريّ يُسمّون الخبز الدَّجن، فيقول أحدهم مثلًا: لم أذق الدَّحن اليوم.

6- إلوهيم Eloim سيصبح هذا الاسم الفينيقي اسمًا ليهوه بالعبريّة من أجل تعظيمه بصيغة الجمع.

7- "هِيرُوفَانْتَ Hierophant" الكاهن الأعظم عند الفينيقيين.

8- الْبَاسِيلِيسْكَ the basilisk ملك الثعابين.