ليست هذه المرة الأولى التي أروي فيها هذه القصة. لقد رويت جزءًا من أحداثها وأنا طالبة بالجامعة الأمريكية ونشرته في مجلة الجامعة الأمريكية. ظننت حينها أنني كتبت الفصل الأخير في القصة، وأنهيتها بسعادة وأنني كتبت انتصاري وبلغت الحرية ولن أعود لذلك السجن قط، وأنني بالفعل صرت حرة.
كان كثيرون منا في مصر وقتها يحسبون بطرق مختلفة أننا بلغنا الحرية، وكلنا أدركنا اليوم بطرق مختلفة أننا كنا نحيا الوهم.
أكتب اليوم للمرة الثانية لأنني اكتشفت أنني كنت أعيش في حرية زائفة. كنت أحسب أنني تحررت بينما يبدو أنني سأبقى أبد الدهر حبيسة ذلك السجن. سميته حينها في المقال "سجن السلفانة." لا أعلم أي اسم أطلق عليه اليوم وسأكتفي باسم تقليدي هو "سجن العذرية"، لكنني أعلم أن مشاعري وذلي لم يتغيروا. سأروي القصة مرة ثانية من البداية ثم أروي أين وصلت اليوم بعد أعوام طويلة مضت علي وهم الحرية الزائف. بداية القصة هي عندما كنت في التاسعة من عمري. جاءتني الدورة الشهرية في هذه السن. دخلت أمي علي المرحاض فأخبرتها بكل فخر طفولي أنني صرت الآن كبيرة. أمي فزعت وردة فعلها كانت نقطة البداية في الصدمة. صرخت بصوت عال وضربت يدها على صدرها. هذه علامة في المجتمعات العربية على حدوث مصيبة. لم تكن تلك سوى البداية. بعد ذلك جاءت جدتي وجدي إلي في الحمام في اقتحام بشع لخصوصيتي. أدركت منذ تلك اللحظة أن ما يحدث في فرجي ليس أمراً خاصاً بي لكنه شأن الكل في هذا المجتمع إلا أنا. أخبرتني جدتي وأمي أني سآخذ اليوم إجازة من المدرسة لأنهما يجب أن تشرحا لي أمورًا هامة. أمي كانت مرعوبة ومهزوزة. أخبرتني فجأة في اللحظات الأولى أنني يجب أن أحافظ على شيء يسمى غشاء البكارة. شرحت لي أنه غشاء بسيط سهل التمزق، وأنني يجب أن أحافظ بقوة عليه لأنني إن فقدته لن أستطيع الزواج. لم أستوعب الأمر في البداية، كنت في حالة هلع. جدتي أخذتني بلطف، أخذت تشرح لي الأمر ثانية بطريقة أهدأ، وأعقل من والدتي، ولو كان ذلك يخلو من العقلانية. قالت لي إن غشاء البكارة لا يتمزق بسهولة، لكنه أمر يتطلب فعلًا ما. لم تشرح لي ماهية الفعل، ولكن ما وصل لي أنه مرتبط بطريقة ما بالعلاقة الخارجة عن التربية. والدتي أخذت تشرح لي أنه شيء داخل جزء من جسدي لم أكن قد رأيته من قبل، ولكنه شيء يستطيع التمزق بسهولة، وأنني لا يجب أن أحاول رؤيته حتى لا يحدث حادث له وأنا أحاول رؤيته وأنني يجب أن أحافظ عليه وألا ألعب بالعجلة، ويجب أن أراقب أفعالي حتى لا يتمزق. أصرت كثيًرا على التأكيد على أنني لن أتزوج إن تمزق. عندما فعلت والدتي ذلك كطفلة لم أفهم شيئًا ولم يُشرَح لي شيء، أصبت فجأة للمرة الأولى في حياتي بنوع من الفوبيا. كنت كلما فعلت أي فعل جئت إلى أمي لأسألها هل تمزق غشاء البكارة نتيجة لذلك؟ أشياء طفولية مثل اللعب، أشياء يومية مثل استخدام شطافة. أشياء بسيطة وتافهة مثل جلوسي لفترة عارية قبل أن تجف ملابسي الداخلية. كنت أخاف من الهواء، من الماء، من كل شيء. جريت إلى أمي أطلب منها أن تشرح لي ولكنها سئمت مني وقالت لي إن بقيت تخافين كل شيء سأقول إن أحدًا قد اعتدى عليك. قالتها وكأن ذلك سيعتبر جرمًا ارتكبته أنا. صمت وتركت خوفي داخلي وكتمته وكتم الخوف أصعب كثيرًا منه ذاته. عرفت أنني لا أستطيع أن أسأل أمي عن خوفي بل يجب أن أقرأ وحدي عن غشاء البكارة نفسه (لا العلاقة الخارجة عن التربية) حتى أطمئن لكل فعل أفعله. بعدها بقيت لسنوات في هذه الحالة من الهلع، ولكن خلال عامين كنت قد توصلت إلى قرار واضح، وصريح أنني لن أمارس الجنس قط مع أحد. ليس قبل الزواج وليس من خلال الزواج. وإن أراد أحد الزواج بي فعليه أن يقبل أنني لن أفعل ذلك، وبما أنه لن يقبل أحد ذلك فأنا لا أريد الزواج من الأصل. لم يكن الأمر نوعًا من الإحساس بأن الجنس شيء نجس فقط بل ينطوي كذلك على نوع من الكرامة. شعرت أن ذلك مهين لي وأن كل نوع من أنواع اقتحام عذريتي هو مهين لي. ما كان أكثر إزعاجاً هو أنني شعرت بإهانة لا توصف من فكرة أن رجلًا يريد أن يأخذني لم أمس رجلاً قبله ويتأكد أنه أول من استخدم اللعبة التي تسمى جسدي. لم أرد أن يحدث ذلك. لم أرد أن أباع بهذه الطريقة لرجل. لم أرد أن أذل إلى هذه الدرجة. رأيت أن كل رجل سيفكر بهذه الطريقة أو سيريد جسدي فهو يريد إهانتي. لم يكن ذلك تعففًا بقدر ما كان غضباً. رفض. صراخ. شعور بأنني قيد السجن وأنني يجب ألا أقبل أن يستمتع به السجان. السجن كان غشاء البكارة لكنه كان كذلك فرجي وكان جسدي كله. بعد ذلك بدأت سنين عذابي. لم أكن أتحمل الحديث عن أي شيء يتعلق بالجنس. لم أكن أقبل فكرة الزواج. كرهت الرجال لأنني لم أر فيهم إلا مستعبدين سجانين ومذلين. بعد ذلك بسنوات جاءتني أفكار أخرى عندما بدأ الحديث عن كشف العذرية.
نظرية الدليل الخرافي:
كل منظومة اجتماعية قمعية تحتاج قالبًا قانونيًا يحميها، ويفرضها بالقوة. وكل منظومة قانونية تحتاج لوجود أدلة إدانة فاضحة لسببين. السبب الأول لتحقق لذوي الامتيازات وهم السيطرة لأنهم يتخيلون أنهم قادرون علي حماية امتيازاتهم من التهديد، ولترسم صورة عن عدالتها بحيث تدعي أن لا أحد يظلم في هذه المنظومة غير "المجرم" الذي يعاقب.
أحيانًا تعجز هذه المنظومات عن إيجاد أدلة، وتدرك جيدًا أن الكثيرين سيستطيعون الخروج على قوانينها في الخفاء بدون سهولة إثبات جرمهم خاصة لو أن الجرم نفسه من النوع الذي لا يترك أثرًا واضحًا حقيقيًا عليه. لذلك لا يكون أمام هذه المنظومات إلا اختراع "دليل خرافي" تروج أسطورة شعبية عن حقيقته، ويرعب بها كل من يحاول الفرار من السجن أو يحاول الخروج على قوانين الاضطهاد.
الغريب أن هذه الأدلة الخرافية تجد طريقها إلى القانون الوضعي المدني لأن هذا القانون لا يختلف عن أي قانون ديني أو اجتماعي قبلي. القانون الوضعي المدني هو مجرد "تغريب" لمنظومة القمع القبلية والدينية. مجرد وضع أكواد، ووضع واجهة أنيقة —بسبب غربيتها— للخرافات.
في القانون المصري هناك دليلان خرافيان من هذا النوع، وكلاهما مفصل لأجل حماية منظومة الذكورية. الدليل الأول الذي لن أتحدث عنه كثيرًا هنا هو الكشوف الشرجية للمثليين أما الدليل الثاني فهو كشف العذرية. طبعًا لا أساس علمي حقيقي لأي من هذين الدليلين لكنهما جزء أساسي من مناهج كليات الطب بمصر، وجزء أساسي من منظومة الإثبات الجنائي وحتى الإثبات في قضايا الأحوال الشخصية. فليس الأمر مفصلًا فقط للكشف على عاملات الجنس، والمتهمين بممارسة الفجور كاسم بديل للمثلية بل هو كذلك دليل يكفل للأزواج بغض النظر عن دياناتهم طلب تطليق زوجاتهم أو بطلان زواجهم بهن للغش في العذرية. ويعطي الأزواج والأقارب بوجه عام سببًا قويًا لتخفيف الحكم ضدهم في جرائم الشرف.
الدليل الخرافي يعمل هنا على تخويف النساء، والمثليين للخروج عن ناموس المجتمع، يخوفهم من مجرد أن يخطر لهم أنهم يملكون أجسادهم، وأنهم أحرار فيها. إنه أسطورة تُروى للطفلات الصغيرات لتخويفهن من الوحش، لقتل علاقتهن بأجسادهن. وهو كذلك يضمن للرجال تخيل أن لديهم القدرة والسيطرة على امتيازاتهم على أجساد النساء. إنه يؤكد لهم أن المرأة لن تملك جسدها قط. إنه يطمئنهم أن كلًا منهم لن يتعرّض للغبن من البائع في المبيع.
كيف شعرت أنا تجاه ذلك الدليل الخرافي؟
في ذلك الوقت ارتعبت. ارتعبت ليس من أن غشاء البكارة يمكن أن يبدو أنه تمزق. بل ارتعبت أن يعلم أحد أنني حتى ذلك الوقت كنت أخاف عليه. لم أكن أريد لكشف العذرية أن يكشف خزيي ليس بممارسة الجنس بل بعدم ممارسة الجنس. كنت أشعر بالعار أنني لم أتخطّ السجن الذي أسرتني فيه أمي، أنني لم أتحرر. كنت مرعوبة من أن يحدث لي كشف عذرية ويتضح غشاء بكارتي. بالفعل حدث لي كشف عذرية ولكن ليس من الدولة بل من أمي. بعد بلوغي بعدد من السنوات القليلة حدثت لي حادثة بالعجلة. لم أكن أعلم إن كان قد حدث شيء لغشاء البكارة. فذهبت لأمي كي أخبرها وأنا خائفة فقررت أن تكشف علي. ولكنها كشخص لا يفهم شيئًا في الجنس لأنه هو الآخر سجين ذات السجن لم تعرف عن ماذا تبحث. تركتني عارية في الغرفة، وذهبت. تركتني لمخاوفي. عندما تركتني في الغرفة كنت حينها ما أزال أخاف على غشاء البكارة. لكن عندما كنت أفكر في كشف العذرية بعدها بسنوات كنت أخاف أن يظهر أنني لم أتخلص منه. عندما دخلت الجامعة وكتبت هذا المقال كنت حينها قد تشجعت وأخبرت أحدًا أنني لم أخسر عذريتي.
كان ذلك أمرًا كبيًرا بالنسبة إلي لأنني وثقت بأحد بما فيه الكفاية لأقول له إنني ما زلت عبدة. طبعًا بقيت مصرة على ألا تكون لي علاقة جنسية بأحد بأي شكل كان. طبعًا ظللت حينها أظهر لنفسي أنني حرة، وأنا أعلم داخلي أنني لست حرة. هذه هي النقطة التي انتهى عندها مقال الجامعة الأمريكية. انتهى في النقطة التي كنت أحسب فيها أنني تحررت لأنني تجرأت أن أعترف لأحد أنني عذراء من دون الشعور بالخزي من الخضوع. ظننت أنني تحررت من خوفي وخزيي من الحديث عن غشاء البكارة، وخوفي، وخزيي من الاعتراف بعذريتي.
سأذهب إلى جزء آخر من جنسانيتي ثم أعود للقصة. أنا مزدوجة الميل الجنسي وأعلنت ذلك. وبالطبع واجهت صراعات رهيبة لأنني مصرية في المجتمع المصري. لكنني حينها كنت أشعر أنني أتحرر من سجن آخر وهو سجن خزي جنسانيتي. بأفكار مجتمعي كانت جنسانيتي عار هي الأخرى. كنت أبحث عن التحرر بإعلاني لميلي الجنسي. لقد شعرت حينها بالتحرر بالفعل. لكنني حتى بعد أن فعلت ذلك لم أكن أستطيع أن أجامع رجلاً أو حتى امرأة لأن داخلي كان السجن الذي وضعتني فيه أمي بخزي الجنس. الجدير بالذكر أنني حتى عمر الثانية والعشرين لم أكن أعرف كيف تتم العلاقة الجنسية. لم يكن لدي قدر من الجرأة لأقرأ حتى عن الأمر. وبالطبع المنظومة التي كنت داخلها لم تكن لتسمح لي أن أتقبل فكرة المعرفة بطريقة غير القراءة العلمية. قبولي لميلي الجنسي لم يكن بالأمر السهل. كنت أضرب نفسي وأضرب جسدي بعنف يوميًا كعقاب له على اشتهاء النساء. ليس فقط لأن شهوة النساء محرمة في الدين الذي ربيت عليه وقمعني، وليس بسبب قمع المجتمع وكراهيته للشهوة المثلية، بل كان لأنني رأيت نفسي مثل الرجل الذي يريد انتهاكي بالعلاقة الجنسية. رأيت نفسي كامرأة تريد انتهاك النساء بالعلاقة الجنسية. لم أكن أريد أن أكون مثل الرجال. لم أكن أريد أن أكون منتهكة. لم أكن أريد أن أسجن النساء، أستعبدهن أو أستخدمهمن كما يستخدمهن الرجال. قبولي لميلي الجنسي كان محاولة مني لأتوقف عن إيذاء نفسي. ولأصدق أنني لن أؤذي النساء، أنني لن أهتكهن مثل ما يهتكهن الرجال. كنت أكره نفسي لأنني أرى نفسي مثل ذلك الكائن الذي أكرهه، أبغضه، الذي يسمى الرجل. كنت أكره رغبتي.
الرجل الذي أخبرته بعذريتي كان أستاذًا أجنبيًا بالجامعة الأمريكية جاء إلى الجامعة بأجندة تدريس وتشجيع حقوق مجتمع الميم. ذلك الأستاذ شجعني ودعمني لقبول ميلي الجنسي، وكان من أوائل من اعترفت لهم به لكنه كأمريكي عندما حدثت أزمة لمجتمع الميم بالجامعة الأمريكية تركنا نواجه مصيرنا أمام المجتمع والدولة وسافر هو فجأة. لا أستطيع أن أصف كم أثر ذلك علي. أدركت لأول مرة الفرق الحقيقي بيني وبين الأمريكي.
والأهم أنه جعلني أري أنني امتهنت نفسي لإخباري سرًا بهذا الحجم مثل عبوديتي للعذرية. كل أحلامي التي نسجتها عن تحرري من سجني اتضح لي أنها خرافة. نحن كمجتمع ميم من دول العالم الثالث قد يتم تشجيعنا على التحرر من "أحرار" العالم الأول لكننا سنظل للأبد أدنى. أدركت أنني أدنى من الرجل الذي بحت له بسر ذلي، فشعرت بالذل أكثر.
وتذكرت عبارة قالها بشكل عابر ذات مرة: "أنا أحمل جواز سفر أمريكياً".
رجال العالم الأول يروجون لنا فكرة الحرية بينما يؤمنون أنهم وحدهم أصحاب الحق المطلق فيها. ويتركوننا لمواجهة سجانينا وحدنا في كل مواجهة.
في الفترة التي قبلت فيها نفسي ولم أعد أراها آثمة، ولا سجينة، ولا سجانة، حاولت مرة أن أستعيد علاقتي بجسدي. حاولت أن أصالحها. حاولت أن أقبل كل جزء منها. قررت أن أرى ذلك الجزء الذي كنت أخافه دائماً. قررت أن أنظر في المرآة لأول مرة في سن الثالثة والعشرين إلى عانتي. وأقبلها. عندما فعلت ذلك شعرت بلذة جنسية. فتراجعت. شعرت أنني أجرمت. وعادت أسوار السجن تضيق ثانية علي. الجدير بالذكر أنني حتى لم أمارس العادة السرية. كانت تلك الرعشة هي رد فعل طبيعي من جسم لم تمسه حتى يدي أنا. بعدها عدت لنفسي وهدأت. قررت أنني لم آثم بتلك الرعشة. وكان داخلي صوت يقول لي أنت نفسك انتهكت نفسك. أنت نفسك استغللت نفسك. لهذه الدرجة كان كل ما يرتبط بالجنس لدي هو انتهاك. حتى لو مني أنا لنفسي.
الختان النفسي:
لم تتعرض أمي ولا أي امرأة في جيلها من العائلة لختان الإناث لأن عائلة والدتي تنتمي لطبقة "مثقفة،" ومتعلمة تعليمًا متميزًا فقد كانت أستاذة جامعية. وبالتبعية لم تفكر أمي قط في ختاني جسديًا لكن كل ما فعلته أمي بي كان ختانًا نفسيًا. أسر الطبقة المتوسطة "المثقفة" في مصر لا تختن بناتها جسديًا لكنها تفعل كل شيء لضمان ختانهن نفسيًا. بمعنى آخر يعرضهن لشتى صنوف التخويف الأسطوري من شبح الجنس، وكل تربية قمعية ممكنة تجعلهن يحتقرن الجنس، ويقرفن منه، ويرتعبن حتى يفقدن رغباتهن الجنسية تمامًا. هذا النوع من الختان ينفذ بنفس قصد الختان الجسدي. فالغرض الأساسي منه أن تفقد المرأة كل حافز قد يدفعها لتلويث "شرف" العائلة.
بقيت لوقت طويل لا أستطيع، ولا أتحمل فكرة أي شكل من أشكال الجنس مع أي أحد. كان يرعبني. لم يكن فقط رعباً من الانتهاك. إنما هو أيضاً رعب من الخزي. رعب من أن أكره نفسي وأؤذيها. كنت واعية أن التي تشعر بالذنب لرعشة عابرة عندما لمست جسدها لأول مرة وبدون حتى نية جنسية ستنتحر إن مارست الجنس مع أحد.
داخلي كان صراعاً بشعاً. أشعر بالخزي والعار لأنني عبدة وسجينة لسجن العذرية، ولم أتحرر منه. أشعر بالعار لأنني مازلت بكرًا. وأعلم أنني سأشعر بعار لا يحتمل إن خسرت عذريتي. كل الخيارات كانت تعني لي العار. لأن العبودية للعذرية عار، والجنس عار هو الآخر!
مع مرور الوقت تخطيت موضوع رفضي للجنس مع محاولاتي المستمرة لمواجهة صراعاتي الداخلية لكنني لم أقبل قط أن يولج رجل قضيبه داخلي. ليس لأجل غشاء البكارة ولكن لأجل ألا أذل بفعل رأيته قمة الإهانة والتحقير مني. أؤمن بقوة أن كل إيلاج هو منظومة إهانة.
وفي طريقي لمحاولة علاج صدماتي النفسية الكثيرة قالت لي إحدى طبيبات النفسيات إنني أرفض الإيلاج رفضًا لفقدان غشاء البكارة. كأنها قالت لي نني عبدة. بعدها بسنوات إتخذت قرارًا واضحًا، قررت أن أحرر نفسي بيدي. قررت أن أقطعه بيدي. المثير للاستغراب أنني مثلما كنت أحاول كل محاولات الدنيا للحفاظ على غشاء بكارتي وأنا طفلة. حاولت كل المحاولات لتقطيعه بإصبعي، بتامبون جلبته معي من إنجلترا (لأنه يندر بيعه في مصر لأن المجتمع المصري يريد الحفاظ على عذرية بناته)، وبجهاز هزاز. ولكن مهما فعلت ومهما كانت محاولاتي، كنت أفشل. كنت أفشل، ومع فشلي أتمزق ثانية من الداخل. صرت أحاول بعنف أكبر حتى تشنج مهبلي بقوة وأغلق على نفسه، ومع زيادة محاولاتي رغم انغلاقه صرت أصرخ من الألم بدون صوت. وبعد ألم من أصعب الآلام الجسدية والنفسية قررت أن أتوقف. داخلي كانت طفلة تصرخ في بصوت عال. الطفلة كانت تلومني، تقول لي إنني مثلما عذبتها لتحافظ على غشاء البكارة عذبتها مرة أخرى لتفقده. كانت تترجاني أن أتركها لشأنها فلا أفعل. عذبتها بقسوة مرتين. مرة بسوط وصوت المجتمع والدين وأمي، ومرة بسوط وصوت الحرية. وبعد تلك المحاولة الفاشلة شعرت بذنب ومهانة لأنني بدون وعي كنت أفعل بنفسي ما أرفضه: "الاختراق". الغريب أن داخلي كان هناك صوت يرفض صرخات الطفلة، ويقول لها إن ذلك كان الاختيار الصائب للتحرر. داخلي دائمًا هناك صوت يصرخ بأن الحرية مبدأ ومسؤولية أخلاقية، وأن المقيد بالأصفاد إن لم يكن لديه خيار آخر فهو مسؤول أن يتحرر حتى إن كلفه ذلك قطع يديه للتخلص من الأصفاد. وصوت آخر يرد بأنني أحمل الضحية مسؤولية التحرر بينما يجب ألا تتحمل الضحية العقاب عن إجرام الجاني. الصراع هو صراع بين أصوات مختلفة، ومتناقضة داخلي. إنه صراع بين صوت المبدأ، صوت التعاطف، صوت المحبة، وصوت الغضب والكراهية الموجهة ناحية الذات.
أليس لي أن أتحرر منه أبداً؟ أليس لي أن أتخلص منه دون رجل؟ كرهت نفسي ثانية. كرهت كل عبودياتي. العذاب الداخلي بلا حدود عندما تشعر أنك سجين داخل سجن نفسك.
أمي ماتت منذ أربعة أعوام. هي ماتت، وتركتني أنا. قبل أن تموت بأعوام قليلة، كنا في جدال كبير. وهي سألتني مباشرة: هل فقدت غشائك؟ وقالت لي إنني منحرفة و"شرموطة". قالت لي إنه من المؤكد أنني فقدته وسط كل الرجال الذين تراهم حولي كأصدقاء. كانت تنتظر مني أن أطمئنها، لكنني لم أعطها ذلك. بل انهرت. ذهبت إلى المطبخ، سحبت سكينًا، وحاولت تمزيق عانتي بالكامل، لولا أنها أطاحت بالسكين في اللحظة الأخيرة. هي ماتت ولا تدرك هل فقدته أم لا؟ ولم أعطيها تلك الإجابة التي تشفي نارها. لم أكن لأعترف لسجاني بأنني سجينته. لم أكن لأذلّ نفسي لهذه الدرجة. وكنت أرى عذابها بالشك أقل ما تستحقه.
إنني ما زلت أحبها لكنني لم أسامحها للحظة.
"أنا ما كنتش عايزة أخلف بنت عشان ما أخفش من الفضيحة لو خسرت خسرت عذريتها"
كلام أمي كانت خنجرًا يوصل لي كراهية، ورفض وجودي ذاته لأنه صادر من أمي. قالت أمي لكل العائلة إنها لا تريد بنتًا ولكنها استحت أن تذكر لهم السبب مباشرة كما ذكرته بكل انعدام إحساس لي.
كيف أسامح من دمرني؟ كيف أسامح من لم يشأ وجودي ذاته؟
إنها لا تستحق الغفران.
حياة بلا قيمة:
طوال حياتي كانت لدي مشكلة مناعية غير مفهومة، ولا مفسرة بكل أشكال الفحوصات الطبية حتى فحوصات الحمض النووي. لم يستطع أي طبيب أن يشخص مشكلتي المناعية في أي مرض مناعي واضح أو أي مشكلة جينية. أقل حرارة كانت تسبب لي مشاكل جلدية، ضيق تنفس، مشاكل نبض، إغماء. أقل برودة كانت تسبب لي بردًا غير طبيعي. البرد عندي كان كفيلًا بألا أستطيع السير، وأصاب بأنواع من التورمات، ومشاكل جيوب أنفية مزمنة أعجز معها عن التنفس مما يصل لمشاكل في وصول الأوكسجين للمخ، فأصاب بشلل تام. شفاء غيري من أي برد يتطلب أسبوعًا بينما شفائي يتطلب شهورًا. حتى آلام الدورة الشهرية لم تكن آلامًا معتادة بل كانت تصل لالتهابات في أسناني تسبب خراجات، والتهابات جيوب أنفية، وآلام لا توصف في أسفل البطن، ومشاكل جلدية، وصداع، وفقدان اتزان. وعندما أصبت بكوفيد أصبت به تسع مرات في حالة نادرة جدًا تسببت لي في التهابات بالعين، والأنف، ومياه على القلب، وتورمات، والتهابات في كامل الجسد، وهشاشة عظام، ومشاكل مفاصل، وآلام تشبه آلام السرطان غير مفسرة في الجسد بأكمله، وعجز عن تحريك حتى الذراع بدون تشنّج، وأشهر من الإرهاق العام غير المبرر، والتهابات الأعصاب الطرفية، وغيرها الكثير من المشكلات التي لم تتعاف لما يزيد عن عامين رغم محاولات في جميع التخصصات من مختلف الأطباء.
لم أفهم سبب هذه المشكلة المناعية إلا عندما وصلت لمرحلة محددة في علاج الصدمة. السبب الحقيقي الذي عرفته كان مؤلمًا جدًا. عندما قالت لي أمي أنها لم ترد أن تنجب ابنة حتى لا تلحق العار بها ترسب داخلي أن وجودي نفسه غير مرغوب فيه ممن ولدتني. تكون في اللاوعي لدي رفض لحياتي، وإيمان عميق غير واع أن وجودي بلا قيمة، وأن حياتي بلا ثمن.
عشت حياتي كلها أبحث عن معنى لذلك درست الفلسفة، ولذلك حصلت على شهادات كثيرة، ثلاثة شهادات بكالوريوس في الفلسفة، الإعلام، والحقوق، وماجستير في الفلسفة، ودبلوم في اللغة القبطية، ودبلوم في البناء الصديق للبيئة، والكثير من الإنجازات العلمية الأخرى. كنت أحاول أن أجد معنى لحياتي في بحثي الفلسفي، وكنت أحاول أن أعطي لحياتي ثمنًا بتميزي العلمي. قتلت نفسي بالضغط حتى أنجح لتكون لي أية قيمة. داخلي كنت أصدق أنني لا أستحق الحياة، وكنت أحاول أن أثبت أنني أستحقها بأية طريقة.
لكن داخل اللاوعي كانت تقبع عقيدة أن وجودي ذاته عار. داخل اللاوعي كنت أؤمن أن حياتي نفسها خطأ. أمي لم تكن تريد وجودي. حياتي ذاتها لا تساوي إلا غشاء بكارة.. أنا مجرد جسد جنسي. ولأنني لم أصدق أن لحياتي قيمة، فكان جسدي دائمًا يحاول تدمير نفسه. المشاكل المناعية هي هجوم الجسد على ذاته. المشاكل المناعية هي محاولة الجسد الانتحار. لأنني كنت بشكل واع أرفض إيذاء النفس بينما داخلي أريد أن أفنى لأن حياتي بلا قيمة، فجسدي قرر أن ينفذ ذلك بدلًا عني. كان جسدي يقتلني.
عندما أدركت تلك الحقيقة عما زرع داخلي لم أشعر بالألم لأن الأمر أبشع بمراحل من الألم. لقد عشت أصدق أنني مساوية للكرسي. لا عجب أنني كنت دائمًا أقسو على نفسي بلا هوادة في كل شيء. نفسي لم تعن لي يومًا شيئًا. كيف تعني لي إن كنت تشربت أنني لا أستحق الحياة؟
السجن:
والسجن الذي وضعتني فيه لم تسقط جدرانه فحتى إن تحسنت علاقتي بالجنس فإنها لم تتحسن بالإيلاج؛ ولا يعني هذا قط أنني تحررت. كنت أرى أنني لن أتحرر إلا إذا مزقته. لذلك حاولت تحطيم تلك الجدران. كل يوم أمي تحضر بداخلي، وأنا غاضبة. ألوم نفسي أنني لم أواجهها، وهي حية مواجهة كاملة. حاولت ذلك مرات عدة، منها حادثة السكين. لكنني لم أجلس معها لأخبرها بكل شيء. لم أفجر غضبي الذي يحرقني الآن. لم تمت. السجن لم يسقط. أنا أحاول.
لكنها لم تكن وحدها السجانة. كان المجتمع بأسره سجانًا. هناك حادثة تذكرتها قبل قراري تمزيق غشاء البكارة بقليل. عندما كنت في المدرسة الإعدادية، كنت أمارس رياضة الجودو والتايكواندو، وذهبت إلى مدرس التربية الرياضية بالمدرسة لأخبره بزهو عن أدائي في الرياضتين. فقال لي المدرس بنظرة ذات مغزى: يجب ألا تلعب البنات التايكواندو. إنه يتضمن كثيرًا من فتح الساقين. قالها بكل ووقاحة، وبدون نية تحرش. قالها بنية أبشع بمراحل من نية التحرش.
قالها بنية أخ مصري كبير يؤكد على أخته ضرورة المحافظة على أسوار سجنها.
عندما حدثت لي أول واقعة تحرش في سن الثالثة عشرة، كنت أسير في منطقة مزدحمة. ووضع أحد الرجال يده في مؤخرتي. لم أكن أعرف معنى التحرش، لكنني بدون فهم للسبب شعرت بالإهانة. بين لي ذلك الموقف أن الإهانة من التحرش شعور غريزي لا يحتاج إلى معرفة ماهية الفعل ذاته.
وانتابني شعور الهلع على عذريتي، وشعور ثان عميق بالظلم الشديد. كيف لرجل أن يفقدني ما أحافظ عليه بجنون في لحظة عابرة؟ كيف يكون ذلك عدلًا؟ شعرت بهذا الشعور لأني أمي لم تشرح لي حتى الفرق بين المؤخرة والمهبل!
إن المتحرش ومدرس التربية الرياضية واحد. إنهما صورتان للسجان الرجل حتى وإن بدت الصورتان مختلفتين. لكنهما مجرد اثنين من كثير من السجانين الذين قابلتهم يوميًا في مصر.
القصص كثيرة لحياة يومية مفصلة على سجني، وسجن كل النساء المصريات داخل ذات السجن.
كل التفاصيل تقول: "أنت سجينة".
من أبسط التفاصيل لأعقدها.
سأذكر قدرًا ضئيلًا جدًا من هذه التفاصيل. مثلًا بطاقتي الشخصية مكتوب فيها "آنسة". لا يمكن لامرأة أن تكتب كلمة "عازبة" التي يكتب الرجل مذكرها "عازب" في البطاقة بل يجب أن تكتب "آنسة" حتى تتزوج. يجب أن تؤكد للدولة أنها لم تفقد عذريتها. ولا يحق لها أن تصرح بغير ذلك.
عندما كنت ألعب الجودو، علمنا مدربي حركات الجودو كلها لكنه منعنا كبنات من تعلم حركة واحدة يتم فيها الضغط على أسفل البطن، وأكد لنا أن البنات لا يفعلن هذه الحركة.
أي شخص في الشارع ينادي الرجل "أستاذ" لكنه ينادي المرأة ب"آنسة" أو "مدام". حدثت مواقف يكتشف فيها شخص بعد مناداتي ب"مدام" أنني لست متزوجة فيعتذر بسرعة بشدة على الخطأ البشع الذي ارتكبه. المرعب أنني داخلي أشعر بلخبطة مشاعر عندما يناديني أحدهم ب"آنسة" أو "مدام"، ولكن أسعفني في السنوات الماضية أنني عملت كمحامية فكنت أنادى ب"أستاذة" وأنني بدأت دكتوراة لفترة، وبدأت أعمل في التدريس الجامعي فأصبحت أنادى ك"دكتورة"
عندما كنت طالبة في مدرسة مصرية تقدم الشهادة البريطانية كنت أدرس الجهاز التناسلي في مادة الأحياء، ولم يكن يظهر في شرحه غشاء البكارة، فرفعت فتاة يدها ونادت المعلمة وسألتها مباشرة لماذا لا يتضمن الوصف "غشاء البكارة"؟ ردت عليها المعلمة بأن المنهج إنجليزي، والإنجليز لا يهتمون بهذه الأشياء.
كانت لي زميلة في كلية الطب حكت لي أنه رُوي لها قصص كثيرة عن عائلات تدخل المستشفى الجامعي، وابنتهن في حالة طارئة بسبب أن غشاء البكارة يسد العانة تمامًا، وذلك كارثة في حيضها لعدم خروج الدماء من العانة، ويتطلب إنقاذ حياتها قطع غشاء البكارة في عملية جراحية لكن هذه العائلات ترفض إنقاذ حياة بناتها حتى مع تأكيد الأطباء حرصهم على تحرير شهادة تفيد بعذريتها قبل العملية!
هذا مجرد جزء من الأحداث التي حدثت لي، وهناك قصص مرعبة أكثر قرأت عنها.
أمي كانت سجينة وسجانة، وأنا لم أغفر لها أنها سجانة كونها سجينة، وفي داخلي لا أستطيع أن أغفر لنفسي أنني سجينة وسجانة لنفسي وأكتب هذه الكلمات لأصرخ. لأنني أشعر أنني إن لم أصرخ فسأكون سجينة ومكممة الفم. وتكميم الفم سجن أقصى من أي سجن. أصرخ وأتمنى لو أن صياحي كان إعصارًا يهدم أسس المجتمع. أجل يهدم أسس المجتمع. أنا لا أريد مجتمعًا أسسه سجون. أنا لا أريد مزيدًا من السجون. أنا أريد مجتمعًا تكون فيه كل امرأة مثلي حرة تملك جسدها، ولا أريد لامرأة قط أن تعيش ما عشته أنا. كم أتمنى أن أحب نفسي. كم أتمنى أن أحب فرجي. كم أتمنى لو أن شيئاً كغشاء البكارة لم يكن قط. كم أتمنى لو أن هذا العالم لم يكن عالمًا مبنيًا على تملك الرجال لمهابلنا.
لماذا مازلت أكره الإيلاج وأراه غير أخلاقي؟
هذه التجربة المريرة لم تكن مجرد صدمة وألمًا نفسيًا يمكن أن أنظر له من الخارج، وأقول إنه نتاج مجتمع ذكوري في منطقة معينة من العالم، ولحظة تاريخية محددة. هذه الصدمة كانت لي مصباحًا أنار لي وهو يحرقني. يُتهم مرضى اضطراب ما بعد الصدمة أنهم لا يتصرفون "بعقلانية" ولا يرون الأمور بشكلها "الصحيح". لكن ذلك الاتهام ليس سوى محاولة لكتم صوت الضحايا، وإظهار الخطايا في حقهم كحوادث فردية أو نتاج مجتمع أو ثقافة بعينها. وفي حالات أخرى يستخدم هذا الاتهام لإنكار الحقائق التي تكشفها الصدمة للضحايا. الصدمة لا تعمي ضحاياها كما يدعي الطب النفسي كمؤسسة تخدم توازن القوى الطبقية المختلفة. الصدمة تنير لنا. الصدمة تجعلنا أكثر من يعرف الحقيقة. تجعلنا الوحيدين الأحرار من قيود الوهم والخرافات التي تحمي بها المنظومات الظالمة نفسها.
لقد دفعني كوني ضحية مجتمع يمثل الصورة الأكثر وحشية للذكورية لنقد أسس الذكورية، وتحليل أصلها في كافة المجتمعات الحية. لتعرف أصل الفكرة وحقيقتها يجب أن تجربها في صورتها الأكثر تطرفًِا. الصور الأقل تطرفًا للأفكار، والتي تغلف بغلاف أنيق براق هي الصور التي تخفي على ضحاياها حقيقة كونهم ضحايا. لكن الصور المتطرفة من الأفكار والمنظومات هي التي تفضح حقيقتها. ولأنني ضحية الصورة المتطرفة، فأنا أفضل من يرى حقيقة المنظومة، وأصل الفكرة التي بنت عليها المنظومة نفسها
في رأيي إن الإيلاج كفعل جنسي ببنائية اجتماعية هو جوهر الذكورية في كافة المجتمعات التي تتبناها بدرجات متفاوتة. الإيلاج ينظر له كممارسة للقوة، كتفوق تفرضه الطبيعة للذكر على الأنثى، للقضيب على المهبل. الأنثى ينظر لها كالأدنى طبيعيًا لأنها من يتم اختراقها، والرجل يكتسب أفضليته من كونه المخترق. الرجل الذي يفشل بسبب عجز جنسي في اختراق الأنثى قيمته تقل لأنه يعجز عن ممارسة قهر الأدنى منه، والقاعدة هنا أن من يفشل في قهر الأدنى يصير هو مساوياً له,
الأنثى ينظر لها كشيء يخترق، وخلق لأجل ذلك الاختراق، والذل. بل إن طبيعته هي استجداء الذل، والاستمتاع به. الذكر المثلي محط احتقار لأنه يختار بإرادته أن يكون في ذات مكانة المرأة، ويخترق، ولأجل ذلك تدينه المجتمعات، وتحاول التخلص منه لأن وجوده في حد ذاته هو خطر جسيم على الفكرة الأساسية التي بنيت عليها المنظومة. إنه يهدد صورة الرجل، وسقوطها لمرتبة النساء. إن وجوده يقول إن بعض الرجال ليسوا ذوي هيمنة أو قدرة على ممارسة قهر المرأة في الإيلاج.
الرغبة العنيفة في التنكيل بالرجل المثلي بأقصى صور العقوبات الممكنة في المنظومات العقابية، وبما يساوي أخطر المجرمين فيها هي نتاج رعب من التهديد الذي يمثله وجود الرجل المثلي ليس علي فكرة الطبيعة أو الدين أو الأسرة كما تدعي المجتمعات القمعية للمثليين. الرعب هو من تهديد الأساس الرئيسي الذي بنيت عليه كل طبقية المجتمع بشتى أشكالها. الرعب هو تهديد فكرة طبيعة المرأة الدونية بسبب اختراقها في الإيلاج، وطبيعة الرجل التي تحظى بالأفضلية نتيجة اختراقه لها.
هذا التحليل يؤكده عدم اعتراف بعض المجتمعات بمثلية المثلي الذي يقوم هو باختراق غيره من الرجال؛ فهو لا يخترق بل يخترق، ويذل، ويعلو على غيره من الرجال. ممارسة الاغتصاب على المثليين كطريقة تعذيب في سجون بعض الدول هي تناقض صريح مع ادعاءات حماية الطبيعي أو إتباع الأوامر الدينية أو البعد عن الممارسات الجنسية التي تجافي الأخلاق. لكن هذا الاغتصاب يفهم سببه تمامًا إذا رأينا أن المغتصب الذكر لا يرى نفسه مثليًا بل يرى نفسه مؤديًا لدوره الطبيعي في اختراق من هم أدنى منه.
الاغتصاب كأداة حرب هو طريقة إعلان الشعب المنتصر لهيمنته على الشعب المنهزم بإيلاج قضيب رجاله في فروج نساء الشعوب المنهزمة. فكرة الجواري أصلها الحقيقي هو إثبات تفوق الرجل المسلم واختراقه فروج نساء "المشركين".
الزواج يصنف كتابو اجتماعي عندما تتزوج المرأة الأعلى في المكانة الاجتماعية من رجل أدنى منها في تلك المكانة. الأصعب هو زواج الغنية بالفقير، وليس الفقير بالغنية. المرفوض أكثر وقيدته بقسوة أكثر المنظومات القانونية العنصرية هو زواج المرأة ذات العرق الأعلى في المنظومة العنصرية من الرجل الذي ينتمي للعرق الأدنى. حتى الحضارات التي سمحت بالمثلية كالحضارة اليونانية اتخذت فيها المثلية شكل اختراق الرجل ذي السلطة السياسية الأعلى للرجل ذي المكانة الأدنى.
الأعلى اجتماعيًِا لو قبل اختراق الأدنى اجتماعيًا له سيهدد منظومة القوة، والسيادة، والطبقية في المجتمع بأسره. والطبقية هي أساس المجتمعات الحية الحالية.
الإيلاج هو ممارسة القهر.
الإيلاج هو بناء الفوقية.
هناك من سينكرون أن هذا التحليل ينطبق على المجتمعات غير التقليدية أو "الغربية" لكن ذلك جزء من إنكار تلك المجتمعات لحقيقة ذكوريتها وقمعيتها، وبناء لصورتها التمييزية علي مستعمراتها القديمة.
لكن اللغة تتحدث عن نفسها. كما يصف المصري المعاناة ب"النيك"، ويهدد غيره ب"هأنيكك." يسب الغربي غيره بـ"Fuck you" ويصف المعاناة بـ"Being fucked". ومن العبثية التي تثبت صحة ذلك أن المجتمعات التي تدعي التحرر الجنسي ما زال لديها في منظومتها اللغوية الرسمية تفرقة بسيطة لا يلاحظها الكثيرون بين "Miss" و"Mrs."، ولم تختف تلك التفرقة بظهور "Ms.".
لماذا لا يوجد تراث أدبي عن المثليات يعادل التراث الأدبي عن المثليين؟ التحليل الشائع النسوي أن السبب هو عدم الاهتمام وتعمد إخفاء الرغبة الجنسية للمرأة، وتعمد تركيز وتضخيم الرغبة الجنسية للرجل، وهذا التفسير حقيقي لكنه تفسير ناقص. السبب الآخر، وربما يكون السبب الأهم هو عدم الاعتراف بحقيقة كون الأفعال الجنسية التي تمارسها المثليات جنسًا أصلًا. لأن كل ما هو ليس إيلاجًا لا يعترف به كجنس. الجنس يعني في كل المجتمعات الحية —بغض النظر عن محاولتها التستر على ذلك بالصور الرومانسية الوردية— هو ممارسة للقهر في صورة الاختراق. وما لا يمثل قهرًا فليس جنسًا.
أصل القهر هو الإيلاج
لأجل ذلك فالإيلاج سيبقى أبدًا فعلاً غير أخلاقي في عيني. إنه أصل السلطة، القمع، الإخضاع، الطبقية في كل الأنظمة. أرى أن كل فعل جنسي لا يتضمن اختراقًا أو قهرًا هو فعل أخلاقي. وممارسة أي فعل يتضمن قهرًا واختراقًا ومرتبط بمنظومات الطبقية الأخرى كجوهرها الذي تبني عليها مشروعيتها هو تأكيد ودفاع عن استمرارية هذه المنظومات.
مشاركتنا في الأفعال التي تمثل أفكارًا تبنى عليها منظومات القمع هي مشاركة فعالة في استمرارية هذه المنظومات لذلك لا أقبل أن أشارك في هذه المنظومة كمخترقة أو مخترقة أبدًا. المساهمة في مقاومة منظومات القمع هي بالثورة على الأصول الفكرية المبنية عليها. وأصل منظومات القمع المتنوعة هو الميراث الثقافي الإنساني بمختلف حضاراته عن الإيلاج.
أنا لا أؤمن بتفريق الموقف السياسي من القمع وغياب المساواة، والمسؤولية الأخلاقية لمكافحتهما عن الممارسة الجنسية. أنا أؤمن أن رفض الإيلاج كفعل جنسي لأنه أصل المنظومة الذكورية هو الخيار الصائب سياسيًا، وأخلاقيًا. والصائب ليس أن نبدل الأدوار، وتصير المرأة هي المخترقة للرجل مثلًا مثل أشكال معينة من الأفعال الجنسية ولكن الصائب أن نفرض على الجنسي قواعد المساواة فلا تكون الممارسات الجنسية ممارسات تمثل ديناميكيات القهر بأي شكل كان. أنا هنا أتحدث عن كل الميول الجنسية. فأنا لا أقبل أن أكون مخترقة لامرأة أو رجل أو ترانس، ولا أقبل أن أكون مخترقة من أيهم. فلا قاهر ولا مقهور من أي جندر كان. الصائب أن ينتهي كل إيلاج من أي طرف لأي طرف، وأن يكون كل طرف في وضع مساو تمامًا للآخر في الفعل الجنسي الذي تتم ممارسته. ولا أحتاج لشرح كمية الخيارات للممارسات الجنسية التي لا يكون فيها قاهر ومقهور بل تعتمد كلية على المساواة. وهذه الخيارات موجودة في الجنسي المثلي والغيري على حد سواء حتى وإن تم ترويجها على أنها تصلح فقط للمثليات.
أنا لا أخاف أن أقول رأيًا يخالف كل آراء المجتمعات الحية في شيء أساسي كالجنس. أنا لا أخاف لأنني خفت طويلًا بما فيه الكفاية. ولن يكون أي نقد في الدنيا بقسوة كلمات أمي. لو أنني تعلمت أي شيء من صدمتي، وسنوات علاجها فهو المواجهة الكاملة لغياب المساواة والقمع بكل صوره حتى وإن كان خصمي هو فكر العالم بأسره.
ولا أخاف أن يقال إن رأيي نتاج صدمة لأنه بالفعل نتاج صدمة ولكن صدمة كشفت لي الحقيقة، بينما من لم يعش هذه الصدمة يسبح مستمتعًا في بحر الأوهام.