تكاد لا تُحصى النقاشات التي يُستعمل فيها مفهوم الأيديولوجيا من قبل النخب العربية والعالمية يومياً، تنشأ هذه النقاشات أحياناً نتيجة للتقلبات العسكرية والسياسية في العالم ومحاولة البحث عن مكان للعرب في هذه التقلبات، خصوصاً مع حالة الانكسار العربي المُتمثّلة باستمرار الإبادة الجماعية في قطاع غزّة لقرابة العامين دون قدرة العرب على وقفها. وفي أحيان أخرى، تُولَد في سياقات التقلبات الداخلية للأنظمة العربية. في الواقع، تحمل أغلب هذه النقاشات العديد من المشاكل والمغالطات الجوهرية في فهم المصطلح، والتي تنعكس بدورها على التعبير عن الفكرة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تحويل هذه النقاشات لتصبح دائرية مغلقة، غير قادرة على إحداث أي اختراقات فكرية تتجاوز حدود النقاش من أجل النقاش. إنّ ما يُعتبر مدعاة للصدمة هو أن هذه الأخطاء تصدر في بعض الأوقات عن أشخاص يُنظَر إليهم كعقول فذّة في المنطقة العربية ترسم خرائط المستقبل لملايين الشباب.
كيف يُستَخدم ويُفهَم مصطلح الأيديولوجيا على نحو خاطئ؟ الفهم الأول والشائع يتمثّل في ربط المصطلح بالعمل السياسي المُنظّم[1] سواء داخل أحزاب سياسية أو خارجها، ويُلصَق عادة بالقوى السياسية المُعارضة، فتكون جماعة الإخوان المُسلمين أيديولوجيا، والقوى اليسارية بمُجملها أيديولوجيا. كما يُستخدم هذا المصطلح أحياناً كوصمة عار[2] تجاه هذه الفئات من قوى أخرى تعتبر نفسها نقيّة من لوثة الأيديولوجيا، وتظن في ذاتها رجاحة العقل الصافي الذي لم يُعبَث بإعداداته. تاريخياً، كان نابليون بونابرت من أوائل من استخدموا المُصطلح باعتباره وصفاً سلبياً[3]، لكنّ أسلوب نابليون نفسه في الحكم تحوّل إلى أيديولوجيا انتهت فيما بعد إلى مدرسة البونابرتية السياسية الاستبدادية، والتي تُمجّد القوّة والحكم القائم على الشخصية الكاريزماتية الملتزمة بإعادة ضبط النظام وفرض أفكارها وتوجهاتها على المجتمع والدولة[4]. المُضحك هو أنّ الكثير ممن يستخدمون المصطلح بدلالة سلبيّة اليوم في النطاق العربي يمثّلون بونابرتية سياسية بشكل أو بآخر، فهم يتبنّون خطاباً يُسمّى زوراً بالوطني، إلى جانب الولاء لسلطة مستبدّة قائمة على الفرد الذي يُنظر له كفرد أعلى من كلّ التوجهات السياسية ويمثّل جميع الشعب. كما يتبّنون خطاباً شعبوياً (سنوضّح مصطلح الشعبوية في مقال منفصل) قائماً على العسكرة الموجّهة للداخل لا للخارج[5] (عكس التوجّه العسكريّ لنابليون بونابارت)، والاستفتاءات الشعبية الشكلية.
الطريقة الثانية الشائعة لفهم الأيديولوجيا هي التعبير عن الأفكار الكونية الكبرى، والتي تتمثل على نحو أساسي في صراعات القرن الماضي، مثل الرأسمالية والليبرالية والشيوعية والاشتراكية والفاشية والمحافظة، فأنت إما ليبراليّ أو شيوعيّ أو محافظ.. إلخ. ولا يقلّ هذا الفهم قصوراً عن الفهم السابق، فهو يعتقد أن الإنسان يشكّل وعيه تجاه العالم ضم
ن أيديولوجيا واحدة لا يمكن الخروج عنها، وأنّ الأيديولوجيا تحتاج لأن تكون ذات انتشار ضمن نطاق جغرافي أو بشري شاسع حتى تكون أيديولوجيا حقة. يوجد هذا الفهم تحديداً لدى مجموعة من الأيديولوجيات التي تريد تجاوز الدولة الوطنية والذهاب إلى ما هو أوسع في المنطقة العربية وجوارها، لكنهم لا يعرفون ما هو شكل هذا التوجّه الأيديولوجي الجديد إلى الآن، من هذه الأيديولوجيات ما هو غير عنفي ويدعو إلى إعادة تفعيل مفهوم الأمّة العربية أو الإسلامية، ومنها ما هو عنفي مثل حركات إعادة تفعيل الخلافة. في الأغلب، يتجاهل هؤلاء الأشخاص، إما عن قصد أو عن لاوعي، متى تُنشِئ الظروف المادية الملموسة أيديولوجيا جديدة، ومتى تُنشئ الأيديولوجيا ظروفاً مادية جديدة. لذلك، تجدهم يبحثون في صفحات التاريخ كثيراً للبحث عن أحداث وقصص تاريخية يمكن ربطها معاً بدون أي ترابط منهجي، مما يجعل أفكارهم تبدو مُقنعة أو كما لو أنهم أتوا بجديد. مثلهم مثل ألكسندر دوغين، الذي تعجّ كتاباته حول الجيوبوليتكا بالكثير من الحديث عن التاريخ ليس بهدف البحث إنما بهدف إثبات فرضيات مسبقة، دون أن يعي أن أفكاره لم تُنشئ ظروفاً مادّية جديدة لروسيا، إنما الظروف المادية والاحتياج الجيوسياسي الروسي هي ما أنشأت دوغين.
ما هي الأيديولوجيا إذاً؟ حسناً، لهذا المصطلح الفرنسي جذور يونانية، وهذه تفصيلة مهمّة سوف نعرج عليها. الكلمة عبارة عن شقّين "Idéo" والتي تعني فكرة و"logie" والتي تعني عِلماً، وبهذا تعبّر الكلمة عن طريقة جديدة لدراسة الأفكار أو "علم الأفكار". نعود لكلمة "Idéo"، هل من الصدفة أن تتشابه كلمة فكرة بالانجليزية "idea" مع كلمة مثالي "ideal"؟ تُحيلنا الأصول اليونانية للكلمة لنظريّة المُثل لدى أفلاطون، والتي يعتبر فيها أنّ العالم الذي نعيش فيه عبارة عن ظل أو نسخة غير مكتملة لعالم آخر مكتمل ومثالي يدعى عالم المُثل[6]. هذه هي عقدة المنشار بالنسبة لي في مُصطلح أيديولوجيا، فهو، كما أراه، تعبير عن تصوّرنا لما يجب على المُجتمع أن يكونه، أي كيف نتصوّر المُجتمع المثالي.
يتصوّر البعض أن المُجتمع المثالي يكمن في الحياة القبائلية، هذه أيديولوجيا. يتصوّر البعض الآخر أن المُجتمع المثالي هو القائم على سلطة الدولة، هذه أيديولوجيا. يتصوّر آخرون أن التباينات الاقتصادية في المجتمعات شيء طبيعي جداً، هذه أيضاً أيديولوجيا. الأمر المُتوقّع هو أن يتبنّى شخص ما أيديولوجية، أو عدّة أيديولوجيات مُتداخلة. حتى من يرفضون الأيديولوجيا فهم بحدّ ذاتهم يتحولون إلى أيديولوجيا بحسب سلافوي جيجيك[7]. تكمن المُشكلة في أن هذه الأيديولوجيات تتحوّل إلى نظام غير واعٍ يحكم تفكيرنا دون أن ندرك وجوده. وهذا ما يمنعنا من فهم المشاكل الأساسية المتعلقة بتصوراتنا قبل الحديث عن تصورات الآخرين. مثال على ذلك هو الإعلام المستقلّ، يطرح هذا الإعلام نفسه في كل أنحاء العالم كمؤسسة حرّة منفلت عن أيديولوجية الدولة والسوق والقوى المُهيمنة في المجتمع، لكنّه في الواقع يعبّر بحد ذاته عن أيديولوجيات معينة.
لماذا الأيديولوجيا أصلاً؟ ماركسياً، فإن الأيديولوجيا هي وسيلة لخلق وعي زائف يهدف إلى حماية مصالح الفئة المُستفيدة من هذا الوعي[8].
في الواقع، الإعلام، بكل ما للكلمة من معانٍ، هو أكثر الأماكن تشبّعاً بالأيديولوجيا. أكاد أجزم أنّ أيّ محتوى إعلامياً لا يخلو من أيديولوجيا. كلّ ما يحتاجه المرء هو بعض مهارات التفكيك والتحليل لرؤية هذه الأيديولوجيات. يكفي النظر إلى إعلان تجاري واحد بعين التفكيك لملاحظة الكم الهائل من الأيديولوجيات المركّبة التي نعيش في كنفها ضمن العالم متعدد الوسائط الحالي. وبهذا، يُمكن الاتفاق على أنّ ما تغيّر عن القرن السابق ليس غياب الأيديولوجيا كما يدّعي البعض، إنما انفتاح الأيديولوجيات على وسعها مقارنة بالأنظمة المُغلقة السابقة التي كانت تتحكّم بأبرز أدوات تعميم الأيديولوجيا وهي مؤسسات إنتاج المعرفة.
يمكن ملاحظة تراجع سلطة الأنظمة المتحكّمة بالأيديولوجيا عند النظر إلى التعليم على مستوى الدول. بالنسبة لأيديولوجيا الدولة الوطنية وأنظمتها المختلفة على اتّساع تنوّعها، من أكثرها ديمقراطية إلى أكثرها سلطوية، فإن المؤسسة التعليمية هي أكثر وسائل الهيمنة الأيديولوجية على المجتمع، فهي المكان الذي يتحوّل فيه الأطفال من مرحلة "ما قبل المواطن" إلى مرحلة "المواطنة الكاملة" ليندمجوا ضمن نظام الدولة الوطنية. هكذا يتعرّض الأطفال لعملية تدجين تنقلهم من رحلة استكشاف كل شيء إلى الاندماج في المجتمع على شكل "طوبة أخرى في الجدار" حسب تعبير فرقة بينك فلويد الغنائية.
لكنّ العالم تغيّر بفعل التكنولوجيا التي أصبح التفاعل معها أكثر فردانية بسبب الأدوات الجديدة مثل الهواتف والحواسيب المحمولة. لذلك، فإن الإعلام، التعليم، الأسرة، وغيرها من المؤسسات لم تعد حكراً على أحد، إنما مساحات صراع وتصادم شديد بين الأيديولوجيات المُختلفة. كل أيديولوجيا تحاول الصراع لأجل مصالحها. لأجل الدقّة، من يُنتج الأيديولوجيا ويعمّمها هو المُستفيد، وليست الفائدة بالضرورة مالية. قد يكون الشيخ المُنظِّر المُدافع عن سُلطة الدين في المُجتمع فقيراً، لكنّ هذه الأيديولوجيا تقدّم له مكانة اجتماعية لا يمكن له أن يمتلكها لو كان خارج هذه الأيديولوجيا. ينطبق نفس الشيء على حكّام الأقلّيات، إن أصبحوا أقل نفوذاً لصالح الشعوب فإنهم يخسرون الكثير من القوة السياسية، لذلك يجتهدون في اختلاق مكانتهم.
إذا كانت الأيديولوجيا وعياً زائفاً، هل يُمكن العيش من دونها؟ لا أعتقد، ستبقى الأيديولوجيا كمنظومة قيم ومعتقدات لمجموعات صغرى وكبرى من البشر أساسية في تشكيل التوافقات والاختلافات فيما بينهم.
لماذا تفشل الأيديولوجيا رغم أنها أساسية في حياتنا؟ إن انهيار الأيديولوجيات الكبرى لم يأت بسبب فساد هذه الأيديولوجيات وعدم اتسّاقها مع الثالية المنطوية عليها، بل جاء بعد الاصطدام بالواقع الذي يحطّم أحلام المنظّرين لكيف يجب أن يكون المجتمع أو ما هو الأصلح للمجتمع. لنأخذ الرأسمالية مثالاً، لا شيء في أدبياتها برأيي يدعو للفزع أخلاقياً أو قيمياً، لكنها تسبّب عند التطبيق تفاوتاً في الفرص وتركيزاً للثروة في يد فئة معينة واستنزافاً للموارد. أغلب هذه المشاكل تعود أسبابها لأمور خارج الرأسمالية كأيديولوجيا، قد تكون بسبب دوافع سلوكات بشرية مثل الجشع، وقد تكون مؤسساتية مثل الفساد وقصور الأنظمة الرقابية مالياً. أو تعود لتصورات غير صحيحة عن قدرات الكوكب الذي نعيش فيه مثل الموارد غير المحدودة، لنكتشف في النهاية أن هذه الموارد ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية.
أعتقد أنّ مصير الأيديولوجيا الفشل طالما يتعامل معها مُعتنقيها بطريقة جامدة تتحوّل فيها إلى ديانة متطرّفة أكثر من كونها منظومة مرنة تتفاعل مع الواقع وتتعايش معه وتقبل ما يفرضه تعقيد العالم من تغييرات عليها. كما أنّ الأفكار تحتاج إلى نقد دائم بهدف التغيير والتحسين والانتباه إلى التناقضات الداخلية وإيجاد حلول لها. كما أنّ الأيديولوجيا تقدّم نفسها عادة باعتبارها النموذج الأكثر صلاحاً للناس، وهنا لا بد من إجراء مراجعات دائمة للفكرة قبل أن تتحول إلى منظومة جامدة.
أن تطرح الأيديولوجيا نفسها باعتبارها النموذج الأكثر صلاحاً للناس هذه بحدّ ذاتها مشكلة، فمن يقرر أن الأكثر صلاحاً للناس هو هذا الأمر أو ذاك؟ من يُحدد الأولويات؟ وهل جميع الأشخاص قادرون على الوصول لقرارات مستنيرة لو أُتيحت لهم الفرصة للاختيار في نظام ديمقراطي؟ وهل فتحت التكنولوجيا الباب أمام القوى المُتنفّذة للتلاعب بعقول الناس؟ الأسئلة أكثر من الأجوبة في الواقع، وهي لا تنتهي. هناك أمور لا يتّفق عليها الجميع لما يجب للمجتمع أن يكونه، لكن هناك أموراً أكثر قد يتفّق عليها الجميع حول ما يجب أن يؤول إليه المجتمع، فلا أحد يشجّع الفقر والجهل والمرض وانعدام الأمن المجتمعي على سبيل المثال. ربّما هذه المرّة يجب البدء من هناك، من التصور الديستوبيّ للمجتمعات والسعي إلى تجنّب هذه الدستوبيا بدلاً من التصور التفاؤلي والسعي نحوه. ربّما يُعتبر هذا جزءاً من الأيديولوجيا الخاصة بي كشخص تشاؤمي، لكنّها ليست دعوة تبشيرية للتشاؤمية.
على سبيل المثال، إذا كان المشهد الديستوبيّ الحالي في المنطقة العربية هو الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا، فإن التصور الأكثر ديستوبية هو امتداد لهذه الجرائم إلى مناطق أخرى في العالم العربي والدول المحيطة بحيث تُصبح هي السمة العامة للحروب، ويُصبح استباحة الدماء أكثر سهولة وأقل إشكالية حتى للحكّام المحليين لاحقاً. وعليه، فإن الإجماع يجب أن يرتبط بوقف هذه الجرائم، وكل ما يشبهها في كل امتداد المنطقة، والمحاسبة الجادة للمجرمين وإعادة الكرامة للدم الإنساني.
هوامش:
[1]: مثال: دعوة إلى خطاب وطني فلسطيني جامع ومتحرر من الأيديولوجيا، رمزي بارود، أخبار الخليج.
[2]: مثال: هل انتهى زمن الإيديولوجيا والأحزاب العقائدية؟، فيصل القاسم، القدس العربي.
[3]: Mirrlees, Tanner. (2018). Ideology. 10.5040/9781474278737، صفحة 328.
[4]: Encyclopedia Tyrannica: A Research Guide to Authoritarianism. Encyclopedia Tyrannica: A Research Guide to Authoritarianism, Van Den Bosch, J.J.J. and Lindstaedt, N., Eds., Ibidem Verlag, Hannover-Stuttgart, 2025. https://doi.org/10.24216/9783838218823, صفحة 445.
[5]: يمكن الاطلاع على مثال يدلّل على هذا الخطاب من خلال هذه الدراسة: Abdelmoez, J. W. (2020). Performing (for) Populist Politics: Music at the Nexus of Egyptian Pop Culture and Politics. Middle East Journal of Culture and Communication, 13(3), الصفحات: 300 - 321. https://doi.org/10.1163/18739865-01303007.
[6]: Macintosh, D. (2012). Plato: A theory of forms. Philosophy Now, 90.
[7]: Žižek, S. (Ed.). (2020). Mapping ideology. Verso، صفحة 11.
[8]: Eyerman, R. (1981). False consciousness and ideology in Marxist theory. Acta Sociologica, https://doi.org/10.1177/000169938102400104، صفحة 17.