("الظلال المتنقلة: مع أسامة بن منقذ في تركيا"، خان الجنوب في برلين ودار مرفأ في بيروت، 2025)
[عدي الزعبي، قاص وصحفي سوري، حاصل على دكتوراه في فلسفة اللغة من جامعة ويست أنجيليا في لندن].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص/النصوص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
عدي الزعبي (ع. ز.): فكرة النص تنبع من المشتركات بيني وبين أسامة: التنقلات القلقة، والأسئلة عن المعنى. عاش أسامة بن منقذ في تركيا لعقد من الزمن، بعد فترة من التنقلات القلقة. أنا أيضاً، عشت تنقلات كثيرة، آخرها إلى برلين. مع وصولي إلى هذه المدينة، قررتُ أن أسائل أسامة عن تنقلاته، وحياته، وما يمكن أن يقوله لي. عدتُ إلى أعماله، وقرأت عن الفترة الزمنية التي عاشها، وعن تاريخ المنطقة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية للعمل، وما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ع. ز.): الكتاب يتألف من سبعة نصوص عن سبعة مدن في أراضي الجزيرة العليا. أطرح على نفسي، وعلى أسامة، أسئلة عن الكتابة ومعناها، والهروب والمواجهة، والدين، والفن، والموت، والغربة.
(ج): لماذا أسامة بن منقذ تحديداً؟
(ع. ز.): كان أسامة فارساً، وأديباً. مثل معظم المهتمين به، شدّني كتاب "الاعتبار"، وهو سيرته الشخصية التي أملاها على حفيده قبيل وفاته، وقد تجاوز الثمانين. مثل هذا النوع من السيرة قليل جداً في تراثنا (وفي حاضرنا أيضاً). كان أسامة فضولياً جداً، وحساساً، وشجاعاً، ومؤمناً بعمق. جمع كل هذا في كتابه، بلغة بسيطة، وحكايا صادقة. كما عاش في فترة حروب لا تنقطع، وكتب الكثير في هذه الفترة العصيبة. قررتُ أن أسأله عن كل ذلك، عن الترحال والكتابة والحروب.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن أدب رحلات، هل لاختيارك هذا الجنس الأدبي بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ز.): أدب الرحلة جنس أدبي يتمتع بمزاياه الخاصة، من خلالها، يمكن الوصول إلى الواقع، بطريقة مثيرة. يسمح هذا الأدب بطرح أسئلة مباشرة، تتعلق بالحاضر، كما يتيح لمجموعة متنوعة من التأملات أن تنطلق مع اليومي والمُعاش.
(ج): هل تداخل الشخصيّ مع الموضوعيّ في هذا العمل، وكيف كان شكل هذا التداخل إن وجد؟
(ع. ز.): يقوم الكتاب بأكمله على موضوع شخصي: الدردشة مع أسامة عن الحياة. كيف نجح أسامة في أن يعيش عشر سنين في الجزيرة العليا وحيداً، يقرأ، ويكتب، ويقرض الشعر، في زمن حروب وخيانات وانقلابات لا تنتهي؟ هذا سؤال الكتاب، وسؤالي أنا لنفسي، كل صباح.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ز.): أعتقد أن التحدي الأول أدبي: كتابة عمل تاريخي، دون أن يتحول إلى درس في التاريخ، أو إلى مجموعة مملة من الإسقاطات السياسية والاجتماعية المباشرة، ودون أن أثقله بالتفاصيل التاريخية. كيف يمكن أن أحافظ على الصلة بين الماضي والحاضر (المشاهدات الآنية)، وبيني وبين أسامة.
ولمواجهة التحدي، استخدمتُ أساليب مختلفة في الكتابة: أولاً، نص طويل عن المدينة التي أزورها، ثانياً، يوميات عن مدينة أخرى، ثالثاً، مقاطع قصيرة انطباعية عن مدينة ثالثة، وهكذا.
أتمنى أن أكون قد نجحت في ذلك.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ز.): هذا عملي الثاني في الكتابة التاريخية، بعد مجموعتي القصصية الأخيرة قلوب مكبولة (2024، دار صفصافة)، التي عالجت اثنا عشر شاعراً عربياً قديماً، من كعب بن زهير إلى أبي العلاء المعري. نفس التحدي التاريخي، عن كيفية كتابة أدب لا يكون درساً مثقلاً بالتفاصيل، ولا بإسقاطات سياسية واجتماعية مملة.
وهذا أول عمل طويل في أدب الرحلة، بعد مجموعة من النصوص عن مدن مختلفة.
استمتعتُ كثيراً بهذا الخليط من الكتابة التاريخية، والشخصية، والصحفية الانطباعية.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ع. ز.): أجل، هناك أعمال في أدب الرحلة، متنوعة في الشكل والمضمون. منها أعمال روائية لزيبالد، ورحلة الحج لجلال آل أحمد، و"أصفهان نصف الدنيا" لصادق هدايت، ورحلة أوسامو دازاي إلى الشمال الياباني، وغيرها؛ بالإضافة إلى الرحلات القديمة، رحلات ابن فضلان وابن جبير وابن بطوطة.
(ج): كيف كان تأثير عودتك إلى سوريا أثناء كتابة الكتاب، صفه لنا؟
(ع. ز.): لم تؤثر. مخطط الكتاب والأساليب المختلفة في الفصول لم تتغير. مارستُ ضغطاً هائلاً على نفسي كي أتجاهل العودة. الملاحظات المأخوذة أثناء الرحلة، والتحضيرات السابقة في القراءات المتنوعة، استعملتُها كي أنهي الكتاب، الذي كنتُ بدأتُ فيه قبيل هروب بشار.
زرتُ الجزيرة العليا في شهر أكتوبر 2024، وهرب بشار في الثامن من ديسمبر 2024. وصلتُ دمشق، لأحرر الكتاب، في السابع والعشرين من ديسمبر، الكتاب الذي يقوم بأكمله على عجزي عن زيارة دمشق! أتممتُ الكتابة في برلين، التي رجعتُ إليها بعد شهر ونصف من الإقامة في دمشق.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ز.): مجموعة قصصية عن الفن والحياة والخسارات. كيف يساعد الفن في تقبّل الخسارات، رغم عجزه الجلي أمامها؟ فحروبنا لا تنتهي، وما زالت مستمرة، كما هي أحلامنا في حرية أوسع، في سوريا وخارجها.
مقتطف من الكتاب
دخلتُ الكنيسة الأرمنية، ليغزوني حزنٌ ناعم، كموسيقى شعبية. لم أتوقع ذلك. فاجئتُ نفسي. جلستُ، في الكنيسة شبه-الفارغة، في هذه الساعة المبكرة، إلا من زوار يعبرون سريعًا، ويروحون إلى حياتهم المليئة بالأحداث. بقيتُ مسمَّرًا على الكرسي مدةً طويلة. كأنني سأجد نفسي، أو أسامة، أو المعنى، هنا. الموسيقى عالية، وتوزيع الصوت ممتاز. من المفترض أنها موسيقى أرمنية كنسية، لكنها تذكرني بموسيقى بيزنطية أرثوذكسية بعيدة، من سوريا. حارسُ الكنيسة يقول شيئًا بالتركية. أردُّ بهمهمة إنكليزية. يتركني، ويلتفت إلى السياح القلائل. إعادة بناء الكنيسة متقنة جدًّا. الكنيسة كبيرة نسبيًّا. الإضاءة تأتي من دوائر مفرَّغة فوق العواميد، بين الأقواس. أربعة صفوف من العواميد، بأقواس عالية. اللون الأسود البازلتي يهدهد الذكرى. أفكر في كل القتلى في سوريا، بالمهجرين، بالباقين في الوطن. كلهم يحلقون هنا. المذبح لا يشبه المذابح السريانية، بل أقرب إلى التقليدي المسيحي، ولا توجد فيه مقرنصات إسلامية. أفكر في وجه الشبه بين المذبح والمحراب: نقطة الالتقاء مع الماورائيات، في قلب المعابد الإبراهيمية. تغرق نفسي، في سكونٍ لا يشي بشيء محدد. صفوف الكراسي بلون بني فاتح. وخلفها وحولها مساحات واسعة فارغة. الصور غير متناسقة على المذبح: الصورة الرئيسة، أيقونة شرقية، تمثل العذراء وطفلها. الصور الأربع الأخرى، اثنتان على كل جانب، غربية، بألوانها، ومنظورها، وتوزيع الظل. كلها محاطة بنقوش مذهبة. معظم السياح أتراك، من مدن بعيدة. امرأة تصلي، بلغة لا أعرفها. ربما أرمنية، أو جورجية، جالسةً على الكرسي، بتوتُّر واضح. هل يقبل الله مثل هذه الصلوات؟ أراقبها، وهي غارقةٌ فيه. أخرج، خجلًا من نفسي. لا يوجد ما يشير إلى «ترحيل الأرمن» وما نتج عنه. فقط، في محل الهدايا، أربعة صحون، قبيحة، فيها أشجار رمان، ومكتوب تحتها، أرمينيا. ولكن ليس الشعار الشهير، لثمرة مجروحة، تنزف، وشعارها: «بعض الجروح لا يندمل». لا، بل رمان على شجرهِ. اللافتة، على الباب، وثلاث لافتات أخرى في الشوارع الرئيسة، باللغتين: التركية، والأرمنية.
ربما، سيأتي وقتٌ، نكتب فيه ما حصل، بكل اللغات.
عدتُ إلى شارع البرجوازيين، عبرته مسرعًا. تبخَّرت كل مشاعري الطيبة هنا. توجهتُ نحو الأسوار، التي جددها المسلمون. ما زال معظمها صامدًا، ويحيط بالمدينة القديمة بأكملها. الأسوار توحي بالمنعة، بالعزَّة، بالأصالة. عبرتُ بوابةً كبيرة، لأجد نفسي في فسحةٍ كبيرةٍ قبل سورٍ ثانٍ. هنا تجد مجمع المتاحف، ويحوي أبنية ساحرة، لم أدخلها. بل تجولت ببطء. الإطلالة على ما وراء المدينة: غابات صغيرة خضراء، وأفق مفتوح، وجبال قصية. لا أعرف اللغات التي يتكلمونها. أشعر بغربة لا تشبه غربتي في الغرب. أقف أمام المنظر الساحر، الفاتن، فاتنٌ بالضبط لأن كل شيء يتناسق بمكر طبيعي، بأحجام لا تثير الفزع أو الجلال، بل تسرق القلب. أفكر في ديار بكر، وأسوارها المنيعة، وموقعها الخاص جدًّا في تاريخ الأدب العربي، إذ انطلقت من هنا، بمصادفة عجيبة، قصة أهم كتاب عربي: رسالة الغفران. أمشي، وأنا أفكر في الدولة المروانية، وهي سلالة كردية شهيرة حكمت الجزيرة العليا قبل وصول السلاجقة، وعاصمتها آمد. أشهر حكامها نصر الدولة، وقد استمر حكمه خمسين سنة، واتسم عهده بالعدل، وتشجيع العلم، في مدينته الحصينة. وقد تبادل كاتبه، أبو الفرج الزهرجي، الرسائل مع أدباء عصره، وكان مشهورًا بسعة علمه. حمَّل زميلَه ابن القارح رسالةً إلى أبي العلاء في المعرة؛ سُرقت على الطرق. فكتب ابن القارح إلى أبي العلاء يخبره عن السرقة، ويستعتبه على ما سمع منه من نقدٍ وسخرية بحقه. وعلى ما يبدو لي، يعرض ابن القارح في رسالته بأبي العلاء -بعد أن أنكر على صديقهما المشترك أبي الفرج كتبه التي رآها في آمد و«قد برأت من الشريعة الحنيفية»- من خلال تذكيره بكفر بعض الشعراء، ورقَّة دين غيرهم؛ وهذه تهمةٌ لازمت أبا العلاء. ردَّ شيخ المعرة برسالته الطويلة عن الغفران: متى يُغفر للشعراء؟ هذا موضوعها الأوحد؛ إذ إن رحمة الله واسعة، ولكنها محيرة. ولا يستطيع المرء ألا يسأل نفسه: هل يغفر الله للزهرجي، وابن القارح، والمعري؟
ولكن، ماذا لو لم تُسرق الرسالة؟ ماذا لو لم يدبِّجها كاتب نصر الدولة؟ ماذا لو لم تكن ديار بكر مركزًا طرفيًّا، صغيرًا، أنيقًا، للحضارة الإسلامية؟ مصادفة عجيبة، وسرقة غير مقصودة لرسالة لا نعرف مضمونها، أطلقت سخرية المعري، وإجاباته المزهرة القارحة عن غفرانٍ وأقدارٍ لا يُسبر غورها.
جامع حضرة سليمان، بجانب مجمع المتاحف. البناء مصمم كي يلتصق بالأبراج الدفاعية، وفيه عدد كبير من قبور العثمانيين وشيوخ الصوفية. صبية سافرة تردد أدعية، وتمسح على حجر القبور. خلفها صبية محجبة تقرأ الفاتحة، وتمسح وجهها. مباشرةً، بعد الانتهاء من هذه الطقوس، تلتقطان عدة صور، مع فم البطة المدور، وإشارة النصر بشكل عرضي، وابتسامات جامحة. أتمنى لهما أن تحصلا على ما طلبتاه. أشعر بأن الله القريب، كما أخبرنا، سيستجيب لهما، مهما كانت الطلبات، المادية أو العاطفية، عويصة.
الفسحة بين السورين. أمشي ببطء. خريفٌ دمث. ريحٌ رزينة. شرطة السياحة أكثر من عدد السياح. صوت طائرة هيلوكوبتر قريبة. عندما عشتُ في مالمو، وكلَّما اشتدت الصراعات بين عصابات المافيا، كانت طائرات الهيلوكوبتر تحلق باستمرار على علو منخفض. يصعد البعض على السور، ليروا المدينة القديمة، ودجلة، وربما المدينة الجديدة، أيضًا. أشعة الشمس ليست حادة. بشاشة الخريف تفتن اللب أكثر من بقية الفصول. أفكر في أسامة، الذي أشار إلى المعري أكثر من مرة، بتبجيل شديد. رغم أنه يختلف عنه كثيرًا، في شخصه، وشعره، ورؤاه، وحياته. كلبان يتجهان نحوي. في تركيا، تعتني الحكومة، والناس، بالكلاب. يبدو أحدهما، الأكثر بياضًا، مليئًا بالطاقة. يقترب مني، ثم يغير رأيه. يتجه نحو جامع حضرة سليمان، ويتبعه زميله. امرأة تمشي متعجلة. ثلاثة شبان يتجهون نحو الدرج الذي يصعد السور. ربما، في بعض الأبيات الحساسة أو الهاربة من ثقل التقاليد والتكرار، يجد المرء أثرًا للمعري. كذلك، في القصائد التي تذم الزمن، أو في المراثي التي تهجو الحياة. تحملني نسمة خريفية إلى الجامع الكبير. تمتع أسامة بتلك الروح التي تقبل بالاختلاف، وتتفهم الناس. ساعده ذلك في عصر الحروب، والمنافي التي عاشها.