أقرت الإدارة السورية المؤقتة عبر قنواتها الاقتصادية السيادية وعلى رأسها المصرف المركزي اعتماد سياسة نقدية جديدة من شأنها بحسب المخطط المعلن أن تعالج ما أمكن من الخضّات المالية التي عانت وتعاني منها سوريا. ووفقاً لهذه السياسة سيتم استبدال الكتلة النقدية المتداولة بين أيدي الناس اليوم بفئات أخرى يحذف منها صفران، لتصبح الألف على سبيل المثال عشر ليرات، والمئة تصير ليرة واحدة. وهذا الإجراء ليس حكراً على بلد كسوريا، فقد سبقتها دول كثيرة، ومنها تركيا وفنزويلا، لاتباع هكذا سياسة تحت تأثير التضخم والمشاكل الاقتصادية. بعضها نجح في مخططه وأنقذ عملته، وبعضها الآخر كرّس مشكلة التضخم وانتقل من كارثة اقتصادية لأخرى أكثر فداحةً، كبعض الدول في إفريقيا.
آلية الاعتماد النقدي
سوريا اليوم تنوي طباعة ست فئات جديدة من العملة، ومن أجل ذلك ستشكل لجنتين استراتيجية وتشغيلية لمتابعة الملف، وقد حصلنا على معلومات موثّقة من المصرف المركزي بأنّ العملة الجديدة سيصعب تزويرها ضمن موثوقية حماية أمنية عليا، ولن تحوي على صور أشخاص، وسيتم اعتماد طباعتها لدى جهات "موثوقة." ووفقاً لمصدر المعلومات من داخل المصرف إنّ الطباعة بهذا الشكل ستهدف إلى تخفيف معاناة المواطنين من التعامل مع كميات كبيرة من الأموال المنقولة سواء لشراء الاحتياجات اليومية ولأغراض البيع والشراء العامة. ولن يؤثر هذا الإجراء النقدي بأي شكل حقيقي على قيمة الليرة ذاتها وقوتها الشرائية، فالمليون هي المليون، ولكن بفارق التسمية وتعداد الأصفار. وباختصار فإن استبدال الكتلة النقدية لا يعني زيادتها في التداول والأسواق، بل يعني فقط تبديل ما هو متداول حالياً. فعلى سبيل المثال، مبلغ مئة ألف ليرة سورية اليوم يعادل نحو 10 دولارات أمريكية، وعند التداول قد يكون عبارة عن رزمة من مئتي ورقة من فئة 500 ليرة، أو مئة ورقة من فئة ألف ليرة، أو 50 ورقة من فئة ألفي ليرة، ومن هنا جاءت سياسة حذف الأصفار لتسهيل التعامل اليومي المباشر.
المراحل الثلاث
وحول طرح العملة الجديدة "الليرة" فإنّ ذلك سيكون على ثلاث مراحل، تبدأ بتداول تدريجي إلى جانب الفئات الحالية المتداولة، ثم سحب الفئات المتداولة سابقة، ومن ثمّ حصر التبديل عبر المصرف المركزي، بالتزامن مع حملات توعية إعلامية واقتصادية لأهمية الخطوة المتخذة وتبعاتها والتي يفترض أن يبدأ تطبيقها قريباً، (من المتوقع أن يكون ذلك مع حلول الذكرى الأولى لانتصار الثورة في الثامن من ديسمبر القادم).
ورغم ذلك ثمّة ما هو أهم بكثير من العملية تلك كلّها، وهي الأشياء التي يحاول المسؤولون عدم تبنيها أو الإعلان عنها بشكل مباشر والتركيز عليها وهذا جانب أساسي من المصداقية، وهنا يجب التوقف عند الجملة التي قيلت لنا في "المصرف المركزي" وهي إنّ الطباعة ستتم عند جهات "موثوقة،" فمن هي تلك الجهات، وما هو رأي الخبراء والأكاديميين بذلك؟
مجازفة استراتيجية
بات من المؤكد أنّ سلطات دمشق ستطبع العملة الجديدة لدى شركة "غوزناك" الروسية، فإذا اتجهت السلطة الانتقالية فعلاً إلى إعادة طباعة العملة السورية في روسيا عبر تلك الشركة المملوكة للدولة الروسية، فإنّ هذه الخطوة تعتبر انزلاقاً خطيراً، ليس بسبب دلالات الانفتاح على موسكو، فهذا موضوع له سياق آخر ومحددات مختلفة، لكن الأمر يتعلق بالشركة الروسية نفسها، فـ "غوزناك" واقعة تحت العقوبات الأمريكية، وسجلّها مثقل بالتورط في طباعة مليارات من الأوراق النقدية لصالح سلطات الشرق الليبي، وقد أُثير حولها الكثير من الجدل لاعتبارها أقرب إلى عملة موازية تفتقر إلى الشرعية، بحسب متخصصين.
كما أنّ الانعكاس السياسي لهذه الخطوة سيكون بالغ الخطورة، إذ ستعزز صورة السلطة الانتقالية ككيان يفتقر إلى رؤية اقتصادية متكاملة، وتضعها في مواجهة اعتراضات دولية وربما إجراءات عقابية جديدة، بحكم تعاملها مع مؤسسة خاضعة للعقوبات الأمريكية. وبدلاً من أن تشكّل لحظة بناء للثقة، ستُقرأ هذه الخطوة كإعادة إنتاج لآليات سلطات الأمر الواقع، ما يضعف موقع السلطة الانتقالية في الداخل والخارج.
مخاوف اقتصادية
طباعة العملة بحسب مصرفيين وأكاديميين تحدثنا معهم بتلك الطريقة وما سيترتب عليها من آثار وأضرار قد يدل على عدم نضوج اقتصادي يتيح للدولة الوليدة التحرك ضمنه. يشرح الباحث الأكاديمي الدكتور مالك الحافظ بصورة مفندة آليات التحرك الاقتصادي الذي ستقدم عليه السلطات السورية بادئاً من موضوع طباعة العملات في روسيا إذ يرى أنّ بحث السلطة الانتقالية عن حل سريع لأزمة فقدان الثقة بالعملة الوطنية، وعن محاولة إعادة تقديم "رمز نقدي" يوحي بوجود سياسة نقدية جديدة. لكن في الجوهر، لا جدوى حقيقية من هذه الطباعة إذا لم تُرفَق بخطة اقتصادية شاملة، لأنها لن تعالج أصل الأزمة المتمثل في التضخم، والانهيار المالي، وتآكل الثقة بالسوق. ويكمل: "بالتالي فإنّ جدوى طباعة عملة جديدة عبر شركة روسية ليست في جوهرها اقتصادية بحتة، فهي انعكاس لأزمة سلطة انتقالية تبحث عن أدوات سريعة تمنحها مظهراً بأنها تتحكم بالمشهد المالي. فالطباعة هنا تُقاس بكونها محاولة لإظهار أن السلطة قادرة على إنتاج نقد جديد وإدارة دورة المال، حتى لو كان ذلك في إطار هشّ ومن دون قاعدة اقتصادية صلبة. في الواقع، ما يُقرأ من هذه الخطوة أن السلطة تعطي أولوية للرمزية السياسية أكثر من المعالجة الاقتصادية، إذ تريد أن تُثبت أنها تمسك بزمام الملفات السيادية الكبرى، ولو شكلياً، وأنها ليست مجرد إدارة مؤقتة بلا أدوات". وفيما يتعلق يحذف الأصفار يضيف الدكتور مالك الحافظ: "هذا الإجراء يهدف بالأساس إلى إعادة صياغة صورة العملة في وعي الناس، أي تقديم نسخة (مبسطة) توحي بالاستقرار وتُسهل التعاملات اليومية. لكنه لا يحل أصل المشكلة، فالقدرة الشرائية لن تتغير، والتضخم لن يتوقف. الأصفار يمكن أن تعود سريعاً إذا لم يكن هناك انضباط مالي وإطار اقتصادي متماسك. لذلك، يمكن القول إن جدوى حذف الأصفار محصورة في الجانب النفسي والتواصلي، لكنه في غياب رؤية أوسع سيُقرأ كإعلان غير مباشر عن فشل العملة السابقة، أكثر مما سيُقرأ كخطوة إصلاحية".
الانعكاس المباشر
وحول انعكاس أمر الطباعة الجديدة على سوريا يرى الباحث مالك الحافظ أنّ الانعكاسات الاقتصادية لطباعة عملة جديدة في هذه المرحلة لن تكون حيادية، بل ستكشف سريعاً عن هشاشة البنية المالية والاقتصادية. في المدى القصير قد تُضخ سيولة في السوق وتُسهَّل التعاملات النقدية، ما يعطي انطباعاً أولياً بوجود قدرة على ضبط المشهد المالي. ويحذر: "لكن هذا الانطباع سرعان ما سيتبدد إذا لم يكن هناك إطار استقرار نقدي يحدد حجم الكتلة الجديدة ويضبط مسار العجز والإنفاق. فالعملة لا تكتسب قيمتها من الورق المطبوع وإنما من الثقة بالاقتصاد وبقدرة السلطة على إدارة التوازن بين الإيرادات والنفقات. إذا تم طبع العملة من دون ضوابط أو من دون وجود خطة لتعقيم السيولة الزائدة، فإن النتيجة الطبيعية ستكون تضخماً متسارعاً وانهياراً إضافياً في سعر الصرف".
ويوضح الحافظ المخاطر المحتملة: "من المرجح أن تؤدي هذه الخطوة، إذا جاءت منفردة ومن دون إصلاحات موازية، إلى تسارع التضخم وتراجع قيمة العملة مقابل العملات الأجنبية. وحين يفقد الناس الثقة بالنقد الوطني، يتوسع اللجوء إلى بدائل كالعملة الصعبة أو حتى المقايضة، وهو ما يضعف دور الدولة في إدارة الدورة الاقتصادية. الأخطر أن الأسواق قد تفسر الطباعة الجديدة كدليل على عجز السلطة الانتقالية عن تأمين موارد حقيقية، ما يعمّق الشكوك ويزيد من حالة الهروب نحو الدولار. بمعنى آخر، الأثر الفعلي لهذه الخطوة سيكون تعزيز صورة أزمة الاقتصاد السوري لا التخفيف منها، لأن الطباعة ستبدو أشبه بمحاولة إسعاف شكلي لمرض مزمن، بينما الواقع يتطلب خطة اقتصادية متكاملة تعالج جذور التدهور وتعيد بناء الثقة قبل أي حديث عن إصدار نقد جديد".
بين الطباعة لسوريا وليبيا
يعتقد الحافظ أنّ التعامل مع شركة روسية خاضعة لعقوبات دولية يفتح الباب على أزمة أكبر من مجرد طباعة نقد. فهو يضع العملة الجديدة، منذ لحظة صدورها، في موقع الشبهة أمام الأسواق الدولية والمؤسسات المالية. السلطة الانتقالية، التي تعاني أصلاً من نقص الشرعية ومن ضعف الثقة، ستجد نفسها متهمة بأنها اختارت طريقاً محفوفاً بالمخاطر يعرّضها لعقوبات إضافية، أو على الأقل لعزلة مالية أشد. هنا لا يعود النقاش حول جودة الورق أو تصميم العملة، بل حول شرعية الإصدار نفسه، وما إذا كان سيُعامل كعملة وطنية معترف بها أم كأداة نقدية مرتبطة بكيان مؤقت يخالف قواعد الامتثال المالي العالمي. وحول هذه النقطة يوضح الدكتور مالك الحافظ أنّه: "إذا نظرنا إلى تجربة ليبيا، فإن المثال يوضح خطورة الانزلاق. طباعة عملة عبر "غوزناك" هناك لم تساهم في حل الأزمة، بل خلقت ازدواجية نقدية وأثارت نزاعات حول شرعية الأوراق المتداولة. السوق الليبي تعامل مع النقد الجديد كأداة لتكريس الانقسام، وأصبح الاقتصاد أكثر تشتتاً، فيما تراجعت قدرة أي طرف على فرض سياسة نقدية موحدة. إعادة إنتاج هذا السيناريو في سوريا تعني عملياً أن العملة الوطنية ستفقد ما تبقى لها من رمزية".
الموقف الدولي
تباينت آراء أكثر من متخصص في العلوم الاقتصادية حول طباعة عملة جديدة، البعض أشاد بالفكرة إن تمّ تطبيقها وفق رؤية مسبقة حقيقية وقائمة على نواة علمية ثابتة لضمان عدم تكرار هفوات وأخطاء وتجارب دول أخرى كانت تظن أنّ الخلاص بحذف الأصفار، لتجد أنفسها محتاجة ملايين الملايين من جديد لشراء قطعة بسكويت. فيما قال اقتصاديون آخرون إنّ شؤوناً من هذا النوع هي سيادية خالصة ولا تحتمل التأويل والتجريب والاعتماد على نصائح غير الخبراء، ومن بين أصحاب هذا الرأي المتخصص في العلوم المصرفية أحمد سويفان، إذ يرى المعاجلة في طرق الباب الروسي تعطي انطباعاً عن عدم التمكن من الوصول إلى دولٍ أخرى. فبالعموم اختيار شركة معاقبة من أصل شركات عديدة هو بمثابة رسالة انتحار للخارج الذي كان يراقب بهدوء السلطات الجديدة.
من خيار اقتصادي إلى عبء دبلوماسي
يمكن الاستخلاص إلى أنّ إقدام السلطة الانتقالية على طباعة عملة جديدة في روسيا، خصوصاً عبر مؤسسة معاقبة، سيضعف صورتها الرسمية على أكثر من مستوى. على الصعيد البروتوكولي، ستبدو كحكومة عاجزة عن الوصول إلى شركاء محايدين أو مقبولين دولياً، الأمر الذي يضعها في خانة "سلطة أمر واقع" أكثر من كونها سلطة انتقالية مسؤولة عن إعادة بناء الثقة مع الخارج. هذه الخطوة سترسل إشارة سلبية إلى العواصم الكبرى وإلى المؤسسات المالية الدولية مفادها أن الحكومة السورية المؤقتة لا تملك القدرة على احترام قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية، وأنها مستعدة للجوء إلى أي مسار، حتى لو كلّفها ذلك عزلتها.
أما على الصعيد المالي، فإن هذا الخيار يضعف احتمالات أي تعاون مستقبلي مع بنوك دولية أو مانحين، لأن التعامل مع عملة مطبوعة لدى جهة معاقبة سيجعلها غير مرغوبة في أنظمة الدفع العالمية، ما يعرقل أي عملية إعادة إدماج لسوريا في النظام المالي الدولي. وفي الداخل، ستظهر السلطة الانتقالية ككيان يفتقر إلى الرؤية الاقتصادية الرشيدة، ما يعزز الانطباع بأنها لا تدير مرحلة انتقالية من أجل الإصلاح، بل من أجل البقاء السياسي. النتيجة النهائية ستكون إضعاف موقع سوريا الرسمي في علاقاتها مع العالم، وتحويل خطوة كان يُفترض أن تكون إدارية إلى عبء دبلوماسي ومالي جديد.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].