بينما تواصل «إسرائيل» شن حملاتها الإبادية والتوسعية، تستمر كبرى المنتديات الدولية في إضفاء الشرعية الدبلوماسية على مسؤوليها وأنصارها، بما في ذلك في بعض العواصم العربية، ومن أبرز هذه المنتديات «حوار المنامة»، وهو مؤتمر أمني رفيع المستوى يعقد سنوياً في البحرين. تمول الحكومة البحرينية هذا المؤتمر، وينظمه «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» (IISS)، وهو مركز دراسات بريطاني له فرع في العاصمة البحرينية. تروِّج الحكومة البحرينية لـ«حوار المنامة» بوصفه وسيلة لـ«حفظ الأمن والسلام الإقليمي والدولي»، غير أن إشراك ممثلين إسرائيليين في المؤتمر بشكل دوري يجعل منه منصةً للتطبيع مع أحد أكثر الأنظمة عنفاً وإجراماً في العالم.
استعراض وتكريس التطبيع
رغم أن «حوار المنامة» يُعقد منذ عام 2004، فإن المشاركة الإسرائيلية فيه لم تبدأ إلا بعد قيام البحرين بتوقيع الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020 وفتح العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب. في العام نفسه، شارك وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك «غابي أشكنازي» في المؤتمر إلى جانب «دوري غولد» الذي كان يترأس إحدى مراكز الدراسات الإسرائيلية، وقد شكل ذلك إشارةً واضحة إلى عزم حكّام البحرين على توثيق العلاقات مع «إسرائيل» رغم المعارضة الشعبية الواسعة في البحرين. مع تصاعد التعاون الدبلوماسي والتجاري والأمني بين الحكومتين، أصبح مستشار الأمن القومي الإسرائيلي «إيال حولاتا» وجهاً مألوفاً في «حوار المنامة»، إذ شارك متحدثًا في قمتي 2021 و2022.
أدّى اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023 إلى تباطؤٍ ظاهر في العلاقات البحرينية-الإسرائيلية، إذ عاد سفيري الدولتين إلى بلديهما، ولم يشارك أي متحدث إسرائيلي في «حوار المنامة» ذلك العام. مع ذلك، أكدت البحرين على استمرار موقفها الداعم لـ«إسرائيل» عندما أصبحت الدولة العربية الوحيدة التي شاركت علناً في عملية بحرية قادتها الولايات المتحدة لوقف الهجمات اليمنية على السفن المتجهة إلى «إسرائيل» في ديسمبر 2023.
مع انعقاد «حوار المنامة» في عام 2024، قدمت السلطات البحرينية دليلاً واضحاً على استمرار علاقتها بـ«إسرائيل» رغم الإبادة المتواصلة، فرغم استبعاد المسؤولين الإسرائيليين من المؤتمر مجدداً، أعلنت وكالة أنباء البحرين الحكومية عن مشاركة وفد من «لجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية» (AIPAC)، والتي تعد أبرز جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، وقد اجتمع الوفد لاحقاً مع وزير الخارجية البحريني ومسؤولين كبار آخرين في الحكومة البحرينية.
لا يساهم «حوار المنامة» في تكريس التطبيع في البحرين فحسب، بل يدعمه على المستوى الإقليمي أيضًا، إذ يتيح لوكلاء «إسرائيل» التواصل مع عددٍ كبير من المسؤولين الزائرين من بلدانٍ عربية وإسلامية لم تُطبّع بعد مع تل أبيب. في عام 2021، كشفت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» عن لقاء على هامش القمة بين القائم بالأعمال الإسرائيلي في البحرين ووزير الدفاع الإندونيسي، وذلك وسط تكهّناتٍ بأن جاكرتا كانت تميل نحو الاعتراف بـ«إسرائيل» آنذاك.
يتيح «حوار المنامة» للإسرائيليين أيضاً فرص للانخراط في «دبلوماسية المسار الثاني» مع طيفٍ واسع من الأكاديميين والصحفيين ورجال الأعمال والعاملين في المنظمات غير الحكومية من مختلف البلدان العربية، والذين يشاركون في المؤتمر ضمن ما يسمى «برنامج القادة الشباب». علاوة على ذلك، فإن إشراك ممثلين إسرائيليين في اجتماع يُسوَّق له بوصفه «عنصراً مركزياً في البنية الأمنية للشرق الأوسط» يسهم في دمج هذه الدولة المارقة في المنظومة الإقليمية، في الوقت الذي يواجه زعمائها تهماً أمام المحكمة الجنائية الدولية. بعبارة حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، تسعى مثل هذه الفعاليات إلى «تقديم إسرائيل إلى جانب الدول العربية كما لو كانت جزءً طبيعياً من المنطقة، لا نظام استعمار استيطاني وفصل عنصري».
هل نستمر بشرعنة العدوان الإسرائيلي؟
تعكس المشاركة الإسرائيلية المتكرّرة في «حوار المنامة» مساراً ثابتاً نحو مأسسة الوجود الإسرائيلي في الدوائر الدبلوماسية العربية، فيما توسّع «إسرائيل» تدميرها واحتلالها للأراضي العربية. منذ أكتوبر 2023، أسفرت الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة عن مقتل ما لا يقل عن 60,000 فلسطيني، مع استهدافٍ منهجي للمستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين ونقاط توزيع المساعدات. وقد دفعت هذه الهجمات الموثّقة من قبل منظمات حقوقية ووسائل إعلام دولية عدداً كبيراً من خبراء القانون إلى الاستنتاج بأن سلوك «إسرائيل» يستوفي التعريف القانوني للإبادة الجماعية، فيما خلصت محكمة العدل الدولية في أبريل 2024 إلى وجود «خطرٍ معقول» بوقوع إبادة جماعية في غزة.
في لبنان، أفادت الحكومة في 17 أبريل بأن «إسرائيل» انتهكت اتفاق وقف إطلاق النار المبرم مع البلاد (النافذ منذ 27 نوفمبر 2024) عدد 2,740 مرة، ما أدى إلى مقتل 190 شخصاً وإصابة 485. وتتجاوز الحصيلة الإجمالية للضحايا في لبنان منذ أكتوبر 2023 4,000 قتيل و16,500 مصاب. في سوريا، بسطت «إسرائيل» نفوذها مؤخراً على منطقة مساحتها 400 كيلومتر مربع لتضيفها إلى الأراضي السورية الأخرى التي تحتلها بشكل مخالف للقانون الدولي، وفي الضفة الغربية، صادقت الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة في مايو 2025 على إنشاء 22 مستوطنة جديدة، في أكبر عملية توسعٍ منفردة منذ اتفاقيات أوسلو، مع نشر قواتٍ لطرد السكان الفلسطينيين وهدم منازلهم. وفي يونيو الماضي، اعتدت «إسرائيل» على إيران، مهدِّدةً بجرّ المنطقة إلى حرب أوسع، وقد بلغ عدد القتلى الإيرانيين 935، وأكثر من 4,700 جريح.
في ظل هذا العدوان الإسرائيلي المتواصل، لا يمكن تبرير المشاركة العربية في منصّات التطبيع مثل «حوار المنامة». إن مشاركة «إسرائيل» في المنتديات الدبلوماسية الإقليمية في الوقت الذي ترتكب فيه جرائم حرب وحملات توسعية تساهم في تقويض مصداقية النظامين الإقليمي والدولي. على المجتمع الدولي، والدول العربية على وجه الخصوص، إعادة تقييم الشرعية التي تُمنح للمسؤولين الإسرائيليين في مثل هذه المنتديات، كما ينبغي لممثلّي المجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص في المنطقة أن يرفضوا الضلوع في مسار التطبيع. إن مقاطعة «حوار المنامة» سترسل رسالة واضحة بأن الدبلوماسية يجب أن ترتكز إلى العدالة، وأن لغة السلام والأمن لا يمكن أن تستخدم غطاءً لسياساتٍ تقوّضهما فعليًا.