كان أوبيانوس (Οππιανός) شاعرًا سوريًّا قديمًا عاشَ في القرن الثَّاني الميلادي. ولِدَ في مدينة عين زربة الفينيقيَّة، ويرد اسم هذه المدينة باليونانيّة (Ανάζαρβος=عان زاربوس) في منطقة أوا (Αώα) المعروفة الآن بـ"كيليكيا" في تركيا الحديثة، بدلالة وجود قرية في شمال سوريا تتبع لمحافظة إدلب ما تزال إلى الآن تحمل اسم باب الهوى (أقرأ: باب أوا)، وكأنَّها مدخل إلى منطقة أوا (Αώα)، ولكن مدينة عين زربة ذات أطلال دَارِسة الآن. وكان والد أوبيانوس رجلًا ثريًّا ومثقّفًا ثقافةً فلسفيّةً عاليةً، وتولّى تعليم ابنه.
ألَّف أوبيانوس في أواخر عهد الإمبراطور الرُّوماني ماركوس أوريليوس أَنْطونينوس قصيدة طويلة اسمها "أليفتيكا =(Αλιευτικά)" باللغة اليونانية (="فَنّ صيد الأسماك) في خمسة أجزاء أو فصول، ونُقلت إلى اللاتينية تحت عنوان (Halieutica) ولا تزال محفوظة حتَّى اليوم. أهداها إلى ماركوس أوريليوس أنطونينوس الإمبراطور والفيلسوف الرِّواقيّ الشِّهير صاحب كتاب "التأمُّلات"، فأُعجب أنطونينوس بقصيدة أوبيانوس بشدة حتى أنَّه منحه عملة ذهبية عن كلِّ بَيْتٍ شِعْريٍّ (بلغ عدد الأبيات نحو 3500). كُتبت هذه القصيدة بأسلوب شِعْري مكوَّن من أبيات سُداسية التَّفعيلة، ولقد تمَّ استخدام هذا الأسلوب أساسًا في الملاحم الهوميرية، وكان له تأثير لاحق قويّ في الكتابة الشِّعريَّة باليونانيّة.
تتكوَّن قصيدة "أليفتيكا" من خمسة أجزاء، تصف في مجملها أنواع الأسماك وصفاتها وطبائعها، علاوة على وصف الصَّيادين وطُرق الصَّيد ووظائف الآلهة الأسطوريّة في اليابسة والبحر، لكن بأسلوب مُدهش أثر بروائيين من أكبر المبدعين مثل الرِّوائي الأمريكيّ هيرمان ميلفل.
مات أوبيانوس شابًا في الثلاثين من عمره، لكن كان المؤسِّس الحقيقي لأدب البحار الممزوج بالشِّعر منذ القرن الثاني الميلاديّ، على نحو يفوق ما كتبه كبار الشُّعراء والأًدباء الأوروبيين. ويمكن للمتأمِّل في قصيدة أوبيانوس "أليفتيكا" أن يستخرجَ منها معجمًا نادرًا عن أسماء الأسماك وكائنات البحر، هذه الأسماء التي ترجع إلى اللغة الفينيقيّة، لكن نُقِلت إلى اليونانية ثم اللاتينيّة، وانتقلت بعدها إلى اللغات الأوروبيّة بطريقة طَمَسَتْ أصولَها الفينيقيّة.
هذا، وآثرتُ أنَّ أختار مقطعًا شعريًّا من كلّ جزء من هذه الأجزاء الخمسة التي تُكَوِّن قصيدة "أليفتيكا" الطَّويلة من أجل إظهار الرُّوح الشِّعريّة العميقة لـ"أوبيانوس" قدْر الإمكان. ولقد اعتمدتُ على النشرة الآتية:
OPPIAN COLLUTHUS TRY PHIODORUS WITH AN ENGLISH TRANSLATION BY A. W. MAIR, D.LITT. PROFESSOR OF GREEK, EDINBURGH UNIVERSITY LONDON: WILLIAM HEINEMANN LTD NEW YORK: G. P. PUTNAM’S SONS MCMXXVIII.,p.200-458.
فَنُّ صيدِ الأَسْمَاكِ
(إهداء إلى الإمبراطور ماركوس أوريليوس أَنْطونينوس)
مقطع من الجزء الأول
سأتحدَّث عن قَبَائِل البَحْرِ، وَصُفُوفِ الأَسْمَاكِ المُتَنَوِّعَةِ،
سأُخْبِرُ عن الذُّرِيَّةِ السَّبَّاحةِ لِـ"أَمْفِتْرِيتَ (Amphitrite) [1]،
سَأَرْوِي لَكَ، يَا أَنْطُونِينُوسُ، [2]
يَا صاحب السِّيادة المَهِيبَةِ على الأرض؛
عن الكائنات التي تسكنُ فَيْضَانَ المِيَاهِ،
وَأَيْنَ يَحُلُّ كُلٌّ مِنْهَا، وَعن طريقةِ تكاثُرِها فِي الأَعْمَاقِ وَوِلَادَتِهَا،
وعن حَيَاةِ الأسماكِ، وأَحْقَادِهَا، وأَحِبَّائهَا، ومَكْرِهَا،
وَحِيَلِ الصَّيَّادِ اللَّوذَعِيّ البَارِعَةِ—وكُلِّ مَا ابْتَكَرَهُ البَشَرُ
ضِدَّ الأَسْمَاكِ المُحَيِّرَةِ.
يُبْحِرُ الصّيادون فَوْقَ البَحْرِ المَجْهُولِ بِقُلُوبٍ جريئةٍ،
وَقَدْ شَاهَدُوا الأعماقَ الخفيَّةَ، وَبِفُنُونِهِمْ
رَسَمُوا قِيَاسَاتِ البَحْرِ.
رِجَالٌ يَفُوقُونَ البَشَرَ.
(...)
فِي قَوَارِبَ وَاهِيَةٍ يتجوَّلونَ، أَسْرَى لِرِيَاحِ العَوَاصِفِ،
عُقُولُهُمْ دَائِمًا مَعَ الأَمْوَاجِ المُتلاطمةِ؛
دَائِمًا يَرْقُبُونَ السُّحُبَ الدَّاكِنَةَ، ويرتعِدونَ
عِنْدَمَا تُظْلِمُ مَسَارَاتُ البَحْرِ؛ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ
مِنَ الرِّيَاحِ العَاتِيَةِ، وَلَا دِفَاعَ لَهُمْ ضِدَّ المَطَرِ،
وَلَا حِصْنَ لَهُمْ ضِدَّ حَرِّ الصَّيْفِ. وَفَوْقَ ذَلِكَ،
يَرْتَعِدُونَ مِنْ أَهْوَالِ البَحْرِ المُرْعِبَةِ،
حَتَّى وُحُوش البَحْر التِي تواجهُهم
عِنْدَمَا يتوغَّلونَ في أَسْرَارِ الأَعْمَاقِ.
ليس لهم دليلٌ فِي الدَّرْبِ—فَآثَارُ القبائلِ السَّبَّاحَةِ خَفِيَّةٌ—
وَلَا يَرَوْنَ أَيْنَ ستواجههم الأَسْمَاكُ وَتَدْخُلُ فِي مَدَى الأَسْرِ؛
فَلَيْسَ لِلسَّمَكَةِ دَرْبٌ وَاحِدٌ تسلكهُ. فِي خيطٍ وَاهِنٍ
وَخَطَّافَاتٍ برونزيّةٍ مُنحنيَةٍ، وَفِي القَصَبِ وَالشِّبَاكِ،
تَكْمُنُ قُوَّةُ الصَّيَّادِينَ. (...)
لَا حَصْرَ لقبائلِ البحرِ، وَلَا يُدْرِكُهَا عَقْلٌ،
تِلْكَ التِي تتحَرَّكُ وَتَسْبَحُ فِي أعماقهِ،
وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحْصِيَهَا بِيَقِينٍ؛
فَلَمْ يَبْلُغْ إِنْسَانٌ حدودَ البحرِ، وَلَكِنْ إِلَى ثَلَاثِمِئَةِ قامةٍ
أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، يَعْرِفُ البَشَرُ وَقَدِ اسْتَكْشَفُوا الأَعْمَاقَ.
وَلَكِنْ، بِمَا أَنَّ البَحْرَ لا نهايةَ لهُ وَعُمْقُهُ لَا يُقَاسُ،
فَإِنَّ أَشْيَاءَ كثيرةً تَبْقَى خَفِيَّةً، وَمِنْ هَذِهِ الأسرارِ
لَا يَسْتَطِيعُ الفانون أَنْ يَرْوُوهَا؛ فَصَغِيرٌ هُوَ فَهْمُ البَشَرِ
وَواهِنَةٌ قوَّتهمْ.
البَحْرُ المالحُ لَا يُغَذِّي، كَمَا أَظُنُّ، قُطْعَانًا أَقَلَّ
وَلَا قَبَائِلَ أصغرَ مِمَّا تُغَذِّي الأَرْضُ، أُمُّ الخلائقِ.
وَلَكِنْ سَوَاءٌ أكَانَ عَدَدُ الذُّرِّيَّةِ مَحَلَّ جِدَالٍ بين البحرِ والأرضِ،
أَوْ تَفَوَّقَتْ ذريّةٌ على أُخرى، فَالآلِهَةُ تَعْلَمُ يَقِينًا؛
أَمَّا نَحْنُ، فَلَا بُدَّ أَنْ ننحصرَ بِحِكْمَتِنَا البَشَرِيَّةِ.
مقطع من الجزء الثاني
هكذا تَتَجَوَّلُ الأسماكُ وَتَرْعَى، وَهَكَذَا تترحَّلُ قَبَائِلُ البَحْرِ؛
فِي مِثْلِ هَذَا التكاثر، وَفِي مِثْلِ هَذَا التَّنَاسُلِ يَجِدُونَ لَذَّتَهُمْ.
كُلُّ هذه الأُمُورِ، كَمَا أَظُنُّ، قَدْ أَظْهَرَهَا للبشرِ
أَحَدُ الخَالِدِينَ. فَمَاذَا يَسْتَطِيعُ الفانونَ أَنْ يُنْجِزُوا دونَ الآلِهَةِ؟
كَلَّا، وَلَا حَتَّى رَفْعَ قَدَمٍ مِنَ الأَرْضِ،
ولا فَتْحَ الجَوْهَرَتَيْنِ المُشرِقَتين لِلعَيْنَيْنِ.
الآلِهَةُ أَنْفُسُهُمْ يَحْكُمُونَ وَيُدَبِّرُونَ كُلَّ شَيْءٍ،
في بُعدِهم القَريبِ.
وَقَدَرٌ لَا يُزَعْزَعُ يُلْزِمُ البَشَرَ بِالطَّاعةِ،
وَلَيْسَ هُنَاكَ قوَّة وَلَا جبروتٌ يُمَكِّنُ أَحَدًا
أَنْ يَتَمَرَّدَ بكبرياءَ وَيَفِرَّ مِنْ ذَلِكَ القَدَرِ،
كَمُهْرٍ يرفضُ اللِّجَامَ. وَلَكِنَّ الآلِهَةَ الذين فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ
يُدِيرُونَ الزِّمَامَ كَمَا يَشَاؤونَ، وَمَنْ كَانَ حكيمًا يُطِيعُ
قَبْلَ أَنْ يُسَاقَ بِالسَّوْطِ القَاسِي رَغْمًا عَنْهُ.
وَقَدْ منحتِ الآلهةُ أَيْضًا لِلبَشَرِ فُنُونًا ماكرةً،
وَغَرَسَتْ فيهم كُلَّ الحكمةِ.
كُلُّ إِلَهٍ يَحْمِلُ اسْمَ صِنَاعَةٍ أُخْرَى،
حَتَّى تِلْكَ التِي وُكِّلَ إِلَيْهِ حِفْظُهَا بشرفٍ.
وَقَدْ عَلَّمَتِ الآلِهَةُ البشرَ رَبْطَ الثِّيرَانِ وَحَرْثَ الحُقُولِ،
وحصادَ الغَلَّةِ المُثْمِرَةِ مِنَ القَمْحِ.
وَنِجَارَةَ الخشبِ وَبِنَاءَ البيوتِ، وَنَسْجَ القُمَاشِ
مِنْ صُوفِ الغَنَمِ الجَيِّدِ—هَذِهِ كُلُّهَا عَلَّمَتْهَا بَالَاسُ (Pallas) لِلبَشَرِ.
وهدايا أَرِيس (Ares) هِيَ السُّيُوفُ وَالدُّرُوعُ النُّحَاسِيَّةُ،
وَالخُوَذُ وَالرِّمَاحُ، وَكُلُّ مَا تُحِبُّهُ إِنْيُو (Enyo).
وهدايا الإلهات المُلهِمات (Muses) وَأَبُولُّو (Apollo) هِيَ الأَنَاشِيدُ.
هِرْمِيسُ (Hermes) مَنَحَ الفَصَاحَةَ وَالأَعْمَالَ الجَبَّارَةَ،
وَهِفَايْسْتُوسُ (Hephaestus) يسيلُ عَلَى عَاتِقِهِ عَرَقُ مِطْرَقَةِ الحَدَّادِ.
وَهَذِهِ الفُنُونُ أَيْضًا مِنَ البَحْرِ، وَصِنَاعَةُ الصَّيْدِ،
وَالقُدْرَةُ عَلَى تَمْيِيزِ الأَسْمَاكِ الكَثِيرَةِ التِي تسبحُ فِي المِيَاهِ—
هَذِهِ كُلُّهَا مَنَحَهَا إِلَهٌ لِلبَشَرِ؛
حَتَّى ذَلِكَ الَّذِي مَلَأَ أَوَّلًا أحشاءَ الأَرْضِ المُتَصَدِّعَةِ
بِالأَنْهَارِ المُجْتَمِعَةِ، وَصَبَّ البَحْرَ بالمِلْح،
وَزَيَّنَهُ كَإِكْلِيلٍ، وسوَّرَه بِالصُّخُورِ وَالشَّوَاطِئِ؛
سَوَاءٌ أَكَانَ الأجدرُ أَنْ نُسَمِّيَهُ بُوسَايْدُونَ (Poseidon) الوَاسِعَ الحُكْمِ،
أَمْ نِيرِيوسَ (ancient Nereus) القَدِيمَ، أَمْ فُورْكِيسَ (Phorcys)، أَمْ إِلَهًا آخَرَ
يَحْكُمُ البحرَ.
وَلْتَكُنْ قُلُوبُ جميعِ الآلِهَةِ حَانِيَةً،
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أُولِيمْبُوسَ (Olympus)، الَّذِينَ يَسْكُنُونَ البَحْرَ،
أَوِ الأَرْضَ الكَرِيمَةَ، أَوِ الهواءَ،
نَحْوَكَ، يَا حاملَ الصَّوْلَجَانِ المُبَارَكَ،
وَنَحْوَ ذُرِّيَّتِكَ المَجِيدَةِ، وَنَحْوَ جَمِيعِ شَعْبِكَ،
وَنَحْوَ أُغْنِيَتِنَا.
مقطع من الجزء الثالث
تَعَالَ الآنَ، يَا حَامِلَ الصَّوْلَجَانِ، انْظُرْ إِلَى
حِيَلِ الصَّيَّادِ البارعةِ ومغامراتهِ فِي اصطيادِ فريستهِ،
وَتَعَلَّمْ قَانُونَ البَحْرِ، واستمتعَ بِأُغْنِيَتِي.
فَتَحْتَ صولجانكَ يَتَدَفَّقُ البَحْرُ، وتترحَّلُ قبائلُ
مَوَاطِنِ بُوسَايْدُونَ، وَلَكَ تُؤَدَّى كُلُّ الأَعْمَالِ بينَ البشرِ.
مِنْ أَجْلِكَ رَفَعَتْنِي الآلِهَةُ لأكونَ
بَهْجَتَكَ وَشَاعِرَكَ بَيْنَ الكِيلِيكِيِّينَ عِنْدَ مَقَامِ هِرْمِيسَ.
وَيَا هِرْمِيسَ، إِلَهَ آبَائِي،
أَفْضَلَ أَبْنَاءِ حَامِلِ الإِيجِيسِ، [4]
أَحْذَقَ العُقُولِ
بَيْنَ الآلِهَةِ الخَالِدِينَ، أَنِرْ وَاهْدِ وَقُدْ،
وَوَجِّهْنِي إِلَى غَايَةِ أُغْنِيَتِي.
(...)
يَا هِرْمِيسَ، المَجِيدَ فِي المَشُورَةِ،
إِيَّاكَ بِالذَّاتِ يَعْبُدُ الصَّيَّادُونَ.
لِذَا، وَأَنَا أَسْتَدْعِيكَ مَعَ الآلِهَةِ
الَّذِينَ يُعِينُونَ صَيْدَهُمْ، أُتَابِعُ الأُغنيةَ المجيدةَ
لِصَيْدِهِمْ.
مقطع من الجزء الرَّابع
إِنَّ الحُبَّ الرَّقِيقَ يَجْعَلُ الأَسْمَاكَ غَنِيمَةً لِلصَّيَّادِينَ،
فيَجِدُونَ فِي تكاثُرها هَلَاكَها، وَفِي شَغَفِهَا دَمَارًا
يُعَجِّلُ ببوارِها عَبْرَ الرَّغْبَةِ.
وَلَكِنْ أَنْتَ، أَرْجُوكَ، أَيُّهَا الأَقْوَى بَيْنَ المُلوكِ.
حَافِظُ المُدُنِ، أَنْتَ يَا أَنْطُونِينُوسُ،
وَابْنُكَ ذُو القَلْبِ النَّبِيلِ،
أَصْغِيَا بِلُطْفٍ وَاسْتَمْتِعَا بِهَذِهِ المُتَعِ البَحْرِيَّةِ،
التِي زَيَّنَتْ بِهَا الإلهاتُ المُلهِماتُ الكَرِيمَاتُ عَقْلِي،
وَتَوَّجْنَنِي بِهِبَةِ الغِنَاءِ الإِلَهِيَّةِ،
وَمَنَحْنَنِي أَنْ أُعِدَّ لَكُمَا جُرْعَةً جميلةً
لِآذَانِكُمَا وَلِعَقْلِيكُمَا.
يَا حُبًّا قاسيًا، مَاكِرًا فِي النَّصيحة،
يا أَجْمَلَ الآلِهَةِ مَنْظَرًا لِلعُيُونِ،
وَأَشَدَّهَا إِيلَامًا حِينَ تُؤْذِي القلْبَ
بِهُجُومٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعٍ،
تَدْخُلُ النَّفْسَ كَعَاصِفَةٍ،
وَتَنْفُثُ تهديدَ النَّارِ المُرَّ،
بِإِعْصَارٍ مِنَ الألمِ والعذابِ غَيْرِ مُهَذَّبٍ.
سَفْكُ الدُّمُوعِ لَدَيْكَ لَذَّةٌ عذبةٌ،
وَسَمَاعُ الأَنِينِ العَمِيقِ؛
تُشْعِلُ حُمْرَةً مُلْتَهِبَةً فِي القَلْبِ،
وَتُذْبِلُ وَتُجَفِّفُ وَرْدَ الخَدِّ،
تُفْرِغُ العيونَ وتجذبُ العقلَ كُلَّهُ إِلَى الجنونِ.
تُدَحْرِجُ الكَثِيرِينَ حَتَّى الهَلَاكِ،
حَتَّى أُولَئِكَ الَّذِينَ تُلَاقِيهِمْ فِي بَرِّيَّةٍ شَتَوِيَّةٍ،
مُحَمَّلِينَ بِالجُنُونِ؛ فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الأَعْيَادِ تَكْمُنُ لَذَّتُكَ.
فَسَوَاءٌ أَكُنْتَ البِكْرَ بَيْنَ الآلِهَةِ المُباركينَ،
وَنَشَأْتَ مِنَ الفَوْضَى العَابِسَةِ،
بِمِشْعَلٍ شَدِيدٍ وَمُلْتَهِبٍ،
وَأَسَّسْتَ أَوَّلًا قوانينَ الحُبِّ الزَّوْجِيِّ،
وَنَظَّمْتَ طُقُوسَ فراشِ الزَّواجِ؛
أَمْ كَانَتْ أَفْرُودِيتُ ذَاتُ النصائحِ الكَثِيرَةِ،
مَلِكَةُ بَافُوسَ (Paphos)، قَدْ وَلَدَتْكَ إِلَهًا مُجَنَّحًا
بِأَجْنِحَةٍ سَامِيَةٍ،
كُنْ رَحِيمًا وَتَعَالَ إلينا بِلُطْفٍ وَبِطَقْسٍ جميلٍ،
وَبِقِيَاسٍ مُعْتَدِلٍ؛ فَلَا أَحَدَ يرفضُ عملَ الحُبِّ.
فِي كُلِّ مكانٍ تَحْكُمُ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ
أَنْتَ مَرْغُوبٌ ومُهَابٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ؛
وَسَعِيدٌ مَنْ يُرَبِّي ويحفظُ فِي صدرهِ
حُبًّا مُعْتَدِلًا. وَلَا يكفيكَ نَسْلُ السَّمَاءِ
وَلَا نَسْلُ البَشَرِ؛ لَا تَرْفُضُ الوحوشَ البَرِّيَّةَ،
وَلَا كُلَّ نَسْلِ الهواءِ القَاحِلِ؛
تَنْزِلُ تحتَ أغطيةِ الأعماقِ السُّفْلِيَّةِ،
وحتَّى بين قبائلِ الأسماكِ
تُرَتِّبُ سِهامكَ المُظلمةَ؛
لكيلا يبقى شيءٌ جَاهِلًا بِقُوَّتِكَ القَاهِرَةِ،
حَتَّى السَّمكَةُ التِي تَسْبَحُ تحتَ المِيَاهِ.
مقطع من الجزء الخامس
اسْمَعْ وَتَأَمَّلْ، يَا سَيِّدَ الأَرْضِ، أنّهُ ليسَ هناك مُسْتَحِيلٌ عَلَى البَشَرِ أَنْ يَفْعَلُوهُ،
سَوَاء عَلَى الأَرْضِ الأُمِّ أَم فِي الغَمْرِ الوَاسِعِ للبحرِ،
بَلْ حَقًّا خَلَقَ أَحَدُهُمُ البَشَرَ لِيَكُونُوا جِنْسًا
مِثْلَ الآلِهَةِ المُبَارَكِينَ، (....)
كَمْ مِنْ وحوشٍ بريَّةٍ ذواتِ قوَّةٍ جبَّارةٍ
يقهرهُا الإنسانُ ..،
وَكَمْ مِنْ قبائلِ الطُّيُورِ التِي تحومُ فِي السَّحَابِ وَالهَوَاءِ
يَأْسِرُهَا، وَإِنْ كَانَ قَصِيرَ القَامَةِ!
لا تَحُوْلُ شجاعةُ الأسدِ دونَ هزيمتهِ،
وَلَا يَحْمِي النَّسْرَ جَنَاحَاهُ السَّرِيعَانِ.
حَتَّى الوُحُوشُ الهِنْدِيَّةُ،
ذَواتُ الجِلْدِ الدَّاكِنِ وَالوَزْنِ الهَائِلِ،
يُخْضِعُهَا البَشَرُ لقوَّةٍ طاغِيَةٍ،
وَيَضَعُونَهَا تحت النِّيرِ
لِتَقُومَ بِعَمَلِ الجَرِّ الصَّبُورِ مثل البِغال.
ووحوشُ البَحْرِ الهائلةُ التِي تُرَبَّى
فِي مَسَاكِنِ بُوسَايْدُونَ، أُؤَكِّدُ،
لَيْسَتْ أَقَلَّ شَأْنًا مِنْ أولادِ الأَرْضِ المُفْتَرِسَةِ،
بَلْ فِي القوَّةِ وَالحَجْمِ،
تتفوَّقُ أهوالُ البحرِ الجريئةُ،
هُنَاكَ عَلَى البَرِّ سُلَالَةُ السَّلاحِفِ
التِي لَا تعرفُ الشَّجاعةَ ولا الأذى؛
لَكِنَّ سُلَحْفَاةَ البحرِ لَا يستطيعُ أَحَدٌ
أَنْ يُوَاجِهَهَا بثقةِ بين الأَمْوَاجِ.
هناك كلابٌ شرسةٌ على الأرضِ الجافَّةِ،
لَكِنْ لَا يستطيعُ واحدٌ منها
أَنْ يُنَافِسَ كِلَابَ البَحْرِ فِي الوَقَاحَةِ.
مرعبٌةٌ عَضَّةُ النَّمِرِ البَرِّيِّ،
لَكِنَّ عَضَّةَ نَمِرِ البحرِ أكثر رعبًا.
تَسِيرُ الضِّبَاعُ عَلَى الأَرْضِ الجَافَّةِ،
لَكِنَّ تِلْكَ التِي فِي الأَمْوَاجِ أَكْثَرُ فَتْكًا.
خَرُوفُ الرُّعَاةِ حَيَوَانٌ وَدِيعٌ،
لَكِنَّ مَنْ يقترب مِنْ خِرَافِ البحرِ
لَنْ يجدها لَطِيفَةً فِي المواجهةِ.
أَيُّ قُوَّةٍ يملكها الخنزيرُ البَرِّيُّ
مُقَارَنَةً بقوَّةِ اللَّمْنَا (Lamna) [5] غَيْرِ القَابِلَةِ للهزيمةِ؟
أَيُّ شَجَاعَةٍ تتأجَّجُ فِي قَلْبِ الأَسَدِ
لِتُشْبِهَ شجاعةَ القَرْشِ المضطرب؟
أَمَامَ الفُقْمَةِ ذاتِ النَّظَرَاتِ المُرْعِبَةِ،
ترتعدُ الدِّبَبَةُ المتوَّجَةُ بِالفَرْوِ عَلَى البَرِّ،
وعندما تُوَاجِهُهَا فِي المَعْرَكَةِ، تُهْزَمُ.
هذه هي الوحوشُ التِي تَعِيشُ فِي البَحْرِ.
وَلَكِنْ، حَتَّى لَهَا،
ابتكرَ جِنْسُ البَشَرِ الجَرِيءُ
بَلَاءً عظيمًا، ويهلكون
عَلَى أَيْدِي الصَّيَّادِينَ،
عِنْدَمَا يَعْزِمُونَ عَلَى محاربةِ وُحُوشِ البَحْرِ.
سَأَرْوِي لَكُمْ طريقةَ صيدِها
بِمَشَقَّتِهَا الثَّقيلةِ.
فَأَصْغُوا بِلُطْفٍ، يَا مُلُوكَ الأَرْضِ،
يا دعائمَ الأُولِيمْبُوسَ.
الحواشي:
[1]-أَمْفِتْرِيتَ إلهة البحر وزوجة إله البحر بُوسَايْدُونَ.
[2]-يقصد الإمبراطور الرُّومانيّ ماركوس أوريليوس أَنْطونينوس.
[3]-يقصد كومودوس وهو ابن الإمبراطور أنطونينوس.
[4]- حامل الإيجيس هو لقب للإله زيوس، إله السَّماء والرَّعد في الميثولوجيا اليونانية. الإيجيس (Aegis) هو درع سحري يُنسب إلى زيوس، ويُرمز إليه غالبًا كدرع مُزَيَّنٌ برأس ميدوسا. ولذلك، فإن أوبيانوس يعني بـ"أبناء حامل الإيجيس" أبناء زيوس، من الآلهة من الذين يذكرهم في قصيدته.
[5]-نوع شرس جدًّا من أسماك القرش من جنس الماكريل (mackerel).