قبل عام بالضبط، وفي محاضرة جمعت حركات طلابية داعمة لفلسطين ضمّت مشاركين أتوا من 20 دولة حول العالم وأكثر، قلت للطلبة الآتي:
«أنتم تصنعون معرفة جديدة للكوكب، تبتكرون ما لم يكن العالم يعرفه مسبقاً من تكتيكات ووسائل للتنظيم والضغط السياسي. في جامعتي السويدية، كنا بدأنا منذ شهور باستخدام ديسكورد لتنظيم الاحتجاجات والتوافق حولها، وأعلم أن كل حركة منكم تستخدم أدواتها الخاصة. بعد فترة من الوقت، سيأتي الباحثون لفهم طريقة استخدامكم لهذه الأدوات الجديدة وتحويلها إلى معرفة منظمة وقابلة للتناقل».
كشخص من جيل الألفية، أبهرتني مشاهدة أجيال أصغر تستخدم منصة ديسكورد للتواصل السياسي في نهايات عام 2023، كان ذلك قبل عام ونصف من الاحتجاجات الأخيرة في كينيا ونيبال والمغرب، وما قلته للطلبة ليس دلالة على التنبؤ المبكّر للفعالية السياسية لمنصة ديسكورد، لكنه ببساطة فهم للدورة التطورية لأدوات التواصل السياسي والاحتياجات الاتصالية للحركات الاجتماعية.
هذه المنصة هي جزء مما لا نعرفه عن الحركات الاجتماعية المتفاعلة حالياً في مساحات لا نراها عادة كباحثين وصحفيين لأننا اخترنا ذلك. خصوصاً وأنّ مجالَي الصحافة والبحث في العالم العربي ما يزالان غير مهيئين للتأقلم مع البيئة الرقمية وفهم طبيعتها المتغيرة بسرعة، ناهيك عن اعتزال هذين المجالين النزولَ إلى الميدان بطريقة تُخِلّ بمهارات الاكتشاف والتعلّم من المستجدات والمتغيرات لدى الفاعلين السياسيين، بما فيهم الفئات الشابة والحركات الاحتجاجية الناشئة.
تُناقَش منصة ديسكورد ويتناقل أخبارها الصحفيّون باعتبارها مكاناً معقّد التكنولوجيا يستدعي الشرح والتفسير، خصوصاً وأنّ محاولات فهم المنصة تعتمد على ما كُتب ويُكتب عنها في محركات البحث، فهي «تأسّست أصلاً لتجمع المهتمّين بالألعاب الرقمية وتُستخدَم عموماً من قِبل الأجيال الصغيرة عمرياً» (جيل زِد كمثال). إلا أنّ ارتباط تأسيسها بعالم الألعاب[1] لا يشترط استخدامها لهذه الغاية فقط في يومنا هذا. وحتى لو افترضنا ذلك، فقد دأب الإنسان على استخدام الأدوات بطرق مختلفة، تماماً مثلما يحاول المرء فكّ البرغي بملعقة طعام. لذلك، قد تُبدي بعض المنصّات فعالية سياسية غير متوقعة في أماكن أخرى قريباً حول العالم، فالحاجة أم الاختراع كما أثبتت التجارب.
تساهم النقاشات السطحية التي تتناول هذه المنصة ومستخدميها في رسم صورة متخيّلة وتحليلات متسرّعة تتّخذ أحياناً هيئة المقارنة بين الذكاء المُفرط لهذه الأجيال الشابة وغباء أو جهل الأجيال الأكبر عمرياً، الأمر الذي أدّى لنشوء مساحة مثل ديسكورد بعيدة عن الأنظار. لكن بنظري، لا يتعلّق الأمر بذكاء جيل وغباء آخر، وإنما بميل لدى مجموعة من البشر نحو الانفتاح على تجارب جديدة يتضافر مع ظروف معينة. هذا ما قدّمته وسائل التواصل الرئيسية فيسبوك وتويتر عام 2011 لجيل الألفية في أثناء الربيع العربي حين كانت وسيلة التواصل الأساسية لتلك الثورات. ويمكننا أن نعتبر الموجة الخضراء في إيران عام 2009، كانت المرحلة التجريبية لفعالية التواصل السياسي والتنظيمي عبر هذه المنصات والوسائل. إذ اعتمدت هذه موجة الاحتجاجات حينها بحجم كبير على النشر والتحشيد والتنظيم عبر منصات لم تصلها السلطة بعد. لم يكن جيل الألفية آنذاك أكثر ذكاءً أو ابتكاراً من الأجيال التي سبقته، والتي بدورها كانت أيضاً قادرة على التأقلم مع أدوات التواصل في حينه.
على أية حال، ورغم أن الأداة جديدة، يمكننا القول إنّ منصة ديسكورد واحتجاجات المغرب ونيبال لم تُقدّم أي جديد مختلف عما جرى منذ عام 2009 إلى اليوم من حيث التواصل السياسي. إنّ ما جرى هو الانتقال من مساحة رقمية إلى أخرى ولكن دون إحداث أي اختراق في معايير ما يُعرف بـ«دورة الاتصال السياسي»[2].
تبدأ دورة تبنّي أدوات اتصال جديدة في وسائل الاتصال السياسي بما يُعرف بـ«الحتمية التقنية»، وهي حصول ابتكار جديد في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، ثم تغدو هذه التكنولوجيا أكثر شيوعاً بين فئة مجتمعية معيّنة، ثم قابلة للاستخدام السياسي، ومن ثم تظهر محاولات أولية لفاعلين سياسيين لاستخدام هذه التكنولوجيا. أما المرحلة الثانية في الدورة فتنطلق مع الاستخدام السياسي الناجح لهذه التكنولوجيا، ونسخه على نطاق أوسع. أما المرحلة الثالثة فتدعى التثبيت أو الاستقرار، وهي تبدأ بتثبيت نظام الاتصال السياسي عبر سياسات ومعايير ومؤسسات جديدة.
على مرّ التاريخ، يمكن تلخيص معظم الاختراقات الرئيسية فيما يتعلق بالابتكارات الجديدة للتكنولوجيا والاستفادة منها في التواصل السياسي واسع الانتشار على النحو كالآتي: الطباعة، والراديو والتلفزيون، والبث عبر الأقمار الاصطناعية، والإنترنت، والهواتف المحمولة، ووسائل التواصل الاجتماعي. إنّ مزج ثلاث تكنولوجيات رئيسية هي الهواتف المحمولة والوصول السريع للإنترنت وهياكل منصات تواصل الاجتماعي، فتح الباب أمام تفاعلات سياسية رقمية تصل للأفراد على نحو مخصّص ويتفاعلون معها على نحو مخصّص أيضاً.
إن تجميع عدد من الناس من خلفيات متنوعة على نقاش معين، وتحويل هذا النقاش إلى فعل عملي على الأرض لا رأس له ينخرط فيه المئات أو الآلاف فجأة ودون تحضير مُطوّل، وبمطالب واسعة غير مُحددة، يُسمّى في قاموس الحركات الاجتماعية بـ«الفعل الترابطي (connective action)» وهو يحتاج إلى فضاء عام بهامش حريّة مناسب، غير مُسيطَر عليه من قبل قوى الهيمنة التقليدية، وبعيد عن الرقابة والتحكّم، ويسهُل إشراك أعداد كبيرة فيه.
لم تعد منصات التواصل القديمة (فيسبوك وتويتر) تُقدّم هذا الفضاء، فالقوى التقليدية أصبحت تُسيّر جيوشاً من الذباب ودوريات الشرطة الإلكترونية، كما لحقت سلطة العائلة أيضاً الأفراد إلى منصات التواصل الرئيسية. بالإضافة إلى قوانين الجرائم الإلكترونية التي تكبّل حرية التعبير، والخوارزميات التي أصبحت أكثر تحكّماً بالنقاش، فما عادت الكفاءة السياسية للأفعال الترابطية على هذه المنصات كالسابق، وهذا ببساطة سيدفع الناس للبحث عن بدائل.
كما أنّ الانخراط في النقاش السياسي والتصويت والتحشيد، ومتابعة ونشر قضايا الفساد والانتهاكات، وغيرها من وسائل الوصول إلى المعلومات السياسية ونشرها من قبل مواطنين وأفراد في المجتمع جميعها أنشطة تُعرف بـ«المواطنة الرقمية»[3]، وهي ظاهرة نشأت وترسّخت مع انتشار الإنترنت، لا شيء يخترق المنظومة التي تترسّخ منذ بداية ظهور الإنترنت بعد.
وبما أن منصّة ديسكورد لم تأت باختراق تكنولوجي مقارنة بالمنصات الاجتماعية الأخرى، وما جرى فيها لا يتعدّى كونه إعادة لتطبيق معايير وسائل التواصل الاجتماعي السابقة على منصة مختلفة، فهي ما تزال ضمن امتداد ما فعله جيل الألفية مسبقاً ولم تحمل أي جديد يُذكر في كسر الدورة التواصلية وتبنّي أدوات تقنية جديدة لم يعتد عليها الفضاء العام. الأمر أشبه بموجات الراديو التي بدأت بالـAM وأصبحت FM، لكن الراديو كأداة وطريقة التواصل السياسي من خلالها لم يتغيرا.
لن تتوقف الحركة داخل المجتمع. فهي لم تُخلَق على يد الشبكات الاجتماعية أو منصات التواصل كما يرغب بعض الصحفيين بالترويج لهذه السردية، وإنما ساهمت في تسيير النقاش فقط. أما التواصل السياسي فهو يعمل بمنطق واحد، منطق التغيّر الدائم في الأدوات، أما الحركات الاجتماعية ومطالبها هي الثابت هنا.
هوامش:
[1]: وفقاً لجيسون سِترون، أحد مؤسسي منصة ديسكورد، لم يكن في بالهم عند إطلاق المنصة عام 2015 استهداف جمهور معيّن، إلا أنّ مجتمع محبّي الألعاب الرقمية عبر الإنترنت جنح إلى استخدام المنصة لهذه الغاية تدريجياً على نحو تلقائيّ.
[2]: Epstein, B. (2018). The only constant is change: Technology, political communication, and innovation over time. Oxford University Press.
[3]: Herrera, L., & Boutieri, C. (2014). Wired citizenship: Youth learning and activism in the Middle East. Routledge.