هذه القصة هي قصة جسدي أو هي قصة من قصص جسدي. الجسد أحيانًا يروي قصصًا مبهرة غريبة لا يفسرها العلم بسهولة، ولكنها تحتاج الإحساس، والتعامل مع الجسد على أنه عاقل، وحكيم، وحي يشعر، ويفكر.
منذ طفولتي، وأنا أعاني من السمنة. كان والدي يتشاجر كثيرًا مع والدتي كونها لا تجبرني على إنقاص وزني في سن صغيرة، وبالفعل ذهبت بي لإرضائه إلى طبيب متخصص في إنقاص الوزن عندما كنت في الثانية عشرة من العمر. كتب الطبيب لي نظامًا غذائيًا تبعته، ونقص وزني بسرعة، ونزل إثني عشر كيلو غرامًا، حينها أصبت باكتئاب شديد، وانقطعت دورتي الشهرية. وأمي التي تعاني كثيرًا من الهوس بكل ما يخص العذرية، شكت بي عندما انقطعت دورتي الشهرية، ولكن لم تأخذني إلى طبيبة نساء وتوليد لترى إن كنت حاملًا أم لا، فقد ربطت ما بين انقطاع الدورة الشهرية وبين الحمية الغذائية، ولكن الشك لم يغادرها، وأعلنت لجدتي عنه أمامي.
عندما توقفت عن الحمية الغذائية عدت لأكتسب الوزن مرة أخرى، وبعد اكتسابي للوزن مرة أخرى عادت لي دورتي الشهرية. بعدها بعامين، قررت أن أقوم أنا بحمية غذائية تعتمد على السعرات الحرارية. وبالفعل نقص وزني بقوة، وصار جسدي رشيقًا، ولكنني أصبت باكتئاب شديد جدًا، ولأول مرة في حياتي فكرتُ في الانتحار. طفلة في الرابعة عشر من العمر تفكر في الانتحار؛ لأنها ترى حياتها لا تساوي شيئًا إن كانت سمينة؛ لأن والدها قال لها إن قيمتها في جاذبيتها كامرأة، والتي تكتسبها من رشاقتها.
وحدثت لي حالة من الأكل الهستيري بدون قدرة على التوقف حتى التقيؤ. كنت آكل كميات رهيبة دون قدرة على التحكم، ولا يوقفني إلا التقيؤ الشديد. اكتسبت وزنًا زائدًا أكثر، وتخطيت التسعين كيلوغرامًا في سن الخامسة عشرة. قررت بعد هذه التجربة أن أقلع تمامًا عن محاولات التخسيس رغم إصرار والدي، ومهما كان والدي يُبكيني لأجل أن ينقص وزني لم أكن أهتم.
كبرت وتبنيت أفكارًا نسوية ترفض أن يُرى جسدي كإغواء للرجال، كما رفضت منهج أمي التي ترى جسدي ملكية لهم بالزواج. كان أبي وأمي يمثلان نموذجين مختلفين؛ كل نموذج منهم يراني جسدًا بطريقة أو بأخرى. نموذج تفكير تنتمي له عائلة والدي يرى أن الأنثى يجب أن تكون جذابة للرجل، ونموذج تفكير تنتمي له عائلة أمي يرى أن الأنثى يجب أن تحفظ جسدها، وغشاء بكارتها للرجل الذي يحق له امتلاكه، وامتلاكها.
في ثورتي على فكرة التخسيس، بقيت سنوات لا أقبل قط أن أحاول إنقاص وزني حتى بلغت السادسة والعشرين من العمر، حينها كنت أقترب من والدي بسبب توتر علاقتي بأمي، وخضعت لضغوطه، وأقدمت على عملية تخسيس بوضع كبسولة داخل معدتي لكنها تسببت بإغلاق معدتي بالكامل لأن جسدي رفضها، وبقيت في المستشفى أصرخ لمدة أسبوع متصل من آلام لا توصف، ولا يصدقني فيها أحد؛ لأن أحدًا لا يصدق ألم النساء. النساء محرومات من التعبير عن الألم؛ لأنهم دمى مملوكة للرجال؛ وإذا صرخت الدمية فستتهم بأن صرخاتها مزيفة. أنكر الأطباء تمامًا إمكانية أن أموت، وأنا أصرخ، وأخبرهم بأنني سأموت؛ لأن جسدي رفض كل أشكال الطعام والماء تمامًا، وتزامن ذلك مع آلام لا توصف، لا يخففها إلا المورفين المركّز. استخدمت مهارتي البحثية، ولأول مرة قرأت أبحاثًا أكاديمية خارج مجال الآداب، وداخل مجال الطب. عرفت من الأبحاث أن حالتي غالبًا من الحالات التي رفضت فيها الكبسولة، وأن المعدة غالبًا أغلقت تمامًا بسبب رفضها لها. صرخت في الأطباء، وأصررت على أن يتم انتزاع الكبسولة من معدتي. وقلت لهم إنهم إذا لم يفعلوا فسأخرج من المستشفى، وأنتزعها في مستشفى أخرى، وفعلوا ذلك ليكتشفوا في عملية المنظار التي أخرجوا فيها الكبسولة أن المعدة أغلقت تمامًا على الكبسولة؛ و أنني فعلًا كنت سأموت إذا لم أخرجها.
بعدها بعامين، أصبت بفيروس كورونا، وحدث لي شيء نادر جدًا حيث اكتسبت وزنًا زائدًا للغاية بدون أي سبب واضح، وبدون القدرة على تناول الطعام لأنني أصبت بمشكلة بالمعدة أثناء إصابتي بكوفيد. حاولت بعدها التخسيس مرة أخرى، وفشل التخسيس، فاستسلمت للزيادة الغريبة غير المفسرة علميًا التي حدثت أثناء إصابتي بكوفيد. حيث ازداد وزني بمعدل يزيد عن الكيلو جرام يوميًا بشكل منتظم لمدة شهر!
بعد ثلاث سنوات من قصة زيادة وزني في كوفيد بدأت علاجًا نفسيًا للصدمات. بدأت العلاج بالحديث عن صدمة أمي في موضوع العذرية، وصدمات لها علاقة بحالات التحرش التي تعرضت لها. حينها، حدث شيء غير متوقع على الإطلاق، نقص وزني بشكل متسارع مستمر دون إرادة مني. ذهبت إلى طبيبة أنظمة غذائية لأسألها كيف يحدث ذلك؟ كيف ينقص وزني بدون إرادة مني بهذه الطريقة وبدون سبب؟ وحكيت لها القصة المقترنة بجسدي لتخبرني بأقوى تحليل لم يكن ليخطر ببالي قط.
قالت لي أنه في حالات نادرة جدًا يصر الجسد على تسمين نفسه كإجراء حماية ضد الانتهاك بعد حوادث الاعتداء الجنسي. أخبرتني أن جسدي منذ أن قالت أمي لي إنه ملك لرجل مقترن بالعذرية، قام بحماية نفسه من فكرة تملكه من رجل عن طريق تسمين نفسه، وجعله غير مرغوب فيه للرجال. وأخبرتني أنه مع التحرشات الكثيرة كان جسدي يدرك أنه معرض للانتهاك، والاستغلال الجنسي من الرجال، فكان يحمي نفسه بتحويل نفسه إلى شكل غير مرغوب فيه.
وعندما توقفت، وفكرت، وجدت أنني حتى عندما ازداد وزني في فترة كوفيد، كان ذلك مقترنًا بعدد من حوادث التحرش الصعبة التي تعرضت لها في هذه الفترة. ووجدت العلاقة ما بين جسدي، وما تعرضت له. أدركت أن علاج الصدمات نتج عنه إخراج كمية الخوف الداخلية من جسدي، ومواجهتي للمخاوف التي زرعتها أمي، وأكدها المتحرشون. إخراج هذه المخاوف —حتى وإن تسبب لي في إشكاليات نفسية وجسدية أخرى— فهو حرر جسدي من خوفه من الانتهاك، ومن التشييء، ومن التمليك.
ثبت لي أكثر هذا التحليل عندما تعرضت لحادثة تحرش لاحقة على علاج الصدمات؛ لأنه بمجرد حدوث هذه الحادثة أعاد جسدي اكتساب الوزن الذي خسره أثناء علاج الصدمات بسرعة، وبدون سبب. تأكدت حينها أن جسدي يكتسب الوزن نتيجة لدفاعه عني من منظور له علاقة بتمليكي، وانتهاكي لكن الأكثر أهمية أن جسدي لم يكن يدافع عني فقط من التحرش حتى لا أُنتَهَك، ولكنه كان يدافع عني من الانتحار!
كيف كان يفعل جسدي ذلك عندما أتعرض للتحرش؟
اللاوعي الخاص بي يترجم التحرش كنوع من الخطيئة الخاصة بي أنا، لأن أمي غرست داخلي أنني إن تم التحرش بي أو انتهاكي فأنا المسؤولة. وأتذكر أن أول مرة فعلت ذلك عندما قالت لي عند بلوغي أن خوفي من فقدان غشاء البكارة معناه أن أحدهم انتهكني، وإن كان أحدهم قد انتهكني قبل التاسعة من عمري فهي خطيئتي! قالتها لي بفظاظة؛ فترسب داخلي منذ طفولتي أن كل انتهاك هو خطيئتي أنا، وبما أنها خطيئتي فأتحول إلى زانية، وبتربيتي الدينية وبتربية والدتي الاجتماعية، فالزانية يُحكَم عليها بالجلد أو الرجم أو القتل في جريمة شرف. وحينها أرى نفسي أستحق الانتحار بمجرد تعرضي للتحرش. يقوم جسدي بالدفاع عن نفسه ضد هذه الصورة، ومن رغبتي في الانتحار عن طريق تحويلي إلى جسد غير مرغوب فيه.
وبهذه الطريقة يحميني جسدي من التعرض للانتهاك الذي يسيء لصورتي عن نفسي. إنها عملية معقدة غير واعية مرتبطة بنظرتي لنفسي، التربية المجتمعية، والدينية التي تربيت عليها، الانتهاك، التملك، وتفاعل الجسد معهم. قد لا يصدق الكثيرون هذه القصة ولكن هذه القصة حقيقية، وهي قصة جسدي. ويكفي أن أقول لكم إنني أمضيت سنوات طويلة توقفت فيها عن تناول الطعام تمامًا لأيام متصلة بلا توقف حتى أنقص وزني، ورغم التجويع الذي أمضيته لسنوات لجسدي، كان جسدي يزداد وزنًا ولا يهتم. إذا لم أمنح جسدي الطعام، كان يختزن الماء كبديل حتى يظهر شكلي سمينًا!
جربت كل أشكال أنظمة التخسيس بلا جدوى. منظومتي الغذائية لا تحتوي على أي سكريات، ولا لحوم، ولا دجاج، ولا بطاطا، ولا سمك. ورغم ذلك وزني لا ينقص. أتبع منظومة سعرات حرارية منتظمة منذ الأزل، ووزني لا ينقص. وفيما يخص حركتي؛ فأنا رياضية كثيفة ممارسة الرياضة منذ الطفولة.
والمبهر أكثر أن جسدي يُدَان. بمعنى أنني مع كل ما رويته كان يُنظَر إلي باستغراب. كيف يمكن لشخص يمارس هذه الحمية، وهذه الرياضة أن يكون بهذا الوزن؟ ومن لا يعرفني يتهمني أنني مؤكد أهمل تمامًا في طعامي أو لا أتحرك. وكان يُنظَر إلي بكثير من الإساءة من قِبل العائلة، والأصدقاء، والمعارف، وكل من يقابلني، وحتى من لا يعرفني كان يستغل جسدي كطريقة للهجوم علي حتى وإن كان يقصد الهجوم على أفكاري المستقلة الحرة.
تحول جسدي، الضحية المرتعبة، من منظومة تمليك ذكورية إلى مدان تُوجَّهَ إليه الإساءة واللوم بينما يدافع عن نفسه. لا أستطيع أن أنكر أنني لم أتحرر من هذه المنظومة، فما زلت كلما وجدت هذا الدفاع من جسدي باكتساب الوزن بعد التحرشات، أنظر لجسدي بإدانة لأنه يكتسب الوزن، وأنني لست أنثى ولا قيمة لي، ولا قيمة لحياتي لأنني لست جذابة كامرأة. هذه الأفكار غير المنطقية غرست داخلي من عائلة والدي، وتطاردني.
وغرست عائلة والدتي داخلي أفكارًا تدينني على تعرضي للتحرش؛ لأن مجرد تعرضي للتحرش دليل على أنني لست شريفة بما يكفي. والمرأة التي ليست شريفة في منظومة والدتي تستحق القتل. وفي الخلفية يوجد الدين الذي يدينني على وجودي ذاته كامرأة تملك هذا الجسد، ولا تستره. فجسدي في نظر الدين خزي؛ لأنه وجوده هو الخطيئة التي أخرجت حواء بها آدم من الجنة.
أود لو أستطيع أن أحتضن جسدي، أبكي معه، أبكي له، وأبكي عليه.