الإيمان بأن المرأة بلا قيمة، وحياتها لا تساوي شيئًا مغروس بقوة في أصول الديانات، والمجتمعات. كتبت كثيرًا في أماكن أخرى عن أصول فكرة أن حياة المرأة بلا قيمة، وكتبت هنا كيف زرعت أمي داخلي أن حياتي بلا قيمة" لأنها أرادت ذكرًا، وليس أنثى؛ لأن الأنثى عار. ما زرعته أمي جعلني أبحث كثيرًا في العقيدة المخفية داخل الديانات، والمجتمعات الحية عن غياب قيمة حياة المرأة، وعن أهمية قيمة حياة الرجل وغلوها، وأن المرأة لم تُخلق إلا للرجل. ويومًا ما ستُنشر بشكل مجمع أعمالي التي تناولت فيها الجذور العقائدية في قصة آدم وحواء، وفي قصة العذراء مريم، في قصة ميلاد المسيح، وفي قصة ساتي الهندوسية لعدم قيمة حياة المرأة.
أمي نفسها عاشت قبلي فكرة أن حياتها بلا قيمة مقارنة بقيمة حياة الرجل. حرصت جدتي أن تنجب ذكرًا، فبعد إنجابها لأمي، وخالتي حملت مرة ثالثة آملة في ذكر، وعندما أنجبت ذلك الذكر بعد ميلاد أمي بتسع سنوات، وميلاد خالتي بسبع سنوات، كان هناك ولع بفكرة ميلاد الذكر ذا القيمة. تم تدليل هذا الذكر كثيرًا جدًا حتى إنه كان يتلاعب بمسدس جدي ضابط الشرطة، وتسبب لنفسه في إصابة كادت تودي بحياته عندما كان في السابعة. ومرة أخرى تلاعب بذات المسدس حتى أصاب حائط المنزل، ولم يحاسبه أحد. وكان فاشلًا دراسيًا، يحصل على دروس خصوصية، ومرتين حبس مدرسته الخصوصية في المنزل، وأغلق عليها باب الشقة، وهرب من الدرس، ولم يحاسبه أحد! أمي، وخالتي كانتا ناجحتين، وأمي بالذات، كانت متفوقة بشكل نادر. ورغم فشل خالي الدراسي، وعدم مسؤوليته فكان يُكافأ دائمًا لمجرد استحقاقية كونه ذكرًا، فيُشترى له الكثير من السيارات الجديدة، ويُباع كل ما تم شراؤه للبنات لأجل شراء مزيد من سلع الرفاهية له، وتزوج أكثر من مرة بإرادته، وفشل في زيجاته، وأنفق فيها الكثير من الأموال التي تشكل جزءًا محترمًا من ثروة العائلة، ولم يسأله أحد عما فعل.
حتى إنه صار ضابط شرطة كجدي، ولكنه لم يكن ضابطًا ناجحًا على الإطلاق، بل كان يتسبب في الكثير من المشاكل ليحاول جدي بصلاته أن يصلح ما أفسده خالي في جهاز الشرطة، وحتى يتم التسامح مع أخطائه التي لم تكن تشكل جرائم قانونية، ولكنها في النهاية تشكل إهمالًا وعدم مسؤولية كالتي تربى عليها منذ الصغر.
كان خالي يغار مني كثيرًا؛ لأن جدي وجدتي كانا يحباني لأنني عشت معهما. الميراث الذكوري للعائلة، لسبب غير معلوم لم يؤثر تمامًا على علاقتي بجدي وجدتي. فما فعلاه في أمي وخالتي لم يفعلاه معي، بل تركا أمي تفعله بي بديلًا عنهم.
كان لجدتي بعض القصص الذكورية معي مثل رفضها أن أسير بجوارها بملابس ضيقة، واستخدامها لألفاظ خارجة في وصف جسدي عندما أرتدي ملابس ضيقة، ولكن بوجه عام لم يكن جدي وجدتي يُلقيان في وجهي ما ألقياه في وجه أمي، وتركا لها مهمة أن تُلقي هذه الكوارث في وجهي نيابة عنهم. دللت كثيرًا من جدي بشكل خاص. كان ذكوريًا للغاية في تربية أمي وخالتي، ولكنه لم يكن ذكوريًا على الإطلاق في تربيتي أنا، بل كان يعطيني الكثير من الأمان، والحنان.
كان يفخر بي، ويشجعني دائمًا على الكتابة، ويلهمني الأفكار، ويقرأ ما أكتب منذ سن التاسعة. أدين له بالكثير، لكنه عندما مرض بالزهايمر، وكان يختلط عليه الأمر، جاء لي يومًا، وهو يحسبني خالتي ويعود بالذاكرة لوقت زواجها، وقال لي ألا أسمح لخاطبي (الذي يتخيله) أن يقبلني. وفي مرة أخرى عندما كنت أتشاجر على حريتي مع والدتي، وجدتي، قال إنه سيضربني. لم أكن أدرك أن تلك الوقائع الصغيرة علقت بذهني ناحيته رغم كل حبه، وحنانه، وتدليله لي، واهتمامه بي.
نعود لخالي.
خالي الذي أُفسد بهذه التربية، كان يرى دائمًا استحقاقية غير طبيعية على كل شيء تمتلكه العائلة. أفاق جدي، وجدتي في سن متأخرة، وقررا أن يقسما الثروة بالتساوي بين البنتين، والولد، ولا يُعطيا امتيازًا للذكر في الميراث، خاصة أن أمي مطلقة، وأنني مسؤولية أمي، وأن جدي، وجدتي أحباني. يمكن للحب أحيانًا أن يتحدى منظومة الأفكار الذكورية التي تحتوي على غياب القيمة للمرأة. الحب أحيانًا يصنع أشياء ضد المنظومة.
عندما قاما بتقسيم التركة بالتساوي، غضب خالي كثيرًا بل ثار. لم يكن يثور فقط لأنه كان يشعر بأنه لا يحصل على ميراثه الشرعي، ولكنه كان يثور كذلك لأنه لم يعتد قط ألا يحصل على استحقاقية على من سواه. كان يُمارس هذه الاستحقاقية في تفاصيل صغيرة مثل دخوله بيتنا، وأخذه أشياء من البيت مثل قلم أو كوب أو لعبة من ألعابي لمجرد أن يشعر أن كل ما في البيت ملكه. وكان يقولها لأمي كثيرًا.
وكان يقول ذلك لأمي كثيرًا رغم أن ذلك البيت، ومحتوياته أوصت جدتي، وجدي أن يكونوا لأمي حتى لا تُشرد. يوم مات جدي، وجدتي جاء يبحث عن ثياب جدي، وعن كل ما في البيت حتى أطباق الغسيل، وأدوات الطبخ التي مضى عليها ما يزيد على ثلاثين عامًا. لم تكن العائلة فقيرة حتى يفكر بهذه الأشياء، فقد ورث عن جدي، وجدتي ثروة طائلة بمقياس وقت وفاتهما. ولكن الأمر كان استحقاقية عمياء. سألني بينما يُفتش في أغراض جدي إن كنت أريد أن أحصل على أي شيء كتذكار من جدي، فطلبت أخذ عدد من ربطات عنق جدي، فنظر إلي، وقال إن العدد الذي اخترته كثير جدًا، وأخذ بعضًا من الربطات التي اخترتها. كل ذلك، ولم أكن أعي قدر الكارثة التي تُسمى الاستحقاقية، والمزروعة في مفهوم المواريث في الشريعة الإسلامية. فتلك الكارثة جعلته يُجبر جدي، وجدتي على تغيير كل ما أوصوا به بينما هم أحياء ليُعيدوا الميراث لسابق عهده كما تنص الشريعة الإسلامية. وبمجرد وفاتهما، أجبر أمي، وخالتي على بيع كل الأملاك العقارية له مقابل أموال قليلة، ولم تجرؤا على الاعتراض بسبب تربيتهما القمعية الذكورية.
وأقنع أمي أن تأخذ كل المال الذي تركته لي، وتعيده لحسابها البنكي؛ لأنني إن مت قبلها فسيأخذ أبي (بمنظومة التعصيب الذكورية) أموالها التي تضعها في حسابي. أقنع أمي أن تأخذ مالها، وتضعه في حسابها ثانية حتى يرث هو نصفه؛ لأن الأخ يرث نصف الأخت إن كان لها ابنة، وليست ابنًا. في الإسلام قيمة الحياة تُقرر بالميراث، وقيمة المرأة في الحياة تافهة؛ لذلك فإن لم يكن هناك ابنٌ ذكرٌ، فيجب البحث عن أقرب ذكر له قيمة ليرث مع الابنة. وفي حالة أمي كان أقرب ذكر هو خالي. علمت نيته لكنني لم أعترض على إعادة أموال أمي لها في حسابها؛ لأنني لا يمكن أن أفكر في مال أمي، وموتها بتلك الطريقة، علاوة على أني أؤمن بحرية الشخص المطلقة في ماله بلا نزاع.
كنت أرى هذا القدر من الظلم، وأغضب، وأقول لأمي أن تغضب، وترفض ولكن أمي أبت أن ترفض. أبت الاعتراض، ولو مرة واحدة على انتهاكه لحرمة بيتنا، أخذه من ممتلكات البيت أو سلبه لحقوقها مقابل أموال تافهة، بل كانت تعطيه أموالًا إضافية عندما يتمسكن، ويطلب المزيد من المال بينما يمتلك أضعاف ثروتها. قبل أن تموت أمي بأسبوع كان قابعًا في المستشفى يقول إنه سيموت، —وهي طريقة تلاعب نفسي كان يتبعها دائمًا—، جرت أمي عليه وأعطته بعض المال بينما لا يحتاجه، وماتت هي بعدها بأسبوع فجأة بتوقف القلب المفاجئ رغم أنها لم تكن مريضة قلب.
بمجرد موتها جرى على البيت ليسأل: ”أين مناشف البيت؟ أين أواني الطبخ؟ أين أدوات المطبخ؟“ كان يسأل هذه الأسئلة قبل أن تُدفن؛ لأنها دُفنت في اليوم اللاحق لوفاتها. كنت في حالة انهيار كامل؛ لأن أمي ماتت فجأة، ونادتني، ولم أذهب إليها، وهذه قصة قد أرويها ذات يوم بسياق آخر. وسط انهياري لم أكن أستطيع أن أتفهم ما يحدث أو أن أرد عليه، لكنني كنت ألحظ كمية غياب الإحساس النابعة من الاستحقاقية.
لم أتكفل بالرد على أسئلته بخصوص المناشف أو أواني الطبخ أو أدوات المطبخ. بقيت لحزني أنهار، فأبكي، وأصرخ. قبل أن نستأنف القصة، سأعود للخلف قليلًا. ما بين وفاة جدي، وجدتي، ووفاة أمي مضت سبع سنوات. في هذه السنوات السبع، كان أبناؤه يأتون إلى المنزل ليتحققوا من كل شيء به، فإن غابت أي قطعة من المنزل، حتى، وإن كانت طفاية سجائر، كان يتصل بأمي ليسألها عما حدث لطفاية السجائر.
وفي ذات الليلة قبل دفن أمي، كانت زوجته تقتحم غرفة نومي مع صديقاتي طوال الليل لتتأكد أننا لا نمارس الجنس معًا بينما أمي لم تُدفن بعد؛ لأنني —كما قالت عني قبلًا في إحدى النزاعات العائلية— ”شاذة"، والنظرة العائلية لهذه "الشاذة" أنها لا تملك حتى الحد الأدنى من المشاعر، والمبادئ الإنسانية، بل يمكنها أن تمارس الجنس مع أي أحد، في أي وقت، حتى ليلة وفاة أمها!
وكان أبناء خالي يستحلون مال أمي بطريقة تتجاوز حدود الأخلاق أحيانًا. فكانوا يساعدون خالي، ويساعدون والدتهم بينما انهار في التحقيق، والحديث عن الأغراض في المنزل. وقت وفاة أمي جاء عدد من الأصدقاء، ونقلوا جميع الأشياء الثمينة بالمنزل الخاصة بي، ونقلوها لشقة أخرى كان قد استأجرها والدي لي قبل موت أمي؛ لأنني كنت أتعرض لضغوط كثيرة نتيجة تردد خالي، وأبنائه على المنزل، والشجارات التي كانت تنتج عن ذلك.
قام أصدقائي بنقل بعض أغراضي إلى المنزل الآخر، وتركت الكثير من الأغراض في المنزل الخاص بوالدتي، بل تركت أغلب الأشياء، وقلت لخالي إن كان يريد أي شيء فليأخذه. أخذ خالي كل شيء، حتى مكيفات الهواء، والنجف. لم يبقَ أي شيء في المنزل. ترك لي المنزل بلا أثاث، ولا حتى نجف.
كان والدي قد أجر لجدي بيتًا من بيوته ليضع فيه بعض الأثاث القديم، ورفض خالي أن يأخذ الأثاث القديم في المنزل حتى تظل أشياؤه في المنزل الخاص بوالدي كاستحقاقية على هذا المنزل كذلك. لكن بعد وفاة أمي، أصررت أن ألقي الأثاث خارج منزل والدي، وقلت له أن يأخذه، وألقيته خارج المنزل بعنف؛ لأنني لا أرى هذا بيت والدي ملكًا له ولا ملكًا لي حتى، فهو ملك والدي. ثار خالي بقوة، وبمجرد سفري في إجازة جاء مع زوجته، واقتحموا شقة والدتي التي كنت أعيش فيها مع أمي قبل وفاتها، والتي أخلوها من الأثاث تمامًا قبلًا.
اقتحموها، وكسروا الباب، وغيروا قفله حتى يمنعاني من أن أعود إلى شقة والدتي مرة أخرى. هذه الشقة لم تكن جزءًا من الميراث الإسلامي، بل كانت إيجارًا قديمًا يخضع لقوانين خاصة في مصر تجعل من حق أبناء المستأجر الاستمرار في الإيجار لبعض الوقت بعد وفاة المستأجر، ولا يُسمح لغيرهم بالتواجد داخل البيت المستأجر، لكنه شعر باستحقاقية حتى على ما ليس ميراثًا. غضبت بشدة وعدت لأكسر الباب مرة أخرى وأغير القفل، ولكنني أدركت أنني لا يمكنني أن أبقى بدون أثاث، إن كنت سأعود إلى شقة أمي.
ذهبت لشراء أثاث بديل، وبمجرد ذهابي، حضر خالي، وزوجته، واقتحما المنزل مرة ثانية، وطردا من يقومون بتغيير قفل الباب، وطردا المحامين الذين وقفوا على باب الشقة لتأمينها، بل وقامت زوجة خالي بطلب الشرطة لي، واتهامي بمحاولة الاعتداء عليها، وعلى خالي، وعلى أبنائه. تدخل والدي المحامي الكبير، وبقيت مختفية في منزل جارتي لبعض الوقت بينما استطاع أبي المحامي أن يتخلص من هذه الأزمة.
بقيت أشهر طويلة بعيدة عن بيت والدتي، وأجلس في البيت الذي استأجره والدي لي، لأستيقظ في أحد الأيام على خبر شديد الإيلام. توفي خالي. حدث لي انهيار نفسي شديد؛ لأنني لم أُعطَ فرصة أخيرة معه. كنت أود لو أنني كنت موجودة على فراش وفاته كي أخبره أنني أسامحه، لكن زوجته أخفت تمامًا خبر موته، وخبر مرضه قبل موته. خبر وفاته كان صدمة لي.
حقًا كنت أريد أن أمنح فرصة أخيرة لأراه في العناية المركزة حتى، وإن لم يكن يسمعني. كنت سأقول له إنني أسامحه؛ فأنا أتذكر له بعض الأشياء السعيدة مثل اللحظات التي أخذني فيها إلى مدينة الملاهي، وأنا طفلة. أتذكر له أيضًا أنه من عرفني على ”كشري أبو طارق“ أشهر مطعم كشري بالقاهرة، والذي ما زلت أزوره حتى اليوم ربما لأنني أتذكره كلما زرته.
أحن إليه، وأتألم، أتألم بقسوة ولا أسامح زوجته لأنها لم تمنحني فرصة الغفران له أو وداعه الوداع اللائق. أتألم أنني لم أمنح فرصة أن أحضنه مرة أخيرة؛ فأنا أحبه. أول مرة أُصبت بعرض جسماني من الأزمات النفسية حدث بعد عدد ضخم من الصدمات التي لم يقدر جسدي على تحملها في النهاية. أول عرض جسماني حدث لي أنني شُللت بالكامل، وعجزت عن التحرك من السرير لمدة ثلاثة أسابيع متصلة. حدث ذلك بعد وفاة خالي، عندما اكتشفت أن زوجته قامت بإخلاء المنزل من آخر شيء بقي به، وهو مجموعة الكتب المملوكة لأمي. كانت أمي أستاذة جامعية أعطت حياتها للتعليم، وللعلم. لم تمنح نساء العائلة أي حق أو أية حرية إلا حرية التعلم، والعمل. قد يبدو ذلك غريبًا، ولكن نساء عائلتي كن ناجحات جدًا ورائدات فيما يخص التعليم، والعمل. جدتي كانت وكيل أول وزارة التأمينات بمصر، وأمي كانت أستاذة جامعية. وعملت كل نساء جيل أمي في مناصب تُعد رائدة فيها. اقتنت أمي مجموعة ضخمة من الكتب، مئات بل ربما آلاف الكتب داخل منزلنا. لم تصرف مالها إلا على الطعام، والكتب. غني عن الذكر أن ذلك كان له دور كبير في تكويني، وجعلي بهذا القدر من الإنجاز العلمي، بجوار رغبتي أن أثبت أن حياتي لها قيمة بالطبع.
وكان لذلك أيضًا الفضل في كوني متمردة. فالقمع، والتعليم معًا يصنعان التمرد. لا يتمرد مقموع لم يتعلم، ولا يتمرد متعلم لم يُقمع، بل يتمرد المتعلم المقموع.
أفقت يومًا على خبر أن زوجة خالي كنوع من الانتقام، والطمع قامت ببيع مكتبة أمي كاملة إلى تاجر الروبابيكيا. تاجر الروبابيكيا في مصر هو تاجر يشتري الأغراض القديمة، ويعيد بيعها. مكتبة أمي كانت عمر أمي، يوم ضاعت، أدركت أن أمي ماتت، ويومها فقط انهرت على وفاتها.
أُصبت بشلل كامل لمدة ثلاثة أسابيع، ونوبات من البكاء والصراخ الهستيري. عندما استعدت الشقة بعد الصراع لم أستطع أن أغفر ضياع المكتبة. كان يمكن أن أغفر كل شيء إلا ضياع المكتبة، وأنني لم أمنح فرصة مسامحة خالي. هذان الجرحان غائران جدًا. حاولت أن أصلح، وأجبر الجرح، فجريت على تاجر كتب قديمة، واشتريت الكتب التي كانت تقتنيها والدتي، وذهبت إلى معرض الكتاب بالقاهرة، وهو واحد من أكبر معارض الكتاب في الشرق الأوسط، واشتريت بقية مجموعة كتب أمي. استطعت أن أجمع ثلاثة آلاف كتاب من الكتب التي كانت تقتنيها والدتي مرة أخرى، وأسست بهم مكتبة خيرية على ذكراها. استمرت المكتبة لعام ولكنها فشلت لأن الإقبال على القراءة في المكتبات لم يعد كالماضي. عندما فشلت، أخذت ذات المكتبة، ووضعتها في بيتها مرة أخرى. كنت أحاول أن أنقذ ما تبقى من أمي فأنا ما زلت أحبها، وما زلت أدين لها.
قد يستغربني الكثيرون. كيف أسامح خالي؟ كيف ما زلت في هذا الصراع على أمي؟ كيف أحبهما مثل هذا الحب؟ علاقتي بأمي معقدة، فيها البشع في قبحه، وفيها المبهر في جماله، ولا شيء فيها معتدل أو تقليدي. إن كنت لا أغفر لشيء فسيكون المنظومة الدينية، والاجتماعية التي أنتجت غياب القيمة لحياتنا نحن كنساء، وغلو القيمة لكل رجل يولد. أعتقد بقوة أن مفهوم الميراث في الشريعة الإسلامية إن لم يكن موجودًا بهذا القدر من التمييز، لما ظن خالي أن لديه هذا القدر من الاستحقاقية، ولما ظن والديه أن له هذه الاستحقاقية المادية دائمًا وأبدًا منذ طفولته، وحتى وفاته.
قد رحل جدي، ثم جدتي، ثم أمي، ثم خالي، وبقيت أنا. بقيت بالقصة والجروح، وبقيت بفهم عميق لما يمكن أن تصنعه أفكار الفوقية، والذكورية، وبقي جسدي مدمرًا؛ لأنه بعد تلك الحادثة عرف طريق الانهيار مع الصدمات النفسية، وانتظر فرصًا لاحقة في صدمات أخرى ليُعلن انهياره التام، وأنا الآن أعيش بمجموعة ضخمة من المشاكل الجسمانية النابعة من إشكاليات نفسية، مشاكل لا تُعالج. لدي مشكلات مناعية بلا تشخيص، وعلاج الصدمة الذي أقوم به الآن يجعلني أكثر وعيًا لذكرياتي، لعواطفي، ولأفكاري ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يُجبر الضرر الذي حدث. أنا مستمرة في العلاج لأعرف نفسي أكثر، لأفهم، وأحلل أفضل؛ ولأن تحليلاتي للتاريخ الديني، والاجتماعي، والأصول العقائدية للفوقيات قادم من تحليل عميق لصدمات الشخصية. أنا أستمر في علاج الصدمة حتى أستطيع أن أُعطي تحليلًا لم يُعطه أحد قط من قبل؛ لأنه تحليل نابع من آلام تجربة الضحية التي تعي بدرجات عميقة حقيقة الأفكار غير الواعية للمجتمعات، والديانات. ولدي أمنية أخيرة، وهي أن يكون كل ما مررت به من ظلم، ومن ألم له معنى، وهذا المعنى في أن أفكر، أحلل، وأصل لجذور الأفكار. هذا المعنى في المقاومة الفكرية. هذا المعنى في الفلسفة التي تبدأ من الشخصي للعام.