"أنا أحمل جواز سفر أمريكي".
عندما قال أستاذي هذه العبارة لنا، ونحن مجموعة من مجتمع الميم في الجامعة الأمريكية نؤمن تمامًا بالأفكار التي يشجعنا عليها مثل قبول أنفسنا، ومقاومة قمع المجتمع، وعدم الخضوع للأفكار القمعية المرتبطة بالفطرة والطبيعة، وأحكام الدين ضدنا، لم نفهم فحوى عبارته. لم نفهم معنى أن يحمل جواز سفر أمريكي، ونحمل نحن جواز سفر مصري. أول اصطدام بيني وبين هذه الحقيقة كان هروبه من مواجهة الدولة المصرية عندما قررت أن تفتك بنا.
هذه المرة الأولى التي أصطدم فيها بفكرة جواز السفر الأمريكي، وصراع الهوية المصطنع بين أن تكون مصريًا، وألا تنتمي بأي من هوياتك الأخرى لما يقبله المجتمع المصري، لكنني لم أدرك تمامًا المعنى العميق، والأكثر بشاعة للفروق بين الجواز الأمريكي والجواز المصري في ذلك الوقت. أدركتها بعدها بسنوات في حادثة لم يخطر ببالي قط أنني قد أتعرض لها في يوم من الأيام.
حادثة الترحيل
قبل أن أروي قصة الترحيل، سأروي تجربتي مع السفارات والقنصليات الأجنبية عندما أحاول أن أستخرج تأشيرة للسفر إلى أوروبا أو الولايات المتحدة أو أستراليا أو المملكة المتحدة أو غيرهم الكثير. أنا أسافر كثيرًا؛ لأنني أكتب كتابًا مثل كتاب ابن بطوطة. أحاول أن أكتب كتابًا يتضمن حكيًا شخصيًا يدمج بين الفلسفة، وعلم الأنثروبولوجيا، وأجمع حرفًا تقليدية من مختلف دول العالم لأؤسس متحفًا للحرف التقليدية، علاوة على تصديقي بأن الفيلسوف إن لم يسافر فلن يتعلم أي شيء.
سافرت حتى الآن إلى إحدى وعشرين دولة. عندما كنت أزور القنصليات والسفارات الأجنبية لأستخرج تأشيرة — سواء للسفر الخاص بجولاتي حول العالم أو حتى لحضور المؤتمرات البحثية — دائمًا ما كنت أصطدم بكمية الأوراق المطلوبة مني. الأوراق التقليدية المطلوبة من أي شخص ينتمي لدول العالم الثالث هي كشف حساب بنكي، خطاب من جهة العمل، حجوزات الفندق، حجوزات الطيران، وبرنت تأميني. كذلك كان يُطلب مني في بعض السفارات أوراق غريبة جدًا. مرة طُلب مني جواز سفر أمي المتوفاة، وجميع الأوراق التي تشير إلى الدول التي سافرتها أمي قبل وفاتها.
وفي النموذج الخاص بالتقديم على التأشيرة، كنت أُسأل أسئلة تشكل أزمة في مصر مثل نوعية الوضع الاجتماعي لي: متزوجة أم غير متزوجة؟ أم لدي رفيق أو رفيقة؟ إلى آخره. وفي أوقات كثيرة كنت أعجز عن التعامل مع كمية الأوراق المطلوبة. ففي الفترة ما بين التخرج في الماجستير، والالتحاق بالدكتوراه، لم أكن أعمل لأنني أحتاج وقتًا للتركيز في التقديم على الدكتوراه. وفي ذات الوقت كنت سألتحق بدكتوراه عن بعد، فأنا غير مسجلة للإقامة في دولة الدكتوراه، ولذلك كان الأمر عسيرًا، فأنا لا أملك وظيفة ثابتة لأنني أركز في الدراسات العليا.
وأستطيع أن أقول إنني أمضيت أسابيع متصلة في العمل على التأشيرات المختلفة. وكنت أشعر بالإهانة، خاصة في التقديم على تأشيرة الولايات المتحدة من كمية إذلال الوقوف لساعات متصلة أمام أبواب السفارة حتى الدخول. ولكن كل هذه الإهانة لم تكن لتفهمني حتى النهاية معنى أن أحمل جواز سفر مصري أو ألا أحمل جواز سفر أمريكي. ربما هو غباء مني أنني لم أفهم في موقف الأستاذ الذي استطاع الهرب، وتركنا نواجه مصيرنا، أو في موقف التأشيرات ماهية وقيمة جوازات السفر. كنت أحتاج إلى صفعة محترمة حتى أفهم ما لا أريد أن أعيه. جاءت الصفعة المحترمة في سفرية لم يكن ببالي قط أنني قد أواجه هذه الصفعة فيها.
كنت ألتحق بتطوع في بناء منازل محطمة من الزلازل في إحدى دول أمريكا اللاتينية، سأسميها الدولة (1)، وتقدمت لسفارتها بطلب تأشيرة، وواجهت صعوبة جمة في الحصول على التأشيرة، حيث رُفضت في المرة الأولى ثم قُبلت لاحقًا لأنني اضطررت أن آخذ إجازة طويلة من عملي، ولم تكن السفارة مقتنعة بأنني قد أقدم على إجازة بهذا الطول من عملي لأجل التطوع. كنت حينها أعمل محامية. ظنوا أنني غالبًا لا أريد أن أستكمل عملي كمحامية، وأريد أن أذهب للبحث عن العمل في الولايات المتحدة عن طريق الهرب من الدولة (1). ولم يشفع لي كمية التأشيرات التي حصلت عليها مسبقًا — بما فيها تأشيرة الولايات المتحدة نفسها — لأنها كانت منتهية. تمكنت من الحصول على تأشيرة الدولة (1) في المرة الثانية، وبعد الاستعانة بعلاقات والدي الدبلوماسية.
بحثت على الشبكة العنكبوتية لأجد دولة أخرى من دول أمريكا اللاتينية، سأسميها الدولة (2)، تسمح بدخول المصريين بدون تأشيرة، فقررت أن أزورها قبل أن أذهب إلى الدولة (1) التي كنت سأتطوع فيها. حضرت حقائب سفري، وقسمت أموالي على الحقائب المتنوعة؛ لأنني علمت أن بعض دول أمريكا اللاتينية غير آمنة من السرقات، ثم ذهبت في رحلة طويلة تزيد على 27 ساعة حتى بلغت الدولة (2)، ولكن بمجرد دخولي على شباك الجوازات، فاجأتني ضابطة الجوازات بأنه تم استثناء دولتين بالعدد من التأشيرات عند الوصول، هما: مصر واليمن، وأن هذا الاستثناء حدث في وقت سابق، ولكنه لم يتم مشاركته بكثرة على وسائل التواصل والشبكات العنكبوتية، وأنه كان يجب علي أن أتصل بالسفارة، وليس أن أبحث في مواقع السفر حتى أعلم المستجدات بخصوص التأشيرات.
أخبرتها أن لدي تأشيرة الدولة (1)، وأنني يمكن أن أحجز تذكرة الطيران إليها مباشرة، وسألتها أن تسمح لي بالمغادرة إلى الدولة (1)، ولكنها أبت أن تفعل. واحتجزوني داخل غرفة بحمام لعدد من الساعات، مع سلب جواز سفري. قالت لي الضابطة إنه سيتم ترحيلي إلى مصر، وأنني في المنتصف سأذهب إلى دولة في أمريكا الوسطى كترانزيت، سأسميها الدولة (3).
وبالفعل تم اصطحابي بالطائرة إلى الدولة (3). في الدولة (3) استمر احتجازي، وسلب جواز سفري. الاحتجاز في الدولة (3) كان أسوأ كثيرًا؛ حيث تم احتجازي داخل أحد بوابات المطار بدون حمام، وكانت شديدة القذارة. البوابة كانت مخصصة لاحتجاز المهاجرين غير الشرعيين، ووجدتني محاطة بعدد ضخم من المهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون الهرب من أمريكا اللاتينية والوسطى إلى الولايات المتحدة. وبدا أن الكثيرين منهم أمضوا أيامًا متواصلة بهذه البوابة؛ لأنهم كانوا يحملون معهم مراتب، وأدوات للنوم.
قذارة البوابة لم يكن يمكن تجاهلها، فقد كانت ممتلئة بالعبوات الفارغة للطعام والعصير، علاوة على الأتربة. والمثير للضحك أن بعض العمال جاؤوا لتعقيم البوابة — لأن هذه الفترة كانت الفترة اللاحقة على كوفيد وإجراءات الحماية منه — واستخدموا أجهزة التعقيم، وقاموا برش القمامة بأجهزة التعقيم بدون إزالة القمامة. صُدمت مما يحدث، ومن عبثيته. لم أكن أفهم ما يحدث لأنني لم أتعرض للترحيل من قبل، ولم يكن ببالي قط أن ذلك قد يحدث لي. حاولت أن أقنعهم كثيرًا أنني بالفعل ذهبت إلى الولايات المتحدة من قبل، وذهبت إلى أوروبا عددًا من المرات، ولم أتجاوز مطلقًا أي فترة من فترات تأشيرتي، بل أعود قبلها بفترة طويلة، فيستحيل أن أحاول الهرب عن طريق أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة، لكن أحدًا لم يستمع لي.
على كل حال، كان التواصل عسيرًا جدًا؛ لأنهم لا يتحدثون إلا الإسبانية، وأنا لا أتحدثها، وحتى ضباط المطار لم يعرفوا الإنجليزية. اتصلت بوالدي، وتمكن والدي من الوصول إلى القنصل المصري في هذه الدولة. فجاء القنصل المصري، ووقف أمام البوابة التي أُحتجز فيها، ومُنع من الدخول إلي، فوقفت من خلف البوابة أتحدث مع القنصل المصري، وأنا لا أدري ماذا أفعل. واستمررت محتجزة لما يزيد على اثنتي عشرة ساعة أخرى، والقنصل عاجز عن إخراجي من الحجز.
وفكرت للحظة: إن كان هذا قد حدث لي ومعي القنصل، ماذا كان يمكن أن يحدث لي إن لم يكن لوالدي العلاقات المناسبة؟ مُنعت من دخول الحمام أو تناول أي أطعمة أو مشروبات بدون حراسة أمنية؛ حيث كان يُفرض علي أن يرافقني ضابط ذكر حتى باب دورة المياه حتى أستخدمها؛ ليطمئن أنه سيعود بي إلى الحجز مرة أخرى داخل البوابة. شعرت بإهانة بشعة؛ ولأول مرة أبدأ في فهم معنى ألا أحمل جواز سفر أمريكي، أو أن يكون جواز سفري جواز سفر دولة من دول العالم الثالث.
بدأت أفهم بالتجربة، وليس بالنظرية، ما الفرق بين العالم الأول والعالم الثالث. لا يعني ذلك أنني ضحية تمامًا؛ لأنني أتذكر أفكاري عندما كنت داخل البوابة. كل من كنت محاطة بهم كانوا فقراء ينتمون إلى دول أمريكا اللاتينية، ويحاولون الهروب منها. وكنت أشعر بطبقية تجاههم، حيث كنت أستغرب كيف يمكن أن أجتمع بهم في مكان واحد؟ كنت أرفض فكرة أن يتم مقارنتي بهم، فأنا لم أحاول الهرب إلى دولة من دول العالم الأول. أنا أذهب باحترام لقواعد التأشيرات، وما حدث مني هو خطأ غير مقصود؛ لأنني ذهبت إلى دولة غيرت سياستها تجاه مصر في التأشيرات عند الوصول بدون أن أعلم ذلك. أنا لم أحاول قط أن أعيش في دولة من دول العالم الأول، ولم أحاول قط أن أُخترق أيًا من القوانين الخاصة بالهجرة، فكنت أشعر أنني أفضل منهم. كيف لي أن أُقارن بمن يحاولون الهرب من أوطانهم، ومن لا يحترمون قواعد الهجرة والجنسية في الدول الأخرى؟ كيف لي أن أُقارن بالمهاجرين غير الشرعيين؟
هذا القدر من التكبر الذي كان قابعًا في عقلي وقتها، أنظر إليه اليوم، وأرى أنني لا أختلف كثيرًا عن المنظومة التي جعلتني أعاني من الترحيل بهذه الطريقة الهمجية. فهذه المنظومة تصنف العالم إلى دول عالم أول، ودول عالم ثالث، وتضع قواعد لاختلاط العالمين؛ فلا يُسمح لأي شخص أن يذهب من العالم الثالث إلى العالم الأول دون الخضوع للقواعد كاملة، وإن حدث خطأ مقصود أو غير مقصود منه؛ فإنه يستحق المهانة لأنه ينتمي لدول العالم الثالث.
أنا لا أختلف عن هذه المنظومة؛ لأنني نظرت بنفس منظورها للمهاجرين غير الشرعيين، ورأيت نفسي أفضل منهم؛ لأنني ألتزم بقواعد المنظومة غير العادلة. نظرت إليهم بفوقية كتلك التي ينظر بها من ينتمون إلى دول العالم الأول لنا.
ما يستحق التأمل هو أن ما حدث لي، حدث لي من ثلاث دول من دول العالم الثالث، ولكنهم ملتزمون تجاه دول العالم الأول بحماية الحدود بين العالمين، وعدم السماح باختراقها، سواء بقصد أو بدون.
بعد عذابي هذه الساعات الطويلة، تم ترحيلي إلى القاهرة. طبعًا وصلت، وقد فقدت حقائبي بكل الأموال التي كانت بها. وفقدت أثناء هذه التجربة المخيفة تذاكر الطائرة التي تحمل أرقام حقائبي، ولكن لحسن حظي؛ فإنني دائمًا ما أمتلك حقائب مميزة اللون والشكل، ونادرة للغاية في مظهرها. فعندما وصفت أوصافها الخارجية، وهي بهذه الندرة، تمكنت شركة الطيران من إيجادها بعد شهر، وإيصالها إلي كاملة.
من الناحية المادية، لم يرَ والدي أنني خسرت أي شيء، ولكنني واقعيًا خسرت الكثير جدًا وكسبت الكثير كذلك.
أعظم ما كسبته كان إدراكي لحقيقة هذه المنظومة التي تفصل بين العالمين؛ العالم الأول والعالم الثالث، وحقيقة أنه مهما حاولت أن ترتفع وترتقي، وأنت داخل العالم الثالث، ستبقى دائمًا في أسفل المنظومة. ستكون دائمًا الأضعف في المنظومة، حتى وإن كنت الأقوى داخل العالم الثالث. بينما إن كنت تنتمي للعالم الأول، فبغض النظر عن أين أنت داخل هذا العالم الأول، فأنت الأول.
أما ما خسرته، فكان الجرح العميق الذي ترسّب داخلي من هذه الصدمة، وهو جرح غائر لا يندمل. إنه قهر في النظرة للنفس.
هناك خوف يراودني كلما سافرت خارج مصر. سافرت بعد هذه التجربة كثيرًا، ولكن مهما سافرت، لم يقلل سفري من خوفي، ولا من حجم التوتر والانهيار العصبي الذي يحدث لي في كل مرة تقلع بي طائرة.
والدرس الذي أخذته في الترحيل درس سيبقى دائمًا داخلي. إنه درس يعلّمني حقيقة العالم، ويعلّمني ما يجب أن نغيّره في العالم. إنه يعلّمني كيف نتشرّب ذات الفوقيات التي تمارس القمع ضدنا؛ لأنني كنت — لسنوات طويلة — أنظر بنظارة المنظومة للأضعف فيها:
المهاجر.