تُمثِّلُ الأندلسُ تجربةً حضاريةً فريدةً لا تُشبه سواها؛ فمنذ أفولها السياسي ظلَّت حيّةً في ذاكرة المسلمين والعرب، تُستعادُ كلَّما احتاج الناسُ إلى معنى يَشدُّهم إلى ماضٍ مُلهِمٍ أو يفتح لهم أفقاً في حاضرٍ مُلتبِس. لهذا أصبحت الأندلسُ أُنموذجاً يُحتذى ومصدرَ إلهامٍ وتمكينٍ لجماعاتٍ وأفرادٍ في أماكنَ وأزمنةٍ شتّى: يستدعيها شعراء ومسرحيون وموسيقيون وناشطون وسياسيون، ولكلٍّ منهم «أندلسُه» الخاصة التي يُعيد من خلالها تعريفَ ذاته وعلاقته بالعالم. هذه الحيوية الرمزية، التي تجعل من الأندلس خيطاً ناظماً بين أمكنةٍ بعيدةٍ وأزمنةٍ متباعدة، هي ما يتقصَّاه إيريك كالدروود في كتابه «على الأرض أم في القصائد؟ حيوات الأندلس المتعدّدة» (On Earth or in Poems: The Many Lives of al-Andalus)، الصادر باللغة الإنجليزية عام 2023 ، وهو محاولةٌ لضمِّ الأصوات التي تتطلَّع إلى الأندلس بوصفها قدوةً أو عدّةً للتفكير والعمل، وتقديمها في سردٍ واحدٍ يُبيِّن كيف تتشكّل اليوم شبكاتُ انتماءٍ واسعةٍ تحت عنوانٍ فضفاضٍ يُدعى الأندلس، بحيث يستطيع سوريٌّ أن يتخيَّل صِلةً بالأمويين، ومغاربيٌّ أن يستعيد الموحِّدين، وفلسطينيٌّ أن يرى نفسه مورسكيًّا جديداً، وتتقاطع هذه الشبكات عبر المتوسط وما وراءه في موسيقى وأدب وفنون وممارساتٍ عامّة متعدّدة اللغات والوسائط. إنَّ كالدروود يُراهن هنا على سَعة المصطلح؛ فبالرغم مما فيه من تعميمٍ يحجب تنوّعاتٍ تاريخية دقيقة، إلا أنّه يتيح في المقابل دوائر انتماءٍ رحبة تُنسِج علاقاتٍ رمزية جديدة بين أناسٍ متباعدين جغرافيًّا وثقافيًّا، ويُبيِّن كيف أنَّ التخلِّيَ عن لفظ الأندلس سيعني خسارة عالَمٍ كاملٍ من التخييل والاشتباك الثقافي الذي صنعتْه هذه الذاكرة المتنقِّلة.
منذ الصفحات الأولى، يربط المؤلف بين حضور الأندلس في المخيال العالمي وبين حاجاتِ الحاضر ومخاوفه. يستحضر سجالَ بيت قرطبة في نيويورك بعد 11 سبتمبر2001، وكيف وظَّف إمامٌ مصريٌّ أميركيٌّ صورةَ قرطبة الوسيطة بوصفها أُنموذجاً للتعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين، قبل أن تتعرَّض الفكرة لهجومٍ سياسيٍّ وإعلاميٍّ شرس؛ لكنَّ بيت قرطبة واصل مَهامه لاحقاً من داخل معبدٍ يهوديٍّ إصلاحيٍّ بمنطق يعكس الرؤية الأصلية للتقارب بين الأديان. من هذه الحكاية يستخلص كالدروود قاعدته التحليلية: إنَّ استدعاء الأندلس في الحاضر لا يقع خارج السياسة، بل يتغذَّى من رهانات اللحظة، وأنَّ مقولة التعايش(Convivencia) ، على ما لاقته من نقدٍ علميّ، لا يمكن إطراحها كليًّا لأنها ما تزال تُؤثِّر بعمقٍ في النقاش العمومي حول معنى الأندلس وإرثها، ولهذا يتعامل معها المؤلف بوصفها ناقصةً معرفيًّا ولا غنى عنها عمليًّا لفهم كيف تُستثمَر الأندلس في الثقافة الراهنة. وفي صياغةٍ مكثَّفة يكتب أنَّ ذاكرة الأندلس في الثقافة المعاصرة تشبه عُدّة متعدِّدة الأدوات: فرقة موسيقية، وحديقة، ومجمَّع تسوُّق، ودار نشر، ورمزُ سياحةٍ وهويةٍ وطنية، وسلاحٌ بلاغيّ تستعمله أطرافٌ متعارضة، ما يعني أنَّ السؤال ليس عَمَّا هي الأندلس، بل عمّا تفعلُه في الحقول الثقافية والسياسية اليوم.
ولكي يمسك بهذا التعدُّد دون أن يقع في تشتيتٍ سرديّ، يطرح كالدروود أداتَيْن مفهوميَّتيْن تُنظّمان القراءة: الـمتبَنّية/المجاز الـمُرسَل، أي أخذُ جزءٍ من تاريخ الأندلس (الأمويون، الموحّدون، الموريسكيون، قرطبة، الشاعرات…) بوصفه صورةً ممثّلةً للكل، وسياسات التموقع المستلهمة من ستيوارت هول، حيث يسأل: من أيِّ موقعٍ يتكلّم الكُتّاب والفنّانون والجمهور عن الأندلس؟ وكيف تُعيد الأندلس، بوصفها ذاكرةً رمزية، موضعةَ هؤلاء؟ بهذا المعنى، ليست القضية ميزانَ صوابٍ/خطأ تاريخيّ بقدر ما هي فهمُ ما تُنجزه هذه التمثيلات في الواقع: كيف تُحرِّك خيالًا سياسيًّا أو نسويًّا أو موسيقيًّا؟ وكيف تُترجَم سردياتُ الماضي إلى طاقات عملٍ في الحاضر؟ ومن هنا، يعلن المؤلف صراحةً أنَّ كتابه ليس تاريخاً للأندلس، بل تاريخ للحاضر من خلال منظور الأندلس وما تُنتجه من معانٍ وممارسات.
تتجلّى بنيةُ الكتاب في خمسة فصولٍ وخاتمة، عناوينُها نفسها تُفصح عن المنهج: «الأندلس العربية»، «الأندلس الأمازيغية»، «الأندلس النسوية»، «الأندلس الفلسطينية»، «الأندلس المتناغمة»، ثم «قرطبة/إلينوي». يتيح هذا التنظيم الموضوعاتي الانتقال بين لغاتٍ وموادّ متنوّعة - عربية وإسبانية وفرنسية وإنجليزية؛ شعراً وسرداً وسينما وموسيقى وخطاباً عموميًّا - في إطارٍ واحد، ويسمح بإبراز علاقة كيف ولماذا أكثر من ماذا وأين. إنَّ ما يُميِّز هذا الخيار أنَّه يَصِلُ النصوصَ بالممارسات ويضعهما على مسافةٍ واحدةٍ بوصفهما فضاءين يتخلَّقُ فيهما معنى الأندلس المعاصر. ويكفي أن نقرأ فهرس المحتويات لنلمس وضوحَ هذا التمشِّي، ونلمس، في الآن ذاته، دعوةَ المؤلف إلى مركزية الأصوات العربية والإسلامية في نقاش الإرث الأندلسي الحديث بعدما هيمنت سرديةٌ أوروبيةٌ تُلخِّص الأندلس إلى معادلة تسامحٍ مُبسَّطة.
في الفصل الأول يرسم كالدروود ملامح الأندلس العربية كما استعادها مثقفون وفنانون عرب حديثاً؛ من فيروز التي أعادت إلى الذاكرة أبياتَ ابن الخطيب «جادك الغيث» في حفلات الستينيات، إلى جرجي زيدان الذي شيَّد روايات تاريخية شعبية عن الأندلس، إلى مسلسلاتٍ رمضانيةٍ حداثيةٍ صاغت للأندلس حضوراً وجدانيًّا في المخيال العربي. يُحيل المؤلف هذه الرؤية إلى تَلقّي الاستشراق الأوروبي في القرن التاسع عشر ونشوء القومية العربية الحديثة، مُبيِّنًا كيف أُعيدَ تأويل الأندلس في اتجاه «تعريبِ» إسبانيا وتمركزٍ نحو المشرق وإقصاءٍ نسبيٍّ لدور الإسلام وللأطراف المغاربية. وليس هذا تأريخاً سرديًّا محضاً؛ فالمؤلف يقرأ هذه المدوّنة بوصفها سياسةً للذاكرة تصنع أمّةً حديثةً من خلال الماضي. وفي صياغةٍ تحليليةٍ بالغة الصراحة يكتب في المقدّمة أنَّ الأندلس العربية جعلت الأندلس أكثر بياضاً وأقلَّ دينيةً وأكثرَ قابليةً للمواءمة مع تصوّراتٍ سائدة للهوية الغربية، فاتحةً المجال نقديًّا لإبراز ما طُمِس من مساهماتٍ أخرى. هذه الأطروحة تُبرز قُدرة الكتاب على وصل التحليل النَّصِّيِّ بسياقاتٍ تشكِّل الخطاب القومي، وهو ما يجعل الفصل مساهمةً تفسيريةً تتجاوز الوصف إلى مساءلةٍ دقيقةٍ لسياسات الاستعادة الحديثة.
وإذا كان الفصل الأول يقدِّم أندلساً معرَّبةً من جهة المشرق، فإنَّ الفصل الثاني ينتقل إلى أندلسٍ أمازيغيةٍ تُعيد وصل شمال أفريقيا بإيبيريا على محورٍ جنوبيٍّ - شماليّ. هنا يتتبَّع كالدروود تراثاً نصِّيًّا وممارساتٍ ثقافيةً تسعى إلى تثبيت الحضور الأمازيغي في تاريخ الأندلس، من المرابطين والموحِّدين إلى تغذية الحركة الوطنية المغربية منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحركاتٍ أمازيغيةٍ لاحقة في المغرب وأوروبا اشتغلت على إبراز مساهمات الأمازيغ في وجه سردياتٍ استعماريةٍ وعنصريةٍ تفصل العرب عن الأمازيغ. يتوقَّف الفصل عند موادّ متنوّعة: بيان سياسيّ ونصوص تاريخية وروايات ومعرض كبير في قصر الحمراء حول غرناطة الزيرية وعالَم الأمازيغ، وصولا إلى فيلمٍ كوميديٍّ مغربيٍّ عام 2006 (عبدو في زمن الموحِّدين لسعيد الناصري). إنَّ قيمة هذا الفصل تتجلى في كونه يجمع بين التأريخ الثقافي وسوسيولوجيا الذاكرة البصرية، ويضع المحكيّ الأمازيغي في حوارٍ مُنتجٍ مع أطروحات مؤرّخين معاصرين حول موقع الأمازيغ في المتخيّل المتوسطي. والنتيجة بيانٌ نقديٌّ مُقنع يعيد توزيع الضوء على شمال أفريقيا باعتبارها شريكةً في صنع الأندلس، لا هامشاً ملحقاً بها.

أمّا الفصل الثالث فينعطف من سؤال الإثنية إلى سؤال الجندر، كاشفاً كيف صارت الأندلسُ رافداً أساسيًّا في صياغةِ نسويةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ تستند إلى أصالةٍ محلِّيةٍ لا تتنكَّر لتاريخ النسوية الأوروبية ولكنها تبحث عن سرديةٍ مُغايرة. يتتبَّع المؤلف كيف تحوّلت شخصياتٌ كولّادة بنت المستكفي إلى أيقونات تمكينٍ تُلهم كاتباتٍ عربياتٍ منذ أواخر القرن التاسع عشر: زينب فواز ووردة اليازجي وسلمى الحفَّار، ثمّ رضوى عاشور التي صاغت في ثلاثيتها «غرناطة» سيرةً أدبيةً مُدهشة تَمنح الأندلس صوتاً نسويًّا متخيّلاً يُسدِّد ما أهمله الأرشيف الذكوري. ومع صعود العالم الرقمي تظهر «ناشطات سيبرانِسويات» يُعِدْن تدوير هذه الرموز في فضاءات التواصل، فتتشكَّل أندلس نسوية تُشرعن الحرية والإبداع بوصفهما نسباً ثقافيًّا لا يُستعار من الخارج. يُقدِّم كالدروود هنا درساً منهجيًّا مُهمًّا: الأدب لا يشرح الماضي فحسب، بل يخلق أرشيفاً مُحتَمَلاً يُتيح للحاضر أن يرى نفسه فيه على نحوٍ مختلف. بهذا المعنى، ينجح الفصل في إظهار كيف تُصبح الرواية والقصيدة والدراما وسيطاً لإعادة ترتيب العلاقات بين الماضي والممكن.
ويمتدُّ الخيط إلى الفصل الرابع، حيث يرصد المؤلف «الأندلس الفلسطينية» في سردٍ رشيقٍ يجمع بين الصحافة والأدب والموسيقى منذ الانتداب البريطاني في الثلاثينيات والأربعينيات وحتى اليوم. هنا، تُستدعى الأندلس كاستعارةٍ مُركَّبة لزمنٍ ضائع وحاضرٍ مأزوم ومستقبلٍ مأمول؛ فكُتَّاب وشعراء فلسطينيون شبَّهوا مصيرَ بلادهم بمصير مسلمي الأندلس، واشتغل محمود درويش على بلورة مفهوم «أندلس الممكن»، أي تحويل الذاكرة إلى أفقٍ لقيام فلسطين الروحية والثقافية. وفي مقابل ذلك يتتبّع الفصل حضور الأندلس في الوسط الإسرائيلي: دار نشرٍ عبرية تُسمّى الأندلس، والأوركسترا الأندلسية الإسرائيلية التي أسّسها مهاجرون مغاربة، بما يفتح أسئلةً حسّاسة حول ملكية الماضي: مَن يملك الأندلس؟ ولصالح أيّ خطابٍ تُستثمَر؟ إنَّ أهمية هذا الفصل تكمن في إطلاع القارئ على كيفية تداخل الأزمنة ضمن الاستعارة الواحدة، بحيث لا تعود الأندلس مجرَّد نوستالجيا، بل معجماً تتحرَّك مفرداته بين الـحُلم والجرح والأمل.
ويبلغ الكتاب ذروةً أدائيةً في الفصل الخامس الذي يُقارب «الأندلس المتناغمة» عبر الموسيقى؛ فهنا يصبح السؤال: ماذا تسمع حين تسمع الأندلس؟ يُحلِّل كالدروود مشاريعَ موسيقية عبر ضفَّتي المتوسِّط، كثير منها يدخل في إطار تعاون بين موسيقيين مغاربة وإسبان، يستحضرُ نغمات الفلامنكو والمدارس الأندلسية الكلاسيكية، ويستقبلُ كذلك تجاربَ الهيب-هوب التي يصوغ عبرها مهاجرون مغاربة في إسبانيا هويَّاتهم المتحوّلة. ويُجادل المؤلِّف بأنَّ الموسيقى يمكن أن تُعامَل بوصفها وسيطاً تاريخيًّا: إنّها لا تُمثِّل الماضي فقط، وإنما تُعيد أداءه وتُشكِّل انتماءاتٍ ومواقفَ في الحاضر. وهنا يقدِّم الكتاب أمثلةً محسوسةً على كيفية انتقال الإرث من النصوص إلى الأجساد والآذان، مُشيِّداً جسوراً عمليةً بين الذاكرة والعمل الثقافي.
وتأتي الخاتمة بوصفها بورتريهاً مكانيًّا - وجدانيًّا معاً: «قرطبة/إلينوي». يقف كالدروود أمام مسجدٍ محلّيٍّ في أوربانا (إلينوي) واجِهَتُه بأقواسٍ حمراء وبيضاء تَستعيد تصميم الجامع الكبير بقرطبة؛ يروي كيف أراد المؤسِّسون أن يستحضروا بيئة قرطبة وأن يتذكَّروا ما فعله المسلمون حين ذهبوا إلى أوروبا. هذا المثال ليس استثنائيًّا في نظره، بل هو أُنموذجٌ لما يسمِّيه «الأندلس العامِّية/المحليَّة»، أي تلك التي تنسج نفسها في أنسجة الحياة اليومية على نحوٍ قد لا يلتفت إليه الجيران، ومع ذلك يُذكِّـرُنا بأنَّ للأندلس قبضةً على الحاضر في أماكنَ بعيدةٍ جدًّا عن إسبانيا. لكنَّ الكاتب لا يكتفي بهذه اللمسة الحميمية؛ بل ينعطف إلى قرطبة نفسها حيث تحتدم سجالاتُ ملكية الجامع - الكاتدرائية بين الكنيسة والمجتمع المدني، مُذكِّراً بأنَّ النزاع على الأندلس اليوم هو نزاعٌ على الذاكرة والسيادة الرمزية بقدر ما هو نزاعٌ على الحجارة. هكذا يعود إلى سؤال العنوان باستعارةٍ من محمود درويش: هل كانت الأندلس «هنا أم هناك؟ على الأرض… أم في القصائد؟» لتغدو الخاتمةُ تلخيصاً مكانيًّا - أخلاقيًّا لجدليَّة الرمز والمكان في كلِّ الكتاب.
على مستوى العُدَّة النظرية، تُحسب للمؤلِّف جرأته في نقل مركز الثقل من أوروبا إلى الضفاف العربية والإسلامية، لا ليُثبت سرديةً مضادَّةً وحسب، وإنما لكي يُظهِر تعدُّدَ «الأندلسات» وعلاقتها بمواقع القول. إنَّ اعتماد «المتبنّية» يفكِّك الاختزالَ الذي يجعل الأمويين أو ولّادة أو قرطبة صورةً للكلّ، فيما تسمح «سياسات التموقع» بتبيُّن أثر المكان والزمان (فلسطين العشرينيات ليست كإسبانيا الألفية الثانية) في صياغة خطاب الأندلس. ومن هنا تأتي أصالة الكتاب؛ إذ يسائل النصوص لا باعتبارها مجرَّد موادّ تمثيل بل بوصفها أفعالاً تُنتِجُ معاني سياسيةً وأخلاقيةً وجماليةً في الفضاء العام. والحقّ أنَّ هذه المقاربة - الـمفصحةُ في المقدمة - تُعطي نتائجَ ميدانية غنيَّة؛ فالكتاب لا يكتفي بقراءة القصائد والروايات، بل يدخل إلى حفلات الموسيقى ومعارض الفن والوسائط التلفزيونية، ويستخرج منها أنماطَ التخييل والعمل التي تتحرَّك باسم الأندلس.
وإذا رجعنا إلى كلِّ فصلٍ على حدة لتقدير إضافاته، بدا واضحاً أنَّ الأندلسَ العربيةَ تُقدِّم قراءةً نقديَّـةً لِما صاغته القوميةُ العربيةُ الحديثةُ من صورٍ وجدانيةٍ وملاحمَ تلفزيونيةٍ وأغنياتٍ تُعيد الماضي بوصفه عُدَّة بناء أمّة. إنَّ فائدة الفصل الأول تكمن في أنه يُحسِن الموازنة بين الإنصاف، لِما في هذه الاستعادة من طاقةٍ توحيديّةٍ ووجدانية، وبين التنبيه إلى كلفتها الرمزية حين تُقصي مجتمعاتِ الأطراف أو تُقلِّل من شأن الدين في تشكُّل الهوية الأندلسية. وفي المقابل، تحفر الأندلس الأمازيغية قناةً واصلةً تُحدِث توازناً معرفيًّا وجماليًّا؛ فإبراز المرابطين والموحِّدين بوصفهما زمنين ذهبيين يعيد توزيع الضوء ويُصلح ميلَ السرديات الأوروبية والعربية إلى التركيز على قرطبة وقرنها الأموي. هنا يمتزج التاريخ بالسينما وبالراهن الثقافي (من قصر الحمراء إلى فيلم 2006)، في دليلٍ على أنَّ الذاكرة لا تعيش في الكتب وحدها، وإنما تعيش في العروض والمعارض والضحكة الساخرة أيضاً. وفي الأندلس النسوية نلمس قدرةَ الكتاب على تحويل ما قد يبدو تفصيلاً (شاعرةٌ أندلسيةٌ أو أميرة) إلى أصلٍ ثقافيٍّ تنتسب إليه نساءُ اليوم، تارةً عبر نصوص النهضة النسوية العربية، وتارةً عبر الرواية المعاصرة، وثالثةً عبر فضاءات النضال الرقمي. وأمَّا الأندلس الفلسطينية فتقدِّم درساً مُلهِماً في صوغ الزمن المركَّب داخل الاستعارة؛ إذ تتحوَّل الأندلس إلى قاموسٍ سياسيٍّ-روحيٍّ يَسَع الماضي المفقود والحاضر الجريح والمستقبل الممكن، فيما تكشف المقابلة مع الحقل الإسرائيلي تعقيدَ أسئلة الملكية والهوية. وأخيراً، تُحوِّل الأندلسُ المتناغمة الإرث إلى صوتٍ وإيقاعٍ، وتُثبت أنَّ التعاون بين الفِرق الموسيقية العابرة للحدود ليست زخرفاً تسويقيًّا، بل ممارسة انتماء جديدة تُعيد إنتاج الأندلس في الجسد.
اللافت كذلك أنَّ كالدروود لا يكتفي بوصفِ التعايش أو نقده، بل يضعه في مكانه المناسب: مفهومٌ لا يُوفي الماضي حقَّه لكنه ضروريٌّ لفهم الحاضر، إذ به تُدار سجالاتٌ معاصرة حول الإسلام في الغرب أو حول هوية المدن والمتاحف والآثار في إسبانيا. بهذا التوازن الأخلاقي تحول الدرس المستخلص من الأندلس، في صياغته، مِن تعلُّم التسامح مع الاختلاف إلى تعلُّم التسامح مع التناقض: أن نعترف بأنَّ الأندلس تعني أشياء متعدِّدة لأناسٍ متعدِّدين، وأنَّ التحدِّيَ ليس في فرض معنى واحد بل في توسيع الذاكرة كي تتَّسع لمعاني متنافسة دون أن تُقصيَ بعضها بعضاً. وهذا المبدأ ينسجم تماماً مع طبيعة الأندلس المتحرِّكة تاريخيًّا وجغرافيًّا، ومع الحسِّ المنهجي الذي يفضِّل مُساءلة فعل الذاكرة على تدوين جوهرها. وليس أدلَّ على قدرة الكتاب على تحويل الرمز إلى مكان من مثال أوربانا في إلينوي: مسجدٌ محليٌّ أُقيمت واجِـهَتُه بأقواسٍ تُحاكي قرطبة، بقرارٍ واعٍ من المؤسسين لاستحضار ما فعله المسلمون حين ذهبوا إلى أوروبا. يسجِّل كالدروود أنَّ هذه الأندلس العامِّية لا تُرى دائماً بالعين، لكنها تَنسِج نسيج الحياة اليومية حتى في بلدته الصغيرة، بما يؤكِّد أنَّ عمل الأندلس لا يقتصر على إسبانيا بل يمتدُّ إلى شمال أميركا أيضاً. ثمّ ينتقل إلى قرطبة نفسها حيث السجال حول الجامع - الكاتدرائية: معارك قانونية ورمزية تُدار بين ناشطين مدنيين وقياداتٍ كنسيةٍ حول معنى المكان وهويته. بهذه الحركة المزدوجة - من مسجدٍ محلّيٍّ مُلهَمٍ بقرطبة إلى قلب قرطبة نفسها - يُمسك المؤلف بجدليّة «على الأرض أم في القصائد» ويعيدها إلى القارئ كسؤالٍ أخلاقيٍّ - جماليٍّ مفتوحٍ على المستقبل.
وعلى مستوى الأسلوب، يمتاز كالدروود بلغةٍ واضحةٍ وأمثلةٍ مُحكَمةٍ تجمع بين الرصانة الأكاديمية وحيوية الحكاية؛ فالفقرات التحليلية تتوالف مع صورٍ ومشاهدَ من حفلاتٍ موسيقيةٍ ومسلسلاتٍ وأغنياتٍ ومعارض، ما يجعل القارئ يشهد ولادة الأندلس في فضاءاتٍ غير نصيّة. ويُحسب له كذلك عنايته الملحوظة بتنوع مصادره المعتمدة؛ فالدراسة لا تكتفي بمصادر عربية، بل تتوزع بين العربية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية، وتَجمع بين المقال الصحفيّ والنصّ الشعريّ والأرشيف الاستعماري والدراما التلفزيونية وأغاني الراب، وهو تنوّعٌ يمنح القارئ خريطةً كثيفةً لِما يحدث حين يتكلّم الإرثُ بلغاتٍ كثيرة. ثم إنَّ الانتقال من نمط تنظيميٍّ تاريخيٍّ أو قوميٍّ إلى تنظيمٍ موضوعاتيٍّ قائمٍ على الاستخدامات (العربي/الأمازيغي/النسوي/الفلسطيني/الموسيقي) يحرِّر النقاش من حدود الجغرافيا ويوصِلُ وجوهاً قد لا تُجاوِرُ بعضها في الدراسات التقليدية.
يتوجَّه كتاب «على الأرض أم في القصائد؟ حيوات الأندلس المتعدّدة» إلى جمهورٍ واسعٍ من الباحثين والطلبة في مجالات متقاطعة؛ فهو مصدرٌ غنيٌّ لدارسي الدراسات ما بعد الاستعمار لما يقدّمه من تحليلٍ نقديّ لكيفية إعادة تملّك الإرث الأندلسي خارج المركزية الأوروبية، كما يشكّل إضافةً نوعيةً لدراسات المتوسّط عبر إبراز الديناميات الثقافية التي تربط ضفّتيه تاريخياً وحاضراً. ويستفيد منه أيضاً باحثو الأدب المقارن في تتبّع تحوّلات الأندلس في النصوص والوسائط العابرة للّغات، إلى جانب حضوره القوي في دراسات الذاكرة والأرشيف لما يقدّمه من أدواتٍ لفهم سياسات التذكّر وصراع السرديات حول الماضي. أمّا في الدراسات الثقافية فيتيح العمل نموذجاً تحليلياً يجمع بين النظرية والممارسة، ويعتمد أمثلة متنوّعة من الموسيقى والدراما والسينما والفنون البصرية والنشاط الرقمي. وبذلك، يندرج الكتاب ضمن مكتبةٍ بحثيةٍ حديثة تُسائل علاقة الهوية بالمكان والذاكرة، وتفتح مساراتٍ جديدة لفهم الأندلس بوصفها فضاءً لتخييل السياسات والثقافات لا مجرّد موضوعٍ تاريخيٍّ مكتمل.
الجدير بالذكر إنّ كتاب «على الأرض أم في القصائد؟ حيوات الأندلس المتعدِّدة» يُقدِّم إسهاماً مركزيًّا في دراسات الأندلس الحديثة والذاكرة الثقافية؛ لأنّه، ببساطة، لا يَسأل عن ماهية الأندلس، وإنما يسأل عن ماذا تفعل الأندلس اليوم؟ وفي إجابته يثبت أنَّ الأندلس ليست كياناً مغلقاً يُستعاد بوصفه فِرْدَوساً مفقوداً فحسب، بل هي أيضاً زمن أندلسي يتجاور فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وتتحرَّك داخله مشاريع سياسية وثقافية وأخلاقية متعاقبة. تُظهر فصول الكتاب كيف تُعاد كتابةُ الأندلس بأقلام قوميين عرب ومغاربة، ونسويات عربيات ومغاربيات، وشعراء فلسطينيين، وموسيقيين مهاجرين ومحلِّيين، وكيف تتَّخذُ هذه الأندلسات أشكالاً عديدة: قصيدة، مسلسل، رواية، معرض، حفل فلامنكو، أغنيةُ راب، مسجدٌ في إلينوي، وسجالٌ قانونيٌّ في قرطبة. إن ما يميز هذا الكتاب عن غيره من الكتب المؤلَّفة في هذا المجال كونه يُبقي الباب مفتوحاً: بدلاً من أن يحسم النزاع على الأندلس لصالح معنى واحد، يقترح علينا أخلاقيَّة للذاكرة تقبل التعدُّد وتتدرَّب على التعايش مع التناقض، مُكثِّفاً الرؤية في سؤالٍ درويشيٍّ يصلح خاتمةً ومفتتحاً معاً: هل الأندلس على الأرض… أم في القصائد؟