قد يكون مصطلح الشعبوية من أكثر المصطلحات التي نسمعها مؤخراً في النقاشات السياسية، سواء كانت على مستوى داخلي أو خارجي، ويرتبط استخدامها دوماً بالإشارة إلى خطر متنامي ومرعب. تشير الكلمة اصطلاحاً إلى "الشعب"، إلا أن استخدام المصطلح يصوّر مرضاة الشعوب باعتبارها أمراً سلبياً وغير حميد ومُهدداً للأنظمة السائدة. تحمل هذه الطريقة في طرح المفهوم تضارباً واضحاً بين المصطلح بما يحمله من نظرة سلبية للشعوب وبين مشروعية العمل السياسي للسياسيين، والتي يُفترض أن تكون قائمة على السعي والبذل من أجل نيل التأييد والدعم من أكبر شريحة ممكنة من الشعب.
إذا ما نظرنا إلى السياق التاريخي لنشوء المصطلح، فقد اصطبغ في مرحلة ما بصبغة طبقية توحي باعتزاز الطبقات الاقتصادية المتدنية بانتمائهم لتلك الطبقة، إذ يمكننا تتبّع بدايات استخدامه في الحياة السياسية إلى عدّة حركات في مناطق مختلفة من العالم، في الفترة الممتدة بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتي تبنّت نظرة قائمة على اعتبار الفلاحين الركيزة الأساسية في المجتمع والجزء الأساسي الذي تقوم عليه الحركات السياسية. في المقابل، يُستعمل المصطلح اليوم على نحو ازدرائيّ، يفصل بين طبقة الشعب البسيطة وطبقة النخبة التكنوقراطية المنشغلة بالتفاصيل التقنية الدقيقة للملفات التي تعمل عليها. تعرف النخبة ما يتوجّب عليها فعله دون الحاجة للشرح والتبرير للجماهير الجاهلة غير العارفة، والتي يجب أن تُسلّم بما تراه النخبة حتى وإن كان أفرادها لا يشعرون بأية تحسّن تحت ظلّ حكم هذه النخبة وإدارتها لشؤون حياتهم، هذه النخبة التي تسعى إلى إدارة الدولة بمؤسساتها باعتبارها شركة منزوعة السياسة.
على أية حال، إن الاستخدام المُعاصر للمصطلح يشير في تفسيره لهذه الظاهرة إلى معانٍ مختلفة، ينظر بعضها إلى الشعبوية باعتبارها حركة سياسية، والبعض الآخر يراها أسلوباً سياسياً يتميز به سياسيون معيّنون. كما يُنظر للشعبوية أيضاً إلى أنها نوع من الخطاب السياسي (political discourse)، ومجموعات أخرى تنظر إلى الشعبوية باعتبارها أيديولوجيا. بدورهم، لا يؤمن فريق كبير من الباحثين السياسيين بوجودها من الأساس، باعتبار أن هذا النمط من التفاعل السياسي كان دوماً جزءاً من العملية من السياسية الديمقراطية وليس شيئاً جديداً.
من ينظرون للشعبوية باعتبارها حركة سياسية، يرون أنها حركة لا تنتمي لطبقة معينة، وإنما هي متعددة الطبقات وإن كانت تبدو أكثر ارتباطاً بالطبقات الدنيا. لكنّ هذا لا يفسّر الشعبوية كظاهرة أيضاً، لأن خطب ودّ الطبقات على اختلافها يُعتبر اليوم نهجاً لدى أغلب الأحزاب في عصرنا الحالي، خصوصاً مع تغيّر مفاهيم الطبقات العاملة والبرجوازية، وتبنّي الأحزاب لخطاب جماهيري واسع بدلاً من الارتباط بمصالح فئات مجتمعية محددة. لذلك، لا يمكن اعتبار أنّ كل خطاب سياسي جماهيري هو خطاب شعبويّ بالضرورة.
يفسّر المنظّر السياسي إرنستو لاكلو[1] الآلية التي تتشكل فيها الشعبوية كحركة عابرة للطبقات مُعادية لمنظومة الحكم المتمثّلة بالنخبة أو الأوليجارشيا، بأنها تبدأ عندما تتعاظم المطالب الاجتماعية لفئات مختلفة من المجتمع دون أن تلقى بالاً لدى المسؤولين، فتنتشر النضالات المحدودة والجزئية لمجابهة مؤسسات الحكم بمستويات مختلفة وضمن طبقات مختلفة. عندها، تتلاشى الحدود بين هذه المطالب وبين الفئات التي تحمل رايتها، لتشكّل عداء مباشراً، ليس مع جهة إدارية أو سياسية واحدة، بل مع المنظومة ككل.
لكي نفهم ما يقصده أرنستو علينا أن نتخيل كل طبقة ومطالبها، فعلى سبيل المثال، يرغب الأثرياء من أصحاب شركات التقنيات الفائقة بقيود قانونية أقل على تقنياتهم، أما العاملون في مهن مثل الطب والهندسة يرغبون بأن تكون ضريبة الدخل المستحقة عليهم أقل من حدودها الحالية، والمعلمون والممرضون يحتاجون لأن يكون التأمين الصحي الخاص بهم ذا جودة أفضل، والفقراء يحتاجون لخدمات تأمينات اجتماعية تضمن لهم حداً أدنى من الكرامة. وبهذا، تُصبح لدى الجميع مطالب معينة تجتمع في مكان واحد، وتتوحّد في وجه السلطة.
من أبرز الصفات التي تميز الشعبوية، والتي يتفق عليها غالبية الباحثين المذكورين في هذا المقال، هي ضرورة وجود القائد الكاريزماتي، فلا يمكن للشعبوية أن تزدهر دون قائد يعمل على تجسيد هذا الشعب بذات شخصه. بعبارة أخرى، هذا القائد "هو من يجعل الشعب حاضراً بالمعنى التصويريّ، وهو من يمنح الشعب شكلاً ووجهاً"[2]. وبهذا، تتحوّل الشخصية الكاريزماتية التي يلتفّ حولها الجمهور الشعبوي إلى الناطق باسم الشعب الحقيقي والمدافع عن مصالحه أمام طبقة النخبة المستبدّة والفاسدة. كما تُحدّد هذه الشخصية الشعبوية لهذا الشعب ما يجب أن يكون سياسة عامة، والتي تُصَدَّر خطابياً وكأنها سليلة الفطرة الشعبية السليمة دون الحاجة إلى الخوض في التفاصيل التقنية لإيجاد حلول للمشاكل التي يلامسها الناس.
يؤدي هذا التوحيد لمجمل المطالب الخاصة بفئات مجتمعية مختلفة إلى اعتماد الشعبوية على تسطيح المشاكل وتقليص حلولها دوماً إلى إجراء واحد ومحدّد من المفترض أن يحل المشاكل جميعها. بذلك، يصبح طرد المهاجرين على سبيل المثال هو الحل الجذري لجميع المشاكل التي تعاني منها المملكة المتحدة وفقاً للشعبويين اليمينيين مثل نايجل فاراج.
إنّ الحديث عن فاراج – أحد أبرز مؤيدي استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – يفتح الباب أمامنا للحديث عن رؤية الشعبويين للديمقراطية. تاريخياً، نشأ تناقض بين رؤية الشعبويين لأنفسهم ورؤية خصومهم لهم من ناحية العلاقة بالديمقراطية، فالخصوم يرون الشعبوية خطراً على الديمقراطية والمؤسسات الوطنية لأن روّادها يسعون إلى تقويض الأنظمة الراسخة لعقود أو ربما لقرون، بينما يرى الشعبويون أنفسهم كحماة للديمقراطية التمثيلية، والتي تسعى إلى إشراك الشعب مباشرة في الحكم بدلاً من إبقائه حكراً على فئة محددة من الحزبيين أو الفاعلين السياسيين، ودون الحاجة إلى وسطاء بين الحكّام والشعب، سواء تمثّل ذلك في مؤسسات أو إعلام أو نخب، وذلك عبر الاستفتاءات المباشرة أو التفويضات العامة.
في مقابلة مصورة مع السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز، الذي يُعتبر أبرز أقطاب الشعبوية اليسارية، تحدّث عن نقيضه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يمثل أبرز أقطاب الشعبوية اليمينية الأمريكية، قائلاً: "ترامب ليس غبياً أبداً. ما أدركه ترامب دائماً – بخلاف كثير من الديمقراطيين – هو أن النظام معطّل"، ويُكمل: "لقد فهم ترامب أن الملايين من الأشخاص يعانون ويشعرون بالاشمئزاز من النظام، وفي كثير من الأحيان قال لهم: سأُصلح الأمر". تتفق كلا الشخصيتين معاً على تعطّل منظومة الحكم، رغم أنهما على النقيض في الطّيف السياسيّ، ويتوجهان في حديثهما إلى الشعب، باعتبار عملهما السياسي يُعتبر انعكاساً لمطالب ملايين الناس التي تعاني من تعطّل المنظومة. فهل الشعبوية يمينية أم يسارية في جوهرها؟
يرى العالمان كاس مود وكريستوبال روفيرا كالتفاسر[3] أنّ الشعبوية عبارة عن "أيديولوجيا رقيقة المركز" (thin-centred ideology)، أي أنها لا تحمل أفكاراً بنيوية كثيرة كما في أيديولوجيات ضخمة مثل الليبرالية أو الماركسية. الشعبوية أيديولوجيا تفتقر لإطار فكري شامل، ومبنية على عدد قليل من الأفكار الأساسية الثابتة. الفكرة الأساسية للشعبوية هي التضاد والصراع الأخلاقي بين مجموعتين متجانستين، الأولى هي الشعب النقيّ، والثاني هي النخبة الفاسدة. إنّ ضآلة المركزية الأيديولوجية في الشعبوية، أو افتقارها للأفكار المعقدة بعبارة أخرى، هو ما يجعلها تبدو حركة سياسية أكثر من كونها أيديولوجيا، ويجعل الشعبوية تُعاني من الفراغ الفكري الذي يمكن ملؤه يمينياً أو يسارياً، قومياً أو انفصالياً، وغيرها من الحشوات الأيديولوجية المتاحة.
يرى سلافوي جيجيك أن انعدام الكثافة الأيديولوجية في الشعبوية هو أساس الخطر الذي تمثّله، حيث يقول: "إن أسوأ برنامج سياسي ممكن هو برنامج يتجاهل الأيديولوجيات الكبرى، يساراً ويميناً، ويستمع إلى عامة الناس [دون بوصلة فكرية]. يقولون استمع إلى الناس، إلى مشاكلهم، وامنحهم ما يريدون، وهكذا دواليك. ربما نحن المنظّرون لا نعرف [حلول المشاكل جميعها]، لكن عامة الناس أيضاً لا يعرفون". يشير جيجيك إلى أن الإقلاع عن تقديم حلول متماسكة قائمة على أيديولوجيات صلبة لا يمكن أن يساهم في مجابهة المشكلات التي يعاني منها الناس، وسيؤدي في النهاية إلى تطبيق حلول لا علاقة لها بأساس المشاكل، والسبب في ذلك هو غياب المعرفة التقنية، والتي تُصبح ضرورة في الحكم ضمن الأنظمة المعقّدة التي نعيش تحت ظلالها اليوم.
بحسب الباحث وارنر مولر[4]، إنّ ما يميز الشعبوية السياسية المُعاصرة عن بقية التيارات الجماهيرية هي اختلاق شعب مُتخيَّل يمتاز بالنُبل والنقاء الأخلاقي والصفاء الفكري غير الملوث بأيديولوجيا الطبقات، بحيث تكون هذه الصورة المُتخيّلة هي ما يمكن اعتباره شعباً، وأي اختلاف معها فهو لا يمثل الشعب "الحقيقي". أي أن الشعبوية تحتكر عملية تحديد ماهية الشعب وفقاً لمن يتفّق أو يختلف معها، وهذا بحد ذاته يُعتبر مغالطة.
إنّ هذا الفهم والتفسير للشعبوية يضعها في عمق الثنائية الغربية[5] (dualism)، على غرار ذكر وأنثى، عقلاني ولا عقلاني، بشر وحيوانات، تُنشئ هذه الثنائيات بالعادة تسلسلات هرمية قمعية وفصلاً مصطنعاً داخل المجتمع المتشابك، فالبشر يسيطرون تماماً على الحيوانات رغم أن الحيوانات ساهمت في تحضر المجتمع مثلاً. وعليه، هذا التفسير للشعبوية يقدّمها كأنها تعمل بشكل جيد كأداة للقمع والإقصاء والتقسيم القائم على النقاء الأخلاقي المُتخيّل لفئة الشعب مقارنة بالفساد والسوء الفطري لفئة النخبة. لكنّ المشكلة تكمن في أن المجتمع، والعالم عموماً، وضمن منظومة الهيمنة الغربية، مقسّم أصلاً إلى ثنائيات متعددة على غرار ليبرالي أو محافظ، ديمقراطي أو سلطوي، متطور أو غير متطور، وغيرها الكثير، لذلك فإن الإقصاء موجود أصلاً وليس وليد الشعبوية بحد ذاتها، رغم فعالية الشعبوية كأداة في حال تم استخدامها بغرض الإقصاء.
من المُلاحظ أن مناهضي الشعبوية يتعاملون مع المصطلح بقدر كبير من الازدراء والامتهان، ويلصقون به مدلولات سلبية ويستخدمونه خصوصاً بالمناكفات السياسية. يَسهُل استعمال المصطلح للتعبير عن التلاعب السياسي والمطالب غير الواقعية أو العاطفية وغير العقلانية، والتبسيط والاختزال المُخلّ للمشاكل وحلولها. تبدو هذه النظرة السلبية أكثر انتماءً للقرن التاسع عشر من كونها منتمية للقرن الواحد والعشرين، فهي تتطابق مع وصف جوستاف لوبون للجماهير[6] بأنها لا واعية وعاجزة عن المحاكمة العقلية وعديمة الرأي الشخصي ومنوّمة مغناطيسياً، مع مبالغتها في الاحتكام إلى العواطف والمشاعر. أرى أن هذه النظرة في الغالب ما هي إلا محاولة دفاعية من طبقات النخبة السياسية التي تواجه انتقادات من قبل تيارات تُوصَف بالشعبوية لتتجنّب هذه النخبة الاعتراف بتراكم فشل السياسات التي اتبعوها على مدار سنوات، ومحاولة لتجنّب الاعتراف بالمشاكل الأساسية التي تشكل حافزاً لدى الأفراد وتدفعهم نحو الشعبوية. كما أن هذه النظرة تعبّر أحياناً عن قلّة الحيلة ومحدودية الإبداع وإبداء المرونة في حل المشاكل لدى المؤسسات، فمن السهل لرئيس حكومة ما وصف الناس بالشعبوية بدلاً من السعي نحو إيجاد حلول مبتكرة لمشكلة البطالة على سبيل المثال.
تحاجج شانتال موفي[7] بأن المجتمع الغربي يعيش في مرحلة تُطلق عليها اسم "اللحظة الشعبوية"، وهي ما تراه تعبيراً عن عدّة مقاومات مجتمعية وسياسية ضد الحالة ما بعد الديمقراطية التي أنتجتها الهيمنة النيوليبرالية. تدعو شانتال إلى انتهاز الفرصة من قِبل القوى اليسارية لتنفيذ مشروع راديكالي يساري يقوم على إعادة رسم الحدود السياسية ويجمع مختلف مطالب الشعب غير المتجانسة في تعريفات جديدة للمواطنة، مع تثبيت المعارضة المشتركة للأوليغارشية، التي تراها شانتال عائقاً أمام تحقيق مشروع ديمقراطي.
بالنسبة لي، أعتقد أن الشعبوية تبدو نمطاً سياسياً مستوطناً في المشهد السياسي العالمي لا الغربي فقط، وتزايُدُ انتشارهِ لا يعبّر إلا عن جرس إنذار يشير إلى أن النمط النيوليبرالي في إدارة الدول والعالم ومؤسساته لم يعد مجدياً. وقد تكون الشعبوية في الدول الغربية ما تزال مقيّدة بالديمقراطية التصويتية والمؤسسات السياسية المتجذّرة تاريخياً، لكنّ تداعياتها في دول أكثر هشاشة وأقل صناعيّة قد تكون أشدّ، مما يولّد سلطويات جديدة لا يمكن الخلاص منها إلا بكلف باهظة على المجتمعات.
أما فيما يتعلق بشرح وتفسير الظواهر والمشاكل والسياسات للمجتمع والأفراد، فإن هذه الوظيفة التي كانت دوماً مسؤولية الإعلام فشلت، على ما يبدو، في دورها بعد أن فضّل الإعلام البقاء في مكان الوسط بين السياسيين وبين الجمهور، وجزءاً من معركة المناكفات السياسية. هذا بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية التي كانت دوماً جزءاً من النظام القائم، فهي لم تعد قادرة على توفير المعلومات الكافية للأفراد في المرحلة التحضيرية ليكونوا مواطنين، باعتبارها أصبحت أكثر تركيزاً على احتياجات سوق العمل، وهذا ما جعل الفجوة المعرفية لدى الجماهير كبيرة جداً مقارنة بمعرفة النخب. لذلك، فإنني أعتقد أنه لا يمكن تنفيذ أي عملية رسم حدود جديدة للسياسة والديمقراطية دون إصلاحات جذرية في قطاعي الإعلام والتعليم.
هوامش:
[1]: On populist reason, Ernesto Laclau 2005.
[2]: The Populist Century History, Theory, Critique Pierre Rosanvallon 2021.
[3]: Populism in Europe and the Americas Threat or Corrective for Democracy? Cas Mudde & Cristóbal Rovira Kaltwasser, 2012.
[4]: What Is Populism, Jan-Werner Müller, 2016.
[5]: Simians, Cyborgs, and Women, Donna Haraway, 1991.
[6]: The Crowd: A Study of the Popular Mind, Gustave Le Bon, 1895.
[7]: For a Left Populism, Chantal Mouffe, 2018.