استطاع الفنان منير الشعراني أن ينتقل بالخط العربي من أداة للتواصل، وفنّ تطبيقي إلى فن تشكيلي ولوحات فنية عصرية لافتة للانتباه، بما يكشفه ويضفيه على الكتابة والخطوط التقليدية من جماليات التشكيل بأبعاد مختلفة وعبر رؤيته التجديدية الخاصة، أقام الفنان معرضاً للوحاته في حمص بالتعاون مع مؤسسة تراثنا على المسرح الأرثوذكسي العريق في المدينة، فكان لنا هذا اللقاء معه:
يجدر بالذكر أن الفنان منير الشعراني من مواليد سلمية 1952 عاش في دمشق وتعلم فيها الخط، ثم درس في كلية الفنون الجميلة وتخصص بالتصميم الغرافيكي.
ضد قتل السوريين في كل مكان وضد القتل عموماً
السؤال الأول: في كل حدث كان يمر على البلاد كنا نشاهد لوحة أو ملصقًا للأستاذ منير الشعراني. هل ترى اللوحة أو الملصق مشاركة لمعاناة الناس أم إشهار لموقف؟
أرى الاثنين يتفاعلان مع بعضهما ليعبرا عن الموقف وليقوما بالدور المطلوب، ويتكاملان ليصلا إلى الناس، نعم اللوحة والملصق مشاركة وإشهار موقف بشكل مرئي، فالناس غالباً ليس لديها وقت لقراءة منشورات طويلة، بينما يصل محتوى الملصق للناس بشكل أسرع، وكنت أفعل ذلك لأني معني بإظهار موقفي فأنا، علاوة على كوني فناناً، واحد من المواطنين السوريين يهمه ما يجري في سوريا، وهذا ليس بجديد فأنا لدي اهتمام سياسي لوحقت من أجله 25 عاماً أي منذ عهد حافظ الأسد، بقيت خلالها خارج البلد ولم أستطع العودة إلا في عام 2004 بعد عفو عام، وبقي موقفي واضحًا ومعلنًا بعد ذلك مع شعبنا وحريته وقضاياه، وضد ما يجري بحقه من قمع وعسف، لمواجهة إرادة الناس ومطالبها بالحرية والديموقراطية والمساواة، فكنت مع الحراك وانتفاضة شعبنا عام 2011 منذ البداية، إضافة لذلك شاركت بتأسيس (تجمع التشكيليين السوريين المستقلين) ونشاطاته المناهضة للنظام البائد والداعمة لانتفاضة الشعب، وبإدارة صفحته على الفيسبوك، وصفحة (الفن والحرية) التي كنا ننشر فيها أعمالًا لفنانين يقفون في صف الانتفاضة والنضال السلمي، إضافة لما كنت أنشره على صفحتي الخاصة، وبعض ما نشرته آنذاك معروض هنا في المعرض.
ومازال موقفي في صفّ شعبنا وقضاياه مستمرًا حتى اليوم، لأنه ما زال أمامنا الكثير مما يجب فعله بعد سقوط النظام البائد. ولم يتوقف تصميمي ونشري للملصقات، ففي أحداث الساحل، أقصد مجزرة الساحل، كان لي موقف واضح ونشرت ملصقًا في مجموعة "أنقذوا" بعنوان "أنقذوا الساحل" ثم بعد ذلك نشرت أيضاً ملصقات مشابهة في أحداث جرمانا وصحنايا و"غزوة" السويداء.
أنا ضد قتل السوريين في أي مكان، وضد القتل عموماً، وهذا الموضوع يعنيني مباشرة وأجد من الواجب علي أن أعلن موقفي وأساعد الناس على إعلان موقفهم منه.
السؤال الثاني: العبارات المكتوبة في اللوحات هل هي أقوال مأخوذة من فلاسفة أو أشعار أو حكم وأقوال مأثورة، وكيف تختارها؟
العبارة بالنسبة لي هي مسألة أساسية فأنا منذ بداية عملي الفني، لا أتبنى نظرية الفن للفن، بل أرى أن للفن دوراً مهماً ويجب أن يكون له دور مؤثر في كل وقت، وبالتالي فكل العبارات منتقاة بعناية، وهذا حدث وما يزال بطريقة تراكمية وعلى مدى سنوات طويلة كنت خلالها أجمع كل ما يقع تحت نظري من مقولات مكثفة وبليغة تتفق مع رؤيتي للحياة والإنسان والحق والخير والجمال والحرية، وكنت أحياناً أقرأ بصورة قصدية مؤلفات محددة كديوان المتنبي لأخرج من شعره أهم ما فيه من حكمة وغير ذلك مما له علاقة بالإنسان والقيم وكذلك فعلت مع المعري. كذلك الحال مع القرآن الذي ركزت في اختياراتي منه على ما لا علاقة له بالميتافيزيقيا، مما يتعلق بالناس وشؤونهم وحياتهم والقيم العليا، وكذلك فعلت مع الإنجيل والمتصوفة، بالإضافة إلى الأقوال المترجمة لكتاب وشعراء أجانب. أختار العبارة بحيث تكون متسقة مع فكري وتصوراتي عن الإنسان والحياة والحب والجمال، ومحتوى كل عبارة يجب أن أكون مقتنعاً به وأرى فيه ما يمثلني، وبالتالي يمكن قراءة توجهي الفكري والإنساني من خلال مجمل أعمالي.
السؤال الثالث: تتعامل مع الخط كلوحة فنية فماهي الجمالية التي وجدتها فيه لتحول الخط إلى لوحة؟
المسألة متكاملة: الإنسان حين يتربى على امتلاك الذهن النقدي يكون نقديًا تجاه كل القضايا والمسائل ومنها الخط العربي في حالتي، الخط كان مستنقِعًا برأيي، لأن الخطاطين حتى الآن مازالوا يعيدون إنتاج الخطوط التقليدية بنفس الآلية وبنفس الطريقة وبنفس القواعد، و في رأيي أن هناك إمكانيات لتطوير الخطوط قد عرقلت أو أهملت، وأن هناك خطوطًا أبعدت أو استبعدت من الصورة، وكان ممكناً أن يكون هناك تجديد يضيف شيئًا ويطور أشياء لأن قراءتي لتاريخ الخط تؤكد انه كان حياً يتطور ويتنامى ويتجدد طوال فترات الصعود الحضاري، وحين توقفنا عن هذا الصعود وخضعنا للاحتلال العثماني بدأ هذا الانحدار والاستنقاع واستبعاد كثير من الخطوط التي كان يمكن الاستمرار بتطويرها لتعطينا إمكانيات فنية عالية لدرجة أن الخط تحول بأذهان الناس إلى فن تقليدي، لكتابة عبارة مقدّسة تزين بها البيوت، أو لأشياء من هذا القبيل، بعد أن كان له دور معرفي مهم ومرتبط بالحضارة والتطور، الأمر الذي افتقدناه، و ما حاولته في تجربتي كان لتغطية هذا الجانب، وهذا يقتضي العمل على التطوير من حيث الشكل والمحتوى، ومن حيث علاقة العبارة بخطّها، وإنجاز العمل الفني بوسائل متطوّرة بعيداً عن الوسائل التقليدية، هذه المنظومة المتكاملة عملت عليها لتكون بالنتيجة مختلفة عما نرى من حيث المحتوى والشكل.
وأنا أرى أن الخط العربي يحل إشكالية طرحت كثيراً تتعلق بموضوع الشكل والمحتوى وعلاقتهما ببعض فالخط العربي فن تجريدي، لكننا بالوقت نفسه نستطيع من خلال لوحة الخط العربي المشكلة من خط لعبارة أن نجعله جامعًا للشكل ولمحتوى منسجم مع روحه، ويستطيع المتلقي أن يتعامل معه من حيث الشكل والدلالة في الوقت نفسه.
السؤال الرابع: على هذا هل تعتقد أنك قادر أن تصل إلى المتلقّي بسهولة وأن لوحتك تصل إليه ويقرأ العبارة بسهولة؟
لا، عمومًا ليست لوحة الخط العربي وحدها لا تصل بسهولة إلى المتلقّي، فحتى اللوحة التصويرية (الرسم مثلًا) لا تصل إليه بسهولة ولا تصله كل التفاصيل مباشرة، أول عامل مهم يجب أن يكون متوفرًا هو أن تمتلك اللوحة عامل جذب بصرياً للمتلقي يدفعه للتفاعل معها ومحاولة فك رموزها، والخط العربي كفن حتى في محتواه التقليدي لم يكن محتواه يومًا سهل القراءة إن لم يكن متلقيه حافظًا للنص المشكّل فيه، لكن يمكن أن يفك المتلقّي الكلمات ويعمل على إعادة تركيبها ليصل إلى العبارة التي تحتويها، وهذه العبارة تقوده إلى آفاق جديدة لرؤية العمل ثانية وبشكل متجدد، فالعمل الفني لا يُرى بنظرة واحدة ولا يُحل بنظرة واحدة، لكن التفاعل معه قد يضيف للمتلقي أمورًا عديدة من الناحية الفنية ومن الناحية البصرية ومن ناحية المحتوى .
السؤال الخامس: كيف وجدت الإقبال على المعرض؟
الحقيقة أنا متفاجئ، نحن للأسف لدينا مركزية في كلّ شيء، ودمشق هي المكان الذي تحدث به معظم الأنشطة والفعاليات، لذلك سبق لي وعرضت في حمص، وكان الإقبال جيدًا أيضًا، لكني لم أتوقع ان يكون هذا الإقبال مستمرًا بعد الافتتاح ولطوال مدّة المعرض، وسرني أن الجمهور متعدد ومتنوع يضم شبابًا وكبارًا من أجيال ومشارب مختلفة ومن المهتمين بالثقافة والاطلاع على جديد لا يعرفونه، فحتى في دمشق وهي المركز يحدث الازدحام عادة في الافتتاح ثم يقل الحضور في الأيام التالية كثيرًا؛ في حمص بالإضافة إلى ما سبق كان هناك أناس كثيرون مهتمون بالاستفهام عن مسائل فنية ومسائل لها علاقة بالمحتوى وعلاقتهما في تجلي العمل، وعن كيفية رؤيتهم للوحة، مثلاً حضر ثلاثة مطارنة واستغرق كل منهم وقتاً طويلاً في تتبع العبارات ومعانيها وتجليها الشكلي وحدثت حولها وحول مصادرها حوارات وأعجبوا جميعًا بالخيارات وتشكيلها الخطّي، كذلك تفاعل كثير من الناس مع شكل ومحتوى العبارات فشدتهم الأعمال من حيث الشكل وتفاعلوا مع العبارات التي وظفتها في لوحات المعرض.
السؤال السادس: هل لديك تجارب في فنون تشكيلية أخرى أم اختصيت بالخط العربي فقط؟
أنا خريج فنون جميلة مختصّ بالتصميم الغرافيكي وعملت بتصميم الكتب والشعارات والملصقات والهويات البصرية طويلًا، وأنا خطاط قبل ذلك كلّه، فقد أولعت بالخط منذ الصغر وبدأت بتعلمه في سنتي العاشرة، وصرت بالخامسة عشرة خطاطاً معروفاً في محيطي، وبعض من يحتاجون إلى الخطّ كالمطابع ومكاتب الدعاية والإعلان، قبل أن يبتدئ مشروعي الفني الذي أشعل شرارته تراكم الأسئلة حول الخط الكلاسيكي الذي تمّ تنميطه وصار تقليديًا، ألحّ علي السؤال: ماذا بعد؟ هل سنبقى نكتب بنفس الأنواع والأساليب التي وصلتنا وكتب بها السابقون؟ هل علينا أن نستمرّ في تقليدهم؟ أم أن من الضروري أن نضيف إلى ما أنجزوه؟ وهل علي أن يكون لي بصمتي الخاصة، فأعمل على المضيّ إلى الأمام في إنجاز ما أستطيعه إضافة أو تطويرًا أو ابتكارًا؟
كنت أرسم وأخطط وقد درست في مركز أدهم إسماعيل للفنون في دمشق أثناء دراستي الثانوية، وكنت أشارك في المعارض المدرسية بلوحات رسم وأعمال فنّية أخرى، ثم التحقت بكلية الفنون الجميلة واخترت التصميم الغرافيكي كتخصص، وكان مشروع تخرّجي بعيدًا عن الخط، استخدمت فيه الصورة الفوتوغرافية والمونتاج والطباعة بالشاشة الحريرية، وكان مجموعة ملصقات إعلانية موضوعها "القمع والتسلط العسكري" وكان ممكنًا حتّى ذلك الوقت ومتاحاً للطالب حسب نظام الكلية اختيار الموضوع الذي يريده لمشروع تخرجه، ليتم تحكيمه من الناحية الفنية من قبل لجنة من الأساتذة، لكنهم منعوا حضور نقاش المشروع وتحكيمه لأي كان من الطلاب وحتى من أهلي، وقد كان ذلك في آذار 1977 فتخرّجت بتفوق وكنت الأول على تخصصي.
السؤال السابع: في هذا السياق أود أن أسألك ما رأيك حالياً بمنع الموديل العاري في كلية الفنون الجميلة؟
حين دخلنا الكلّية ودرسنا فيها كان لدينا موديلات بالكلية وهم موظفون ويتقاضون راتباً لقاء ذلك، وكان هناك موديلات تأخذ أجرًا على كل مرّة يقفون فيها أمام الطلاب ليرسموهم، واستمر ذلك بعد تخرجنا حتّى بداية الثمانينات، بخلاف ما ادّعاه عميد كليّة الفنون الحالي من أن الموديل قد منع منذ عام 1974؛ هذه الموديلات كانت تقف عارية تماماً، وأذكر أنه كان هناك موديلان هما أم وابنتها وكانتا مصريتان، كما كان هناك موديل سورية اسمها ميري، وأذكر أن الممثلة نبيلة النابلسي وقفت عدة مرات كموديل قبل أن تصبح نجمة، كما كان هناك موديل اسمه أبو الفوز، ولم يكن الغرض من الموديل العاري رسم العري، لكنه كان ليفهم الطلاب التشريح الذي ينبني عليه كل شيء في رسم الأشخاص بكلّ الأساليب.
منع الموديل لم يأت بقرار في الثمانينات، لكنه منع بقرار شفوي من عميد تولى المنصب وكان ذا عقلية متزمتة، وصار الطلاب يرسمون بعض التماثيل بدلًا من الموديل الحي، أو يجلسون أمامهم شخصًا بثيابه ليرسموه، هذه التماثيل معروفة وتستخدم كوسيلة مساعدة في كليات الفنون الجميلة في العالم للتمرين على رسم الوجه والجسد إلى جانب الموديل الحي الذي يساعد على فهم الحركة وتغيرها بشكل حيوي عبر رسمه من زوايا مختلفة وبأوضاع متعددة، بعد ذلك أتى عميد آخر سار على خطا الذي سبقه ودعمه النظام في مراضاة ضمنية للاتجاه الإسلامي الذي كان النظام البائد يود الاستمرار في استمالته واسترضائه وتحييده خلال المواجهة مع الحركة الإسلامية المسلحة في الثمانينات وهذا الاتجاه هو من أفرز في مجتمعنا القبيسيات ومدارس تحفيظ القرآن التي ملأت البلد أكثر من المدارس التعليمية.
مسائل جديدة بحاجة إلى حل
السؤال الثامن: لماذا اخترت حمص لإقامة المعرض بعد (التحرير)؟
تقصدين سقوط النظام، فهناك فرق، أنا معارض قديم للنظام البائد منذ سنوات الأب، لكني اليوم حين يقال انتصرت الثورة، أرى هذا غير صحيح نعم سقط النظام، لكن المطالب الأساسية التي طالب بها شعبنا لم تتحقق، وصار لدينا مسائل جديدة تحتاج إلى حل، لقد انتقلنا من أحادية الاستبداد والفساد، إلى أحادية اللون المذهبي، والتمييز بناءً عليه.
الحقيقة كان قد تشكل لدي موقف من أسلوب عمل وزارة الثقافة، وأسلوبها في العمل والتعاطي مع الثقافة عمومًا، وفي تعاطي مؤسساتها وغيرها من المؤسسات مع موضوع الفنون والفنون التشكيلية خصوصًا ومن زوايا مختلفة، وأتى القرار الذي صدر في كلية الفنون الجميلة، وما جرى بموضوع سينما الكندي، وغير ذلك من تفاصيل دفعتني إلى أن أقرر الامتناع عن العرض في الصالات الحكومية في دمشق، ولم أكن أرغب أن يبدو غرضي من العرض ماديًا لو تمّ في صالة خاصة بعد امتناعي عن العرض لأكثر من 14 سنة.
كنت قد تعرفت على مؤسسة "تراثنا" منذ عدة سنوات ورأيت الأفكار التي يعملون عليها مفيدة ومثمرة ولها علاقة بما نحرص على تحققه واستمراره بشكل صحيح في مجال التراث، والترميم، والذاكرة، والتاريخ، لهذا وافقت على دعوة المهندسة لمى لإقامة المعرض في صالة المسرح الأرثوذوكسي، أما بالنسبة لدمشق فسأقيم معرضي فيها في مرسمي على الأغلب.
بعد آخر معرض لي في حمص توقفت عن العرض طوال 14 عاماً لأني كنت ضد محاولة النظام إظهار أن الأمور عادية وطبيعية بينما كنت أراها غير عادية أو طبيعية فلقد كان القتل والتدمير والتهجير شغالًا في البلد، لذا كنت أرفض إقامة معرض لأعمالي خلال السنوات الماضية، ولم أكن أود أن أعود للعرض بطريقة تعبر عن رضى بأشياء غير مرضية بعد هذه الغيبة فما يهمني الآن أولًا أن يكون معرضي فنيًا وثقافيًّا أولاً، وأن يحمل رسائل جمالية ومعنوية.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].