شهدت العاصمة الألمانية برلين في الفترة ما بين 11-20 أيلول/سبتمبر الفائت الدورة الخامسة والعشرين من مهرجانها السنوي الدولي للأدب، واتخذت الدورة الجديدة تحت رئاسة Lavinia Frey لافينا فراي (استلمت دفة المهرجان خلفاً للمخضرم ومؤسس المهرجان ومديره لفترة طويلة أولريش شرايبر "Ulrich Schreiber"، اتخذت شعارَ التوهج "Glow" سمةً لها بمناسبة مرور 25 عاماً على انطلاق أول نسخة من المهرجان عام 2001.
في الفترة ذاتها وقبل يوم من انطلاق المهرجان، انقطعت الكهرباء عن 25 ألف منزل في برلين. مصادفة غريبة، ربما تجعلنا نتساءل عن معنى شعار التألق أو التوهج، وهل بحق سار المهرجان على وقع شعاره الجذاب وتاريخه الناصع.
منظمو المهرجان والمشاركون في اختيار محاوره الأساسية فسّروا الشعار على معانٍ مختلفة، توحي ليس بالتوهج فقط، بل كذلك بالغموض والظلام من جهة، والتجدّد والتموّج من جهة أخرى.
خلال حفل الافتتاح، بعد أن ألقت مديرة المهرجان كلمة ترحيبية وتلتها الكاتبة المكسيكيةـ الأميركية والمشاركة في التنظيم كريستينا ريفيرا غارزا، أضاف وزير الدولة للثقافة في برلين مستغنياً عن قراءة كلمة معدة سلفاً، وردّ على كلمة كريستينا غارزا القيّمة المقيمة، باقتباسات من الشاعرين الألمانيين الكبيرين هلدرلن وريلكه، داعياً إلى "تنفّس شعري" وذكَّر الحضور بتأمل فكرة التنفس كرمز للإنسانية والضعف والحرية الإبداعية، وربطها بالتحديات السياسية لعصرنا.
بسبب طول كلمة الكاتبة المكسيكية، حائزة جائزة البوليتزر، التي كانت أقرب إلى مدربة رياضة التأمل، إذ ركزت كثيراً على أخذ نَفَس عميق، وكررت ذلك أكثر من مرة طغى الملل والنفور على الحضور الذي ربما كان يتوقع افتتاحية مختلفة. لكن تعقيب وزير الثقافة الذي بدا رصيناً ومكثفاً وذا مغزى أعاد الجمهور إلى الإصغاء والمتابعة.
يهتم المهرجان عادة بإتاحة الفرصة لعرض الأدب المعاصر من آفاق شتى والمكتوب بمختلف اللغات ـ نثراً وشعراً، وأدب الأطفال والجيل الجديد والرواية وكذلك الكتب المصورة، إضافة لبرنامج شبابي امتد الى الـ24 من شهر أيلول، وما يميزه دائماً تعدد الأصوات والثقافات المساهمة في إغناء الحياة الأدبية لعاصمة تنافس عواصم ثقافية مهمة أخرى كلندن وباريس ونيويورك.
منذ أول دورة عام 2001 جذب المهرجان مئات الكتاب من أنحاء العالم، وأصبح علامة مرموقة وهامة على تبدلات المشهد الأدبي العالمي. وما ميّز هذه الدورة البعد البلاغي في كلمة الافتتاح، وضغط التحولات السياسية المعاصرة، إذ خصصت جلسات مع صحافيين عن الحالة الأوكرانية والحياة اليومية في العاصمة كييف. جلسة أخرى عن كتاب ونصوص من خلفيات مهاجرة، عن الروس من أصل ألماني أو الألمان الروس كما يسمون وتاريخهم شبه المنسي في ألمانيا. كل ذلك وغيره على حساب تقديم الأدب نفسه.
أحد المترجمين، الذي رفض الإدلاء باسمه، شبَّه المهرجان بنشاطات لمنظمات المجتمع المدني، حيث الكثير من الكليشيه والنصائح الحكيمة والحوارات حول حقوق أساسية ربما فات أوان التحاور حولها، مما يعد علامة انحدار وتراجع للمهرجان، وفق رأيه.
أما عن الأسماء العربية المشاركة في هذه الدورة، فمن حيفا ـ فلسطين 48 جاءت الشاعرة أسماء عزايزة، والكاتبة البريطانية من أصل فلسطيني إيزابيل حماد، ومن مصر الكاتب أحمد عوني المقيم في برلين، إضافة إلى الكاتبة السودانية حمكة يعقوب، والكاتب السوري علي الزعيم، وكذلك الأديبة العمانية جوخة الحارثي التي شاركت عبر الفيديو.
شاركت عزايزة، بأداء مميز وحضور لافت في أمسية شعرية جرت ترجمة قصائدها خصيصاً للمهرجان وقُرئت بالألمانية من قبل المترجمة المعروفة ساندرا هيتزل التي ترجمت من قبل قصائد للشاعر الكردي السوري عارف حمزة والقاصة والصحافية السورية رشا عباس .
إيزابيل حماد شاركت في نقاش حول روايتها المكتوبة بالانكليزية "أدخل أيها الشبح" وهي رواية تتناول مسائل حياتية وتفاصيل يومية للفلسطينيين تحت حكم وقمع الاحتلال الإسرائيلي، في حين قدم كل من أحمد عوني، حكمة يعقوب، وعلي الزعيم قراءات ركزت على تجارب اللجوء ومصاعب الاندماج والانفصال عن البلد الأم.
وفي حديث مع الكاتب المصري أحمد عوني، وهو مدير مشارك لدار ومكتبة "خان الجنوب" في برلين، قال معلقاً على مشاركته في هذه الدورة من المهرجان: "رغم كل شيء في مصر ورغم انعدام الأمل،.. تحس بقدرة على الوصول إلى عمق الأزمة في المجتمع المصري، وهو أمر مفهوم من دون مقدمات، أما في برلين فأحاول التعامل معها بنفس المنطق والنمط، كتابة مشتبكة مع لحظة المجتمع الألماني وقادرة على محاولة إحداث جدل أو اختلاف، بحكم أنني الآن جزء من مجتمع برلين الجديد .. أكتب محاولاً ليس لاستعادة ما أفتقده، إنما لتحويل الكتابة في برلين لما بشيه الحالة في مصر. وأنا سعيد بوجود أصوات عربية في برلين، والحضور جيد هذه السنة وما أتمناه هو أن نتواجد أكثر، لا سيما أننا نحس السياق الألماني الحالي قد يدعو البعض للانسحاب. نحن جزء من المشهد الثقافي والصحافي في برلين، وكممثلين عن الضحايا بشكل أو آخر أرى أن الوضع أفضل حالياً لأن الألمان يراجعون مواقفهم السياسية والقائمون على المهرجان مرحبون بأصواتنا. لا أدعو لأي انسحاب من النشاط، بل نكمل واحدنا الآخر.. ونتكلم عن قضايانا على الملأ من دون أن نخاصم العالم إنما أن نتواجد فيه كما نحن".
كذلك شاركت كل من ايرينا شيرباكوفا، حائزة نوبل للسلام، وسفيتلانا ألكسيفيتش، نوبل للأداب، في قراءة ناقشت وسائل الدفاع عن القيم الإنسانية في ظل حكم ديكتاتوري، حيث وصُف أدب ألكسيفيتش بكونه "صوت من لا صوت له" في جمهوريات السوفيات السابقة.
من جهة أخرى، اهتم المهرجان بمواضيع كتابية وأدبية توزعت بين الهجرة والمنفى وأثار بقايا الاستعمار، وذلك في لقاء جمع الروائي التنزاني من أصول عربية يمنية، صاحب نوبل للآداب 2021 ، عبد الرزاق قرنه، والروائية الكينية شارون دوادا. تحدثا خلال الجلسة عن ميزات أساليبهما السردية من كون الكتابة نشاطاً سياسياً وشعرياً في وجه من أوجهها، في حين ناقشت الروائية الألمانية الرومانية هيرتا مولر مع الباحث الأدبي نوربرت اونو إيكي مختلف مراحل تجربتها الأدبية، بدءاً من نصوصها النثرية الأولى ثم الشعر والمقالات وكيفية تداخل الحياة مع شروط الكتابة في خلال حكم النظام الدكتاتوري برومانيا.
الجدير ذكرُهُ أنّ كلاً من حائزَي نوبل للآداب عبد الرزاق قرنه وهيرتا مولر رفضا إجراء حوار صحافي، بحجة أن مولر لا تقيم حوارات صحافية عادة، وأن قرنه ليس لديه وقت كاف، وأضاف معتذراً في إيميل لاحق كُتب بالألمانية، إلى كاتب هذه السطور، وأرسل من لجنة تنظيم المهرجان بعد إرسال طلب لإجراء حوار للصحافة العربية: "أن الحوار حتى عبر أسئلة ترسل بالايميل غير ممكن، سواء الانجليزية أو الألمانية". لقد بدا الأمر غريباً، بدا كما لو أن نوبل تهرب من الصحافة تهرب من الشرق الأوسط، من اللعنة ومن الوافدين من أرض اللعنة والخراب.
وكان وزير الثقافة الألماني "فولفرام فايمر"، وهو صحافي سابق معروف، قد ذكّر بالنقاش حول الذكاء الاصطناعي محورًا آخر في خطابه. أقرّ فايمر بإمكانيات الذكاء الاصطناعي الوافرة، لكنّه انتقد بشدة الممارسات الحالية للشركات الأمريكية والصينية الكبرى المتمثلة في دمج الأعمال والمعارف الأدبية في أنظمتها دون موافقة مسبقة. وتحدث عن "هجومٍ" على الملكية الفكرية الأوروبية، وأعلن أن "ألمانيا وأوروبا ستواجهان هذه التطورات بلوائح واضحة، وحماية حقوق النشر، ووعي ثقافي جديد".