كُتبت المقالة على يد جوليا كاري وونغ، وهي صحفية متخصّصة في مجال التكنولوجيا لدى قسم «غارديان US» بصحيفة «الغارديان»، وتقيم في سان فرانسيسكو.
تقديم وترجمة: صهيب محمود.
عشيّة طرد محمود ممداني من أوغندا عام 1972، دخل أستاذٌ مرموق من الجامعة التي كان يعمل فيها ممداني مساعدَ تدريسٍ مبتدئًا إلى منزل الأسرة وهو يتلصّص بحثًا عمّا يمكن اقتناصه من «غنائم». كان بقية أفراد العائلة قد غادروا بالفعل إلى بريطانيا والولايات المتحدة وتنزانيا، بينما آثر ممداني، ابنُ السادسة والعشرين آنذاك، البقاء حتى اليوم الأخير من المهلة التي حدّدها الرئيس الأوغندي عيدي أمين – ثلاثةَ أشهر أُلزم خلالها جميعُ الآسيويين بمغادرة البلاد. وخلال تجوال الأستاذ بين قطع الأثاث وبقايا عقودٍ من حياةٍ منزلية، وقعت عيناه على صندوقٍ من زجاجات ويسكي «جونّي ووكر رِد»، فدعاه ممداني، بسخرية مريرة،إلى أن يأخذه معه إلى منزله.
في اليوم التالي، وبعد أن التحق بوالديه في معسكر عبور بلندن، اكتشف ممداني أن الزجاجات لم تكن تحتوي إلا على زيت للطهي. وأخذ يتسلّى وهو يتصوّر الأستاذ يقيم حفلًا لتوديع عشرات آلاف الآسيويين قسرًا من أوغندا، ويقدّم لضيوفه بثقةٍ عمياء كؤوسًا من زيت الطعام بدل الويسكي. لم يلبث بعد ذلك أن اجتاحته مشاعر «الوحدة والقلق والاكتئاب» التي تحملها عادةً تجربة الطرد. لاحقًا، انضمّ إلى الجماعة الفكرية الدينامية في دار السلام، حيث كان يشارك في عدد لا يُحصى من حلقات الدراسة التي ضمّت نخبة من المفكرين والسياسيين الأفارقة البان-أفريقيين؛ بينما استقر والداه في ويمبلي شمال غربي لندن، حيث غدت هوايتهما المفضلة لسنوات أن يذهبا إلى مطار غاتويك كل أسبوع لاستقبال الرحلة القادمة من أوغندا أملًا في مصادفة وجهٍ مألوف.
يكتب ممداني في كتابه «سُمٌّ بطيء: عيدي أمين، يويري موسيفيني وتشكُّل الدولة الأوغندية»، الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي: «في كلّ مكانٍ أقمنا فيه بعد الطرد، عشنا كأننا ضيوف. كانت البيوت والغرف مطبوعةً بختم العابر المؤقّت. ومع فقداننا أوغندا، فقدنا إحساسًا بالانتماء وبالجذور».
منذ ذلك الحين، ظلّ سؤال مَن ينتمي إلى الجماعة السياسية؟ هو المحرِّك الأكبر لعمل ممداني الفكري. فالرجل، الذي يشغل اليوم كرسيّ الأستاذية في الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا، اكتسب في الآونة الأخيرة شهرةً أوسع (إلى جانب زوجته المخرجة السينمائية ميرا ناير) بوصفه والد زهران ممداني، الظاهرة السياسية في مدينة نيويورك والعمدة المنتخب لها. غير أن مسيرته الطويلة وقائمة مؤلَّفاته الكبيرة تشهدان على عمرٍ أمضاه في مساءلة التصنيفات الاستعمارية التي ما تزال، رغم سقوط الإمبراطورية، تنظّم وتقسّم سياسات ما بعد الاستعمار: العِرق والقبيلة و«الأصالة»، والمواطن والمستوطن والرعية.
في «سُمٌّ بطيء» يعود ممداني ببصره إلى الوطن الذي ظلّ يعدّه وطنه الأول، حتى حين أدار له ظهره. يمزج الكتاب بين السيرة الذاتية والتاريخ والنظرية السياسية، ليعيد قراءة شخصيتين رسمتا ملامح أوغندا منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1962: عيدي أمين ويويري موسيفيني. كما يتصدّى، في الوقت ذاته، لأسئلة كبرى ذات راهنية عالمية: من يختار «الأشرار» العالميين، ولماذا؟ كيف تعمل فكرة «السكان الأصليين» في عالمٍ كان البشر فيه، وما يزالون، في حركة هجرة دائمة؟ من يملك سلطة تقرير مَن يَنتمي ومَن يَستحق الحقوق داخل حدود دولة ما؟
يُعرَف عيدي أمين في الوعي الغربي أساسًا بصفته دكتاتورًا دمويًا وآكل لحوم البشر كما تزعم الأساطير، لكنه حظي داخل أوغندا بشعبية واسعة منذ استيلائه على السلطة في انقلاب عام 1971 وحتى الإطاحة به عام 1979. يعزو ممداني ذلك جزئيًا إلى قراره مصادرة ممتلكات السكان الآسيويين البالغ عددهم 80 ألفًا، وهم في غالبيتهم من أحفاد المهاجرين الهنود الذين جلبهم الاستعمار البريطاني، وطردهم في فعلٍ من أفعال القومية العرقية أسهم في توحيد القبائل والجماعات الإثنية المتناثرة في أوغندا تحت مظّلة هويةٍ سوداء مشتركة.
أما يوري موسيفيني، الماركسي السابق المعجب بفرانز فانون، والذي كان يرتاد الحلقات الفكرية ذاتها مع ممداني في دار السلام، فقد وصل إلى السلطة عام 1986 ولا يزال متشبّثًا بها. يصف ممداني نظامه بأنه آخذ في الترسّخ كحكمٍ سلطويّ، تتلبّسه مستويات بالغة من الفساد، وتحيط به نزاعات إقليمية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ومع ذلك كما يكتب – «بينما حوّلت آلة الدعاية البريطانية أمينًا إلى وحش، وقدّمت الآسيويين بوصفهم ضحاياه على مستوى العالم، جعلتْ من موسيفيني حبيبًا لواشنطن وملصقًا دعائيًا لها».
يُرجِع ممداني هذا التباين إلى موقف الرجلين من الغرب. فقد استولى أمين على السلطة بدعمٍ من المملكة المتحدة وإسرائيل، للأولى نفوذٌ راسخ في مستعمرتها السابقة، وللثانية رغبة في حليفٍ يتيح لها قاعدةً عسكرية جنوب مصر. لكنه ما لبث أن انقلب عليهما بعد فترة وجيزة من تولّيه الحكم. هذا الانعطاف قاده إلى التحالف مع معمر القذافي دعمًا لحقوق الفلسطينيين ومقاطعة جنوب أفريقيا إبان نظام الأبارتهايد، و«شمخ بأنفه» في وجه الغرب. في المقابل، استجاب موسيفيني لمطالب النيوليبرالية الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وانخرط في «الحرب على الإرهاب» الأمريكية، مقدّمًا لها دعمًا إقليميًا حاسمًا في شرق أفريقيا.
لكن الهم الأكبر لدى ممداني هو ما يسميه «التفتيت المتواصل للسكّان الخاضعين للسلطة» في أوغندا على يد موسيفيني، إلى تقسيمات قبلية أصغر فأصغر، حيث يُوسَم الناس بـ«أصليّين» أو «غير أصليين» داخل وحدات جغرافية آخذة في الانكماش. فقد عرّفت اللجنة الدستورية الأوغندية عام 1993 «المجموعات الأصليّة» بأنّها تلك القادرة على إرجاع وجودها في أوغندا إلى ثلاثة أو أربعة أجيال، والقادرة كذلك على «الإشارة إلى مقابر الأسلاف وأراضيهم داخل البلاد». ومع تطبيق موسيفيني سياسة التقسيم والتشظية، أُعيد تصنيف المزيدٍ من الأوغنديين بوصفهم «مستوطنين» إذا عاشوا خارج المقاطعة المنسوبة إليهم؛ وهو تصنيفٌ سلبهم حقَّ تملّك الأرض وتولّي المناصب السياسية العليا في الدولة.
ففي حين وحّد عيدي أمين المجموعات الإثنية واللغوية ضمن هويةٍ عرقيةٍ جامعة، استخدم موسيفيني الفوارق نفسها لتشتيت الشعب وتحويله إلى شظايا، كي يبقى أي تهديدٍ لسلطته بعيدًا عن التبلور. وهذه العملية – يقول ممداني – هي «السُّمُّ البطيء» الذي يفتك بجسد السياسة الأوغندية.
وهناك صلة واضحة بين دعوة ممداني إلى سياسة تحترم الفروق الثقافية مع الحفاظ على مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق، وبين الحملة التي خاضها ابنه زهران، والتي انتصر فيها رغم إصراره على عدم مهادنة النظام السياسي القائم في إسرائيل، ذلك النظام الذي يحرم ملايين الفلسطينيين الخاضعين له من حقوق متساوية.
يكتب ممداني الأب: «التحدّي هو كيف نوفّق بين الهوية الثقافية والانتماء السياسي، وبين ماضٍ مشترك ومستقبلٍ مشترك. فليس كل من يتشاركون ماضيًا مشتركًا يتشاركون بالضرورة مستقبلًا مشتركًا؛ فبعضهم قد يهاجرون ويغدون جزءًا من الشتات. وفي الوقت نفسه يمكن لأناسٍ ذوي ماضٍ مختلف أن يلتزموا ببناء مستقبل مشترك في المكان نفسه. لهذا فإن الذين يرغبون في بناء مستقبل تحت سقف سياسي واحد، مهما اختلفت ماضيهم، ينتمون إلى الجماعة السياسية نفسها، ويستحقّون بالتالي الحقوق السياسية ذاتها».
بعد أسبوع واحد من فوز زهران في انتخابات عمدة نيويورك، وهو فورٌ يعكس تبنّي جيل جديد من الأمريكيين لقيم كونية من هذا النوع، تحدّث الأب ممداني إلى «الغارديان» عن تاريخه وأفكاره وعن آماله للمستقبل.
ما يلي نص الحوار، وقد حُرِّر للاختصار والوضوح:
جوليا كاري وونغ: في كتابك الجديد تدعو القرّاء إلى إعادة النظر في صورة عيدي أمين، الذي جرى تقديمه إلى العالم تقريبًا على أنه نسخة أخرى من هتلر. لماذا رأيت أن من المهم العودة إلى هذه الحقبة الآن؟
محمود ممداني: كانت وسائل الإعلام الغربية على وجه الخصوص في قلب عملية تصوير أمين بوصفه «الوحش آكل لحوم البشر»، وما شابه. ومن دون أن أذهب إلى النقيض الآخر، فأقدّم اعتذارًا عن نظامه – كما اتهمتني «وول ستريت جورنال» – رأيتُ أنه لا بدّ من وضع الرجل في سياقه لفهمه. فقد نشأ عيدي أمين جنديًا صغيرًا درّبه البريطانيون، ثم أصبح لاحقًل متخصصًا في «مكافحة الإرهاب»، وهو تعبير مهذّب لِما يُسمّى اليوم إرهاب الدولة.
أسوأ عمليات القتل التي ارتكبها أمين – بالعشرات وربما بالمئات أو حتى الآلاف – وقعت في السنة الأولى من حكمه. هذه الجرائم كانت مستلهمة وموجّهة من البريطانيين والإسرائيليين. فالبريطانيون نصحوا أمين باغتيال الرئيس ميلتون أوبوتي فور وصوله إلى البلاد. أما الإسرائيليون فعارضوا ذلك قائلين: «لو فعلتَ ذلك فستبقي البنية العسكرية على حالها، وسيأتي يوم الحساب». فاختار أمين الأخذ بالنصيحة الإسرائيلية، فارتكب مجازر في الثكنات. هناك يكمن وجه أمين الأكثر وحشية.
[ملاحظة: تتراوح تقديرات عدد القتلى في عهد أمين بين 12 ألفًا و500 ألف. وفي «سُمٌّ بطيء»، يجادل ممداني بأن المصادر الغربية ضخّمت الأرقام لأغراضٍ سياسية].
وفي الوقت نفسه، كان أمين منزعجًا من حالة الفوضى العامة التي انتشرت في البلاد، فعَيَّن لجنة تحقيق في حوادث الاختفاء. وكانت تلك، على حدّ علمي، أول «لجنة حقيقة» في العصر الحديث. وقد أوصت اللجنة بأن تتولى الشرطة بأن تتولى الشرطة ضبط الأمن المدني، وبإنهاء هيمنة الجيش على المؤسسات الأساسية.
هذا هو أمين: شخصية معقدة. التحوّل بين هذين الوجهين تَشكّل من خلال إدراكه المتدرّج. فبعد زياراته الأولى إلى إسرائيل ولندن، أدرك أن لا البريطانيون ولا الإسرائيليون يأخذونه على محمل الجد؛ كلاهما رأى أنه ينبغي له أن يكون ممتنًا لهم وأن يتصرف كدُمية. هناك حصل التحوّل الكبير. بعدها حاول البريطانيون الإطاحة به، وكذلك الإسرائيليون. لكن النقطة الأهم أن أمين أصبح محبوبًا للغاية داخل البلاد، وفشلت جميع المحاولات الخارجية لإسقاطه.
وونغ: لماذا ترى أنه من الضروري تسليط الضوء على دور إسرائيل في هذه الحقبة من تاريخ أوغندا؟
ممداني: كان دور إسرائيل في أوغندا حاسمًا. لقد احتضنت إسرائيل عيدي أمين منذ البداية. ظنّت أنه سيكون «رجلها» في المنطقة. بنوا له البيوت، وأقاموا له طقس «مسح» بالعبرية، ودربوا القوات التي كانت في صميم الانقلاب. نصحوه بأن يستخدم هذه القوات وحدها، وقدّموا له الإرشاد في كيفية التعامل مع معارضي أوبوتي داخل الجيش. ثم فوجئوا تمامًا حين بدّل ولاءه. هذا دور محوري للغاية. الكلام عن إسرائيل هنا لا يعني استهدافها بالذات؛ لكن تجاهلها يعني استحالة فهم ما حدث.
وونغ: تصف أوغندا في عهد موسيفيني بأنها «نسخة مصغّرة من إسرائيل». ماذا تقصد بذلك؟
ممداني: أقصد أنها دولة تنفّذ، خصوصًا، مهمات عسكرية في خارج حدودها – في هذا البلد أو ذاك – بناءً على حثٍّ من الولايات المتحدة أو بمباركتها، وتحصل في مقابل ذلك عليى شيك على بياض في كل ما عداها، وبضمانة شبه مطلقة للإفلات من العقاب. تلك هي إسرائيل على مستوى عالمي، وهذا هو موسيفيني على مستوى إقليمي.
وونغ: كثيرون منّا اعتادوا النظر إلى «حقوق السكان الأصليين» بوصفها ميزانًا مضادًا مهمًا لإرث الاستعمار. لكنك منذ زمن بعيد تسائل الجدوى السياسية للتمييز بين «الأصلي» وغير الأصلي. لماذا ترى أنه من الضروري مساءلة مفهوم «الأصالة/الأصلانية» عند التفكير في مَن يَنتمي إلى الجماعة السياسية؟
ممداني: واجهتُ هذه المسألة أول مرة في كتاب كتبته قبل عدة عقود بعنوان «المواطن والرعية». كنتُ متحيّرًا من البنية السياسية التي أنشأتها بريطانيا لإدارة مستعمراتها. فالتعداد السكاني في تلك المستعمرات كان يصنّف كل شخص على أنه ينتمي إما إلى «عرق» أو إلى «قبيلة». وكنت أتساءل: ما الفرق؟ أدركت أن «العرق» هو أي شخص جاء من خارج البلد، وهو غير «أصيل»، أما «القبيلة» فهي مَن يُعتبَرون من السكان الأصليين. فسألت نفسي: ما الفارق العملي؟ وتبيّن أنه فارق في كيفية الخضوع للقانون. فكل الأعراق، سواء أتت من أوروبا أم من جنوب آسيا أم غيرهما، كانت تخضع لقانون واحد: القانون المدني. أن تُحكم بالقانون نفسه يعني أنك معنيٌّ ببناء مستقبل مشترك.
أما القبائل فلم تكن تخضع للقانون ذاته. أولًا، كان هناك افتراض – أو قل خرافة – بأن لكل قبيلة «وطنًا» محدّدًا. أسميه خرافة لأن الواقع لم يكن كذلك. قبل الاستعمار كان الأفارقة، كبقية البشر، شعوبًا مهاجرة؛ لا يمكنك تثبيت البشر على بقعة واحدة على امتداد قرون. هذه الخرافة التى تربط كل قبيلة بوطنٍ ثابت، امتد ليفترض أن لكل وطن سلطة «عرفية»، وقد جرى تحويل السلطات الثقافية إلى سلطات سياسية. ثم أنشأ البريطانيون ما سمّوه «القانون العرفي»، الذي يمكن إنفاذه بواسطة تلك السلطات العرفية، مع وقوف قوة الاستعمار خلفها. وهكذا صار للقبائل مستقبلٌ قانوني وسياسي منفصل عن الأعراق. وخلصتُ إلى أن هذا هو الجوهر السياسي والقانوني لما نسمّيه عادةً «فرّق تسُد».
حين ذهبتُ إلى جنوب أفريقيا عام 1991، كنت أكتب كتابًا عن القارة. كانت كل فصوله مكتملة باستثناء فصل واحد عن جنوب أفريقيا، لأنها كانت تُقدَّم باعتبارها الاستثناء: الأبارتهايد حالة خاصة. لكن بعد فترة قصيرة هناك أدركت أنني كنت مخطئًا تمامًا. أنني خُدِعت. جنوب أفريقيا لم تكن استثناءً. كنت خبرتُ هذا «الوحش» من قبل في أوغندا، وإنْ كان في صورة غير رسمية من الأبارتهايد. الفكرة واحدة: الدولة تستخدم القانون لتقسيم السكان إلى فئات مختلفة، وإعطاء امتيازات لفئة على حساب أخرى. بدأت أخلص إلى أن كل مستعمرة حديثة هي في جوهرها دولة أبارتهايد.
وونغ: يتناول كتابك سيرتك وكيف تتقاطع هويتك – كآسيويّ في أوغندا ومسلمٍ من غُجرات – مع الحدود التي رُسمت للفصل بين الناس. وقد رأيتَ هذا الضبط للحدود في صورة شخصية هذا الصيف، حين نشرت «نيويورك تايمز» مادةً تحاول إثارة ضجّة حول سعي ابنك إلى التعبير عن هويته الأفريقية والأوغندية في طلب التحاقه بالجامعة.
فوجئتُ إلى حدّ الصدمة عندما علمت أن الصحيفة تواصلت معي لتسأل عمّا إذا كان لديّ «نَسَب» من أفارقة سود. ذكرني ذلك بما يُعرَف في أمريكا بـ«قاعدة القطرة الواحدة» لتعريف السواد، حيث تكفي «قطرة دم» واحدة لتصنيف الشخص، كما ذكّرني في الوقت نفسه بنظرة عيدي أمين التي لا تعُدّ الآسيويين أوغنديين حقًا. ما قراءتك لتلك الضجة؟ وكيف تقارن ضبط فئات الهوية في الولايات المتحدة بنظيرتها في أوغندا والدول ما بعد الاستعمارية؟
ممداني: في عام 2013 أسسنا في كمبالا منظمة اسمها «رابطة الآسيويين الأفارقة». قلنا في بياننا التأسيسي إن «الآسيويين الأفارقة» هم الذين ماضيهم آسيوي لكن مستقبلهم أفريقي؛ إنهم أفارقة من أصول آسيوية. وقلنا أننا في الماضي عشنا كزوّار، أو أسوأ من ذلك، كلاجئين؛ أي أننا لم نكن نحظى لا بحقوق ولا بواجبات. كنا إما في إجازة دائمة أو رواد أعمال دائمين.
كان تأسيس المنظمة جزءًا من سؤالٍ أكبر رافق نضالات الحركات القومية الأفريقية: من ينتمي؟ من هو جزء من الأمة ومن ليس كذلك؟ الفهم الجنوب أفريقي الذي انتهى إلى مفهوم «جنوب أفريقيا اللاعنصرية»، أي محو الحدود بين الأصلي وغير الأصلي، كان ثمرة هذا النضال، وهو إرث اعتنقناه.
والآن تأتي «نيويورك تايمز»… كان أمرًا فاضحًا بالنسبة إليّ أنها تعيد إحياء هذا الخط الفاصل بين «الأصلي» و«غير الأصلي»، وأن عبوره لا يكون إلا عبر الامتزاج الدموي، أي المصاهرة. كان ذلك صادمًا. لم أكن بحاجة إلى أي نسب أفريقي كي أرى نفسي رجلًا من أفريقيا؛ كنت أفريقيًا بالفعل.
أتذكر خطاب ثابو مبيكي في البرلمان حين صاغ تعريفًا لمن هو الأفريقي. وأذكر كيف وقف سياسيون أفريقيون الواحد تلو الآخر ليقول كل منهم: «أنا أفريقي». «أنا أفريقي». كانت تلك ثمرة نضال مناهضة الأبارتهايد. أما الصحيفة فبدت منشغلة إلى حدّ الهوس بتهميش مرشح واحد لدرجة أنها نسيت كل ذلك.
وونغ: كتبتَ في الكتاب أن وعيك السياسي – رغم نشأتك في مجتمع شديد الانقسام في كمبالا – قد تبلور في الولايات المتحدة. ما الذي رأيته هنا وغيّر فهمك للمكان الذي أتيتَ منه؟
ممداني: الحدث الأبرز كان حركة الحقوق المدنية وذهابي إلى الجنوب للمشاركة في مسيرة مونتغومري. ثم جاءت حركة مناهضة حرب فيتنام، وبطريقة غير مباشرة – عبر صديقاتي – اطلعت على الحركة النسوية. لم يكن الأمر تجربة فردية؛ كانت ثمة ثورة ثقافية في الولايات المتحدة، وكان وعي جديد بالكامل يولد آنذاك. كل من عرفتهم تقريبًا كانوا يحملون توجهًا مناهضًا للعنصرية.
وحين ذهبت إلى دار السلام، وجدت نفسي في بيئة فكرية منحتني أدوات لفهم هذا التحوّل، وعرّفتني على الحركة المناهضة للاستعمار في معناها الأوسع؛ بدءًا من الثورة الروسية، مرورًا بالثورتين الصينية والفيتنامية، وصولًا إلى الثورة الكوبية.
اليوم في نيويورك – التجربة لا تكفّ عن التغيّر، ومع انتخاب ابني عمدةً للمدينة، يتسارع التبدّل؛ إحساسنا بما هو ممكن يتّسع باستمرار. فوجئتُ حقًا بأن زهران اختار أن يحتضن جذوره بوضوح وبلا مواربة: «أنا مسلم. ولدت في أفريقيا. أنا من أصل جنوب آسيوي»، إلى آخره. تظلّ نيويورك بالنسبة إلينا تجربة حيّة مُعاشة.
وونغ: لكن في الوقت ذاته نشهد على مستوى البلاد دعوات إلى الترحيل الجماعي، ومحاولات فعلية لطرد جماعات غير مرغوب فيها من الولايات المتحدة. هل ترى أوجه شبه مع طرد الآسيويين من أوغندا؟
ممداني: كل الخيوط التي قادت إلى طرد الآسيويين عام 1972، وقبل ذلك طرد شعب «اللوو»، موجودة في الولايات المتحدة اليوم: حق المواطنة بالولادة، قضية «الأصالة»، وغيرهما. هناك أصداء وتشابهات، لكنها ليست الحالة نفسها. الفارق الكبير، في نظري، هو وجود قوّةٍ مضادّة هنا، وهي في بدايتها. أرى أن انتخابات نيويورك بدايةً ممكنة. لا أريد أن أغالي في التفاؤل، لكنها بداية محتملة، لما أحدثته من صدًى داخل البلاد وخارجها.
وونغ: هل لك أن توضح ذلك أكثر؟ لقد بدا أن حملة زهران تقرن بين خطابٍ عن قيمٍ كونية وبين احتفالٍ صريح بهويته وهويات مؤيديه. هذا مختلف عن الخطاب السائد في الحزب الديمقراطي الذي يتردد في الاحتفاء بالمهاجرين أو المسلمين علنًا.
ممداني: أفهم الوضع الراهن في الولايات المتحدة على أنه نتيجة عقود من «حروب ثقافية» دارت رحاها في الجامعات وفي أوساط النخب المثقفة. الحرب الثقافية المركزية دارت حول مفهوم «الإجراءات التفضيلية» أو «التمييز الإيجابي». هل ينبغي أن يكون التمييز الإيجابي مرحلة انتقالية أم وضعًا دائمًا؟ وإذا صار دائمًا، ألا يتحوّل السعي إلى العدالة إلى نزعة انتقام؟ ألسنا نُلزم الأبناء بجرائر الأسلاف؟ وإذا كان الأبناء مستفيدين من امتيازاتٍ صنعها أسلافهم، فهل يحملون قدرًا من المسؤولية؟ لا أظن أن هناك وضوحًا كافيًا حول ما إذا كان على التمييز الإيجابي أن يستمرّ إلى الأبد أم لا. لكنها قضية كبيرة، وقد طفَت إلى السطح الآن.
وونغ: من الأفكار التي جذبتني في كتابك فكرة «الفيدرالية» – أي النظام الذي «يبني الانتماء السياسي على مكان العيش، لا على الأصل والمنبت».
ممداني: أول احتكاكٍ لي بهذه الفكرة كان في قراءة إبراهام لنكولن والتعديلات الدستورية التي بدّلت مفهوم المواطنة في الولايات المتحدة. قبل الحرب الأهلية كنتَ مواطنًا للولاية التي وُلدت فيها. أمّا بعدها فصار بإمكانك أن تولد في ألاباما وتنتقل إلى كاليفورنيا وتتمتّع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها من وُلد في كاليفورنيا. هذه هي البنية الفدرالية؛ مواطنة مشتركة من غير مركزيةٍ خانقة. وهي مهدّدة الآن. المواطنة المشتركة مهددة، والنظام اللامركزي مهدد أيضًا مع استخدام ترامب الحرس الوطني لاحتلال المدن.
في السياق الإفريقي، كانت الفيدرالية تُنظر إليها دائمًا كمناورة استعمارية؛ كانت تُعتبَر أداةً لإضعاف الحكومات المستقلة الوليدة وتمكين الجماعات التي تمتعت بالامتياز في العهد الاستعماري. لكن الآن باتت الفيدرالية تُحتضن أكثر فأكثر ضمن أجندةٍ مناهضة الأنظمة السلطوية، مثل نظام موسيفيني.
وونغ: أحد موضوعات كتابك هو كيف أضرّت النيوليبرالية بجامعة أوغندا. كيف تقارن ذلك مع الاضطرابات التي شهدتها جامعة كولومبيا في السنوات الأخيرة؟ وما رأيك في خضوع الجامعة لضغوط إدارة ترامب؟
ممداني: هناك صلة واضحة. ظاهريًا – وليس سطحيًا فحسب، بل في الانطباع المباشر، تبدو المسألة صراعًا أيديولوجيًا، لا صراعًا حول بنية الجامعة نفسها. لكن خلفية ما حدث في 7 أكتوبر 2023، وخلفية إدارة منوش شفيق في كولومبيا، تعود إلى عهد لي بولينغر (2002 – 2023). لقد أحدث بولينغر تغييرات بنيوية عميقة في الجامعة. خرجنا من عهده ببيروقراطية متضخمة، في قلبها البيروقراطية المالية. تلك البيروقراطية نظرت إلى كولومبيا بوصفها مؤسسة تجارية، تحسب أرباحها وخسائرها، لا بوصفها مؤسسة أكاديمية. جيء بمنوش من البنك الدولي لقيادة تلك البيروقراطية. لم تكن لديها معرفة حقيقية بالأكاديميا الأمريكية، ولا خبرة في إدارة جامعة كبيرة. وجدت نفسها، من دون إعداد، تواجه اعتصامًا طلابيًا لم تكن مهيّأة له. آنذاك حمّلناها المسؤولية الرئيسية. أما الآن فأرى أن قلة خبرتها وجهلها استُغلّا من آخرين؛ حوصرت عمليًا في مكتبها، ثم استقالت كمخرجٍ مشرف نوعًا ما. هي – بهذا المعنى – شخصيةٌ تُذكّرني بعيدي أمين؛ أحاول أن أفهمها، من دون أن أبرّر لها. لو نشرتم هذا الكلام فستعود «وول ستريت جورنال» لمهاجمتي!
وونغ: هل تنوي العودة إلى الحرم الجامعي للتدريس، في ظلّ الآليات التي وُضعت لمراقبة المحتوى الأكاديمي في كولومبيا؟
ممداني: بالتأكيد أنوي العودة للتدريس. أريد أن أشارك في صنع المستقبل. لستُ مستعدًا للتخلّي الآن.
وونغ: طُلب إليك غير مرةٍ أن تتولّى دورًا حكوميًا في عهد موسيفيني، ورفضت. لاحظتُ أنك أضفت إلى النسخة النهائية من «سُمٌّ بطيء» فقرةً لم تكن في مسوّدته الأولى، تتناول تعقيدات علاقة المثقف بالسلطة – من غواية الفساد إلى الرغبة في «طهارة اليد». وتنهي بعبارةٍ ملتبسة: «لوقتنا هذا، نبحث عن الجواب في ميدان الممارسة». ابنك الآن سيكون في موقع السلطة في مدينة نيويورك. هل تفكر في لعب دور ما في إدارته أو التأثير فيها؟
ممداني: نحن كأسرة – ميرا وزهران وأنا – قريبون جدًا بعضنا من بعض. كان هذا الكتاب ليبدو كغيره من كتبي؛ أقف فيه على مسافة وأروي ما جرى للآخرين لا لي شخصيًا. لكن زهران وميرا لم يكفا عن مطالبتي بأمر آخر: «عليك أن تُدرج نفسك شخصيةً في هذا الكتاب. لقد كنت حيًا. كنت طرفًا في الأحداث. تحمّل المسؤولية، واحكِ الجزء من القصة الذي لن يستطيع أحد سواك أن يرويه». ومع كل نسخة لاحقة من المخطوط وجدت نفسي حاضراً أكثر، ومضطَّرًا إلى التفكير في الفرق بين ادعاء «الموضوعية» وبين إدراك «موقعية» الشاهد؛ أي أنني شاهد محدود أنظر إلى الأحداث من زاوية بعينها، وهذه الزاوية هي في آن واحد مصدر قوتي ومصدر تحيّزي.
وذلك الالتباس في الخاتمة هو اعتراف بأنني لم أجد جوابًا نهائيًا للسؤال. لا أؤمن بأن على المرء أن يظل بعيدًا عن السلطة تمامًا، لكنني في الوقت نفسه لا أرى أن عليه أن يعانقها. السلطة مميتة بالنسبة إلى المثقفين؛ تفسدهم. رأيت بأم العين الكثير من الأصدقاء الذين فسدوا في غمارها.
أما عن علاقتي بإدارة زهران، فأظن، أننا في البداية على الأقل، سنحافظ، ميرا وأنا، على العلاقة نفسها التي كانت لنا خلال الحملة؛ نبقى على مسافة ذراع، لكننا متاحون دائمًا. متاحون للنقاش، ولتبادل وجهات النظر، من غير أن نخلط بيننا وبين صاحب القرار.