استطاع كانط أن يقدّم نقدًا فلسفيًّا لليهوديّة، إلا أنَّ طبيعة هذا النَّقد تنطوي على مغالطات وسوء فهم تأريخيّ كبير، فهو ينتقد اليهود انطلاقًا من التسليم بتاريخهم كما كتبه كهنتهم وحاخاماتهم، ولم يكلّف نفسه –حاله حال كثيرين من الفلاسفة الأوربيين-بإعادة النظر في المقولات الأساسيّة التي يبني عليها اليهود حقهم بأرض ميعادهم المزعومة، لذلك جاء نقده ضمن أُفق الروايات التَّوراتيَّة، ولم يرتقِ إلى مستوى أكثر عمقًا باكتشاف مواضع التحريف فيها.
موضع الدِّين في ضوء مؤلَّفات كانط النقديّة
يُعَدّ الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط (1724-1804 م) بالنسبة لمؤرِّخي الفلسفة، غربًا وشرقًا، أحد أهم الفلاسفة في تاريخ البشريّة، ولقد وضعَ دعائم فلسفة نقديّة تكاملت بعد تَتَابُعِ صدور مؤلَّفاته مثل "نقد العقل المحض" (1781 م) و"نقد العقل العمليّ (1788 م)" ونقد مَلَكَة الحكم (1790 م)" التي ما تزال تأثيراتها حاضرة إلى يوم النَّاس هذا في مدارس فلسفيّة كبرى مثل الكانطيّة الجديدة (Neo-Kantianism)؛ ذلك أنّ كانط انتهى في هذه المؤلَّفات إلى نتائج فلسفيّة حاسمة، فأثبتَ في "نقد العقل المحض" أنَّ المعرفة الميتافيزيقيَّة ممتنعة ولا يمكن أن يتوجّه العقل النَّظريّ إلا نحو الطَّبيعة أو عالَم المظاهر، وتوصَّل في "نقد العقل العمليّ" إلى إثبات وجود الحريّة الإنسانيّة، فلذلك لا بدّ من تجسيد هذه الحريّة في عالم المظاهر، أو العالم الحسيّ لتصبح عمليّة فعلًا والوسيط هنا هو مَلَكَة الحكم. لكنَّ كانط لم يقف عند حدود العقل الإنسانيّ بنقده لقدراته النظريّة والعمليّة والحاكِمة، بل كان له رأي في ماهيّة الدِّين أوضَحَهُ في كُتُبٍ مثل "ملاحظات حول الشُّعور بالجميل والسَّامي (1764 م)" و"الدِّين في حدود العقل وحدَه (1793 م)" و"الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية (1798 م)" تطرَّق فيها إلى الأديان بما فيها اليهوديّة مسترشدًا بفلسفته النقديّة، لكن يمكن أن يكون مفاجئًا أنَّ منهج كانط في نقده لليهوديّة لم يكن أصيًلا بما فيه الكفاية.
خَلْط كانط بين الفلسطينيين واليهود
خَلَطَ كانط في كتابه "الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتيّة" (نُشر في نهاية القرن الثامن عشر عام 1798 م) بين الفلسطينيين واليهود، فقال: "لقد اكتسب الفلسطينيون (The Palestinians) الذين يعيشون بيننا منذ نفيهم، أو على الأقل الغالبية العظمى منهم، سمعةً غير مُفتعلة كمحتالين، وذلك بسبب روح الرِّبا التي تسود بينهم. صحيحٌ أن تصوُّر أمةٍ من المحتالين يبدو غريبًا؛ لكنَّ الأغرب هو تصوُّر أمةٍ لا تعرف إلا التجارة، حيث الأغلبية السَّاحقة مقيَّدة بخرافاتٍ قديمة تعترف بها الدَّولة التي يعيشون في كنفها، ولا يسعون إلى أي شرفٍ مدني، بل يطمحون إلى تعويض خسارتهم من خلال التفوق في خداع أولئك الذين يمنحونهم الحماية، بل وحتى في خداع بعضهم بعضًا."
يُلاحَظ هنا أنَّ كانط استخدم اسم الفلسطينيين للدلالة على اليهود، ولم يدركْ أنَّ اسم الفلسطينيين يرتبط بشعب أصيل صاحب الأرض، إذ رغم أنَّ هدف كتابه "الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتيّة" كان تنويريًّا ويرمي إلى تخليص دراسة الإنسانيّة من أيّ عناصر لاهوتيّة مسبقة، إلا أنَّه لم يفرّق بين اليهود كمِلَّة تتشارك فيها شعوب كثيرة وبين الفلسطينيين كشعب أصليّ يسكن في أرض محدّدة في جنوب بلاد الشام، ولذلك جاء نعته لليهود بالفلسطينيين اعترافًا ضمنيًّا منه بأرض اليهود الموعودة الموهومة التي لم يَعْرِفْ عنها كانط شيئًا إلا على أساس اطِّلاعه على أسفار التوراة! وتظهر جليًّا نظرةُ كانط المغلوطة إلى اليهود بصفتهم أمَّة عرقيّة دينيّة متجانسة تعرَّضت للنَّفي، لأنه لم يُتْعِبْ نفسَه حتى على المستوى الأنثروبولوجيّ بالتساؤل عن ماهيّة شتاتهم المزعوم في مختلف أنحاء العالَم كي يصل إلى معرفة أنَّ اليهود ينتمون إلى أجناس بشريّة متعدّدة، وليست فكرة قدومهم من أرض بعينها ثم شتاتهم في بلدان مختلفة من العالَم ليتلوَّنوا بتلوُّنِها شكلًا وثقافة ًولغةً مثل بقية سكانها سوى فكرة متهافتة لا تصمد بإزاء أيّ نقد حقيقيّ، فكيف تجاوز كانط عن كلّ ذلك ليكتفي بنوعٍ سطحيّ من النقد يركِّز على كون اليهود تُجارًا مرابين أو محتالين في البلدان التي حلّوا فيها ومنها ألمانيا؟!
الشتات "المزعوم" في رأي كانط بركة على اليهود وليس لعنة!
لم يُعنَ كانط بالكشف عن الأصول الحقيقيّة لليهود، بل فهمهم–دون تعمُّق-كما قدَّموا أنفسهم، أي بصفتهم أُمَّة لاهوتيّة عِرْقيّة مُشَرَّدة في أنحاء العالَم ومؤلَّفة في غالبيتها من أفراد يعملون في التجارة، لكن يأخذ عليهم أنَّهم أعضاء غير فعَّالين بالمعنى الحقيقيّ في المجتمعات الواسعة للبلدان التي يعيشون فيها، أي إنهم يتجهون دائمًا نحو الانغلاق على أنفسهم، أو بالأحرى إلى تحييد أنفسهم عن تطوير البلدان التي يعيشون فيها ويستفيدون منها في تنمية أموالهم (كما هو حال اليهود في بولندا مثلًا). هذا، ورغم هذه السلبيّة الاجتماعيّة الملحوظة عند اليهود إلا أنَّ حكومات البلدان التي قطنوا فيها اضطرت إلى الاعتراف بنواميسهم القديمة، ولم تستطع إلغاءَها، وتركتهم ينسجون شرانقهم الخاصة في أعماق مجتمعاتها. ومن هنا لا بدّ في أُفق رؤية كانط من فَهْمِ عبارة أنَّ "اليهود شعب لا يعرف إلا التجارة" على أساس إعادة صياغة هذه العبارة نفسها إلى: "اليهود شعب لا يريد أن يعرف إلا التجارة"؛ لكن لم يضفْ كانط جديدًا بتبيانه أنَّ "اليهود شعب لا يريد أن يعرف إلا التجارة" بل كان الأحرى أن يفهم الأمر على أساس أنَّ هناك تُجَّارًا من جنسيات وبلدان مختلفة تحديدًا من أوروبا وجدوا اليهوديّة ديانة مناسبة للاعتناق. وعلى أيّ حال نبَّه كانط في كتابه نفسه "الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتيّة" إلى أنَّ فلسطين التي كانت "أورشليم!" عاصمتها–كما توهَّم كانط متأثِّرًا بالتراث اللاهوتيّ اليهوديّ- كانت تقع في موقعٍ متميز لتجارة القوافل، وكانت ظاهرةُ ثراء سليمان -وفق كانط الذي قَبِلَ الصورة اليهوديّة عن سليمان-نتيجةً لذلك؛ لكن بعد تدمير "أورشليم!" على أيدي الرومان في عام 70 م -كما ظنَّ كانط مُصَدِّقًا بالروايات التوراتيّة-انتشر هؤلاء التجار، في أراضٍ بعيدة (في أوروبا)، حاملين معهم لغتهم وإيمانهم، ووجدوا الحماية من الدول التي انتقلوا إليها بفضل بروزهم في الأعمال التجاريّة. لذلك، يجب-في رأيه-ألا يُعزى شتاتهم في جميع أنحاء العالم مع وحدتهم الدينية واللغوية -التي ظنَّ كانط أنَّها وحدة حقيقيّة-إلى لعنةٍ أُنزلت على اليهود، بل إلى بركة؛ خاصَّةً وأنَّ ثروتهم، المقدَّرة للفرد، ربما تتجاوز الآن ثروة أي شعب آخر يعادل أفرادُهُ العددَ نفسَهُ من الأفراد المُتَدينين باليهوديّة. لكن ما يثير العجب إلى أقصى حدّ في هذا المقام هو أنَّه كيف لفيلسوف مثل كانط قام بتأسيس ما يُعرف بالفلسفة النَّقديّة أن يقبل الروايات التوراتيّة على علَّاتها دون أي مساءلة أو فحص مصدّقًا بقصة خرافيّة عن شتات لا تدعمه أي أدلة حقيقية!
عقد اجتماعيّ يهوديّ مع يهوه
اتَّبعَ كانط حتى في مؤلَّفاته المبكِّرة نوعًا غريبًا من النَّقد فلم يطعنْ على الإطلاق في صحة الرِّوايات التَّوراتيّة، ولم يُعن بإمكانيّة أن تكون هذه الروايات محرَّفة أو تتنافى مع الدلائل التَّاريخيّة، بل قام بقبولها دون أيّ مساءلة أو فحص عن أصولها أو مصادرها، إذ ميَّز فقط في كتابه "ملاحظات حول الشُّعور بالجميل والسَّامي (1764 م)" بين مستويين من علاقة يهوه مع البشر في التوراة، إذ يظهر المستوى الأوَّل في أنَّ سلطة يهوه التشريعية في سِفْر التَّكوين تستند في ما يتعلق بالإنسان الأول (آدم) إلى ملكية إلهيَّة، ذلك أنَّه قبل "السُّقوط من الجنَّة" كانت جميع الأشجار ملكًا ليهوه، فحظر يهوه (=إشارة إلى أوَّل قانون أو أمر إلهي) على آدم واحدة من هذه الأشجار (=شجرة معرفة الخير والشر)، وقَصَدَ كانط هنا أنَّ يهوه خاطبَ آدم بصفته رمزًا للإنسانيَّة بوجهٍ عامّ بسبب كونه أباً للبشر كافةً، لكن انتهى هذا النوع من الخطاب نهائيًّا في أسفار التَّوراة الأُخَر، وهنا يظهر المستوى الثاني فلم تعدْ أوامر يهوه موجَّهة إلى آدم أو إلى أبنائه كافةً، أي لم يَعُدْ خطاب يهوه موجِّهًا إلى الإنسان بصفته إنسانًا، بل أصبح خطابه موجَّهًا إلى اليهود الذين خلطَ كانط بينهم وبين بني إسرائيل، إذ سلّم دون تدقيقٍ وافٍ بأنَّ يهوه أرادَ أن يُخرج اليهود -الذين توهَّم كانط أنهم فعلًا يمثلون بني إسرائيل- من مصر ليعطيهم أرضًا أخرى إذا أطاعوه؛ كما ظنَّ كانط بسبب ضعف معلوماته التاريخيّة أنه كان لليهود ممالك حقيقيّة، وجاء نقده ضمن هذه الظنّ على أساس أنَّ ملوك اليهود في مملكتي إسرائيل ويهوذا المزعومتين لم يكن لهم أي قيمة سياسيّة فعليّة، فقد احتفظ يهوه لنفسه بالسيادة العليا، وكان الملوك مجرد ولاة أو تابعين مباشرين ليهوه، كما استنتج كانط ذلك من أسفار التناخ التي قَبِلَ المعلومات التاريخيّة الواردة فيها دو تبصُّر. إذن، ومهما يكن من شيء يظهر إله العالَم وفق تحليل كانط للتناخ بوجهٍ عامٍّ بصفته معنيًّا فقط بالشَّعب اليهوديّ وليس بالإنسانيّةِ جمعاء، ولذلك كانت سلطة يهوه التشريعية على اليهود قائمة على عقد اجتماعيٍّ بينه وبينهم.
الهالاخاه ظاهرة سلبيَّة تعيق تقدّم البشريَّة
أكد كانط أنَّ يهوه وفق اللاهوت السياسيّ التوراتي، لم يكن إلهًا للبشر، بل لليهود، ولذلك يُغَيَّب حتى النبي موسى في أسفار التوراة ليحلّ محلّه يهوه، إذ في استقراء كانط لأسفار التوراة تبيّن له أنَّه لم يكن النبيّ موسى المشرِّع الحقيقيّ لليهود، بل كان يهوه نفسه الذي اضطلع بمَهمَة مشرّع لمجتمع معيّن على نحو جعله يهتم بكلّ شيء يخص هذا المجتمع من أصغر التفاصيل إلى أكبرها مُهمِلًا أحوال المجتمعات الإنسانيَّة الأُخَر، ولم تتجه عنايته إلا نحو تأسيس دولة لليهود مقابل خضوعهم لقوانينه. لكنَّ هذه القوانين اللاهوتيّة أو الهالاخاه (Halakha) وفق رؤية كانط مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوجود دولة يهودية ذات سيادة، ويظهر هنا أنَّ كانط قد قَبِلَ دون أيّ استقصاء تأريخيّ حقيقيّ وجود ممالك يهوديّة غابرة في أرض فلسطينّ مثَّلت بالنسبة إليه وجود دولة يهوديّة تاريخيَّة مزعومة!
ولقد أوضحَ كانط في كتابه "الدِّين في حدود العقل وحدَه" على أساس استقرائه لأسفار اليهود وتواريخهم-التي للأسف لم يكتشف مواضع الزيف فيها-أنَّه في "الثيوقراطية اليهودية"، كانت علاقة اليهود مع يهوه تقتصر على تحقيق مصالحهم الدُّنيويّة وبناء دولتهم الدينيّة/القوميّة المزعومة. ولكن بما إنَّ هذه الدولة اليهودية قد زالت بزوال هذه الممالك اليهودية الغابرة التي صدَّق كانط بوجودها، فإنَّ القوانين الدينية اليهودية (الهالاخاه) تفقد قوتها الملزمة أو شرعيتها، لأنَّها كانت مرتبطة تاريخيًّا بالسياق السياسي والاجتماعي للدولة اليهودية، وعلى هذا الأساس ينبني على رؤية كانط أنَّه لا يوجد أيّ مبرِّر للإبقاء على هذه القوانين داخل الدُّول التي يعيش فيها اليهود في شتاتهم "المزعوم"، ولا بدَّ من إلغائها لأنَّها تعيق تقدّم الإنسانيّة.
إنَّ ما يجب الانتباه إليه هنا أنَّ كانط يصوِّر القوانين اللاهوتية اليهوديّة أو الهالاخاه كظاهرة سلبية تعيق التقدم الأخلاقي للبشرية، لكنه لا يصوِّرها على هذا النحو إلا ليُثبِت -وفقًا لفهمه-أنَّ الدِّين اليهوديّ ليس صالحًا للإنسانيّةِ كلّها، ولا بدّ من أن يكون في الأصل تمهيدًا تاريخيًّا للمسيحيّة بمعناها البروتستانتيّ اللوثريّ، ذلك أنَّ الدِّين اليهوديّ يدفع مُعتنقيه نحو بناء دولة قوميّة دينيّة لا يكترث شعبها إلا بمصالحه الدنيويّة؛ أما البروتستانتيّة اللوثريّة فتدفع معتنقيها إلى تكريس "مبدأ جديد" من العالميَّة الأخلاقية يصلح للإنسانيّة كلّها. وهنا يظهر كلّ الظُّهور أنَّ كانط تغاضى -سواء أكان قد قَصَدَ ذلك أم لم يَقْصِدْه-عن النَّقد الحقيقيّ لليهوديّة التناخيّة الحاخاميّة، من أجل تحقيق هدف رئيس بالنسبة إليه وهو قبول الدِّين اليهوديّ كما قدَّمته الأسفار المحرَّفة تبعًا لتأويلات الكهنة من أجل إثبات أنَّ هذا الدِّين عينه غير مناسب لروح حركة التنوير الأوروبيّ -التي كان كانط نفسه رائدًا من روَّادها-ولا بدّ لهذا السَّببِ من إفساح المجال للبروتستانتيّة اللوثريّة.
لم يميّزْ كانط بين اليهود وبني إسرائيل، ولم يُعْنَ بالتساؤل عن حقيقة وجود ممالك يهوديّة غابرة في فلسطين، ولم يفحص عن صدقيّة وجود شعب يهوديّ مزعوم عاش فعلًا في هذه الممالك، ولم يستقص إن كان وجود عرق يهوديّ مجرد وهم، هذا إلى أنَّه لم يكترث بإمكانية أن تكون أسفار التوراة قد خضعت للتحريف، كما لم يهتم بتقديم أي تحليل نقديّ للتفسيرات الحاخاميَّة للتوراة، ولا يمكن تفسير إهمال كانط لهذه الموضوعات، إلا بأنَّه وجدَ فيها ضالته ليثبت قصور اليهوديّة انطلاقًا من منطوق نصوصها ليفسح في المجال لحلول البروتستانتيّة اللوثرية محلّها كديانة عالميّة مناسبة لحركة التنوير الأوروبيّ.