يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1930–2002) أن "أقوى أشكال السلطة هي تلك التي تنجح في فرض نفسها بوصفها بديهياتٍ لا تناقش". من هنا يمكن القول إن الدولة تمارس نفوذها لا عبر مؤسساتها الظاهرة فقط، إنما أساساً عبر قدرتها على إنتاج التصنيفات والمعاني واللغة التي يفهم الناس بها العالم من حولهم. في هذا الإطار تصبح الأجهزة الأمنية والاستخباراتية جزءاً من هذا الاحتكار الرمزي؛ فهي التي تحدد ما يسمى تهديداً، وما يعرَّف استقراراً، ومن يقدَّم عدواً، ومن يُصاغ شريكاً. وحين تحتكر الدولة القدرة على تسمية الواقع، فإنها تحتكر في العمق القدرة على إعادة تشكيل الحقل السياسي نفسه.
من هنا ينبع سؤال هذا المقال: كيف أعادت لحظات التحول الكبرى التي عاشتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة تعريف وظيفة الاستخبارات، بحيث أصبحت فاعلاً يساهم في صياغة "حقيقة الشرق" وإعادة توزيع النفوذ؟
شكّل هجوم حركة "حماس" الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 لحظة انهيار معرفي داخل البنية الاستخباراتية الإسرائيلية؛ فالجهاز الذي اعتاد تقديم نفسه بوصفه الأكثر اختراقاً لـ"الشرق" وجد نفسه أمام مأزق غير مسبوق؛ عمى شبه كامل عن استعدادات الحركة، وعن اللحظة التي ستتبدل فيها قواعد الاشتباك جذرياً. في قلب هذا الفشل برز ما جرى تجاهله سنوات طويلة وهو تآكل "المعلومة الإنسانية" داخل غزة بعد رهان شبه مطلق على التكنولوجيا.
يتضح حجم الانكشاف أكثر حين نتذكر أن الجنرال "أهارون هاليفا"، مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، توجّه في خريف العام 2023 إلى مقر المخابرات الفرنسية في باريس، في زيارة كانت محاولة لتعويض نقص حاد في المعرفة. وبحسب مصادر فرنسية، احتفظت باريس بشبكة مصادر داخل القطاع، أثبتت قيمتها في اللحظة التي رأت فيها إسرائيل أن كل شيء ينهار. جزء من هذه الشبكة كان يمر عبر الفعاليات التي ينظمها "المعهد الثقافي الفرنسي" في غزة.
ووفقاً لمصدرين عملا في هذا الجهاز، توجه عناصر سريون فرنسيون لاحقاً أيضاً إلى غزة، هذه المرة تحت غطاء إنساني. تزداد الصورة وضوحاً حين نعلم أن دافيد برنياع، مدير جهاز الموساد، مرّ هو أيضاً بباريس قبل أيام من الهجوم، حاملاً ملفاً يتعلق بخطة تمويل لغزة لم يُكتب لها أن تستمر. كانت تلك التحركات اعترافاً بأن احتكار المعرفة داخل غزة لم يعد إسرائيلياً خالصاً، وأن باريس أصبحت – ولو بصمت – شريكاً معرفياً لا يمكن تجاهله.
مع ذلك، ورغم التقارب بين الجهازين الفرنسي والإسرائيلي، جرى استهداف المعهد الفرنسي في غزة بضربة إسرائيلية، ثم اقتحمت قوات الجيش الإسرائيلي المبنى، وصودرت ملفات ثقافية وأجهزة كمبيوتر تحتوي على معلومات مرتبطة بأنشطة استخباراتية كانت فرنسا تقوم بها داخل القطاع. هكذا تحوّل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر من حدث أمني إلى لحظة أعادت توزيع القدرة على تسمية الواقع في غزة؛ من يملك المعلومة يملك المفاتيح الأولى لإعادة رسم خريطة التهديد.
ما حدث لإسرائيل في غزة وجد صداه – وإن بصيغة مختلفة – في التجربة الفرنسية في سورية. حين أغلقت باريس سفارتها في دمشق عام 2012، ظن صانعو القرار أنهم يتخذون موقفاً سياسياً وأخلاقياً ضرورياً. لكن الأجهزة رأت في هذه الخطوة خروجاً قسرياً من ساحة لا يمكن مغادرتها. أحد كبار المسؤولين في جهاز الاستخبارات قال لاحقاً، بحسب تقارير إعلامية فرنسية: "إغلاق السفارة جعلنا عمياناً وصمّاً في سوريا". هذا الوصف يلامس جوهر ما يسميه بورديو "فقدان القدرة على تسمية الواقع". فالدولة التي تفقد نافذتها على الميدان تفقد معها لغة تفسيره، فتضطر لاستعارة هذه اللغة من أجهزة أخرى.
بهذا المعنى أصبحت فرنسا تعتمد شبه كلياً على "جهاز الموساد" للحصول على المعلومات المتعلقة بالجنوب السوري، ومسارات المقاتلين، والميليشيات، والجماعات المتشددة. نشأت علاقة معرفية غير متكافئة؛ باريس بحاجة إلى المعلومة، وتل أبيب قادرة على توفيرها.
لكن هذا الوضع لم يكن قابلاً للاستمرار. فرنسا كانت تحتاج إلى موطئ قدم تستعيد منه جزءاً من قدرتها على الرؤية المباشرة. في هذا السياق تشغل باريس في شرق المتوسط سفناً ومنصات مخصصة لجمع المعلومات الاستخباراتية. وقد صرّح الجنرال كريستوف غومار، القائد السابق لإدارة الاستخبارات العسكرية بين عامي 2013 و2017، بأن "الإسرائيليين يعتبرون أننا نقدّم عملاً جيداً في جمع المعلومات"، في إشارة إلى أن فرنسا لا تكتفي بالمعطيات الإسرائيلية، بل تعتمد مقاربة متعددة المصادر.
باريس تحلل البيانات التي تجمعها عبر قدراتها الاستخبارية في قبرص، إلى جانب ما تنتجه حملاتها الجوية من رصد لسورية وجنوب لبنان. هذه القدرات سمحت لها تدريجياً باستعادة جزء من استقلاليتها التحليلية. ومع تراكم هذه الأدوات، تحولت قبرص – بموقعها ومحطاتها الاستطلاعية – إلى "دمشق جديدة" توفر لفرنسا نافذة متقدمة على المشرق، وتعيد لباريس توازنها الاستخباري الذي كانت قد فقدته خلال السنوات الماضية.
هذا التحول في أدوات الرؤية كان مقدمة ضرورية لتحول مواز في أدوات الفهم السياسي، خصوصاً مع اقتراب الساحة السورية من لحظة انفجار كبرى. حين بلغت التحولات ذروتها مع سقوط نـظام الأسد، بدا أن المشهد كله يدخل مرحلة جديدة تتجاوز الأمن إلى إعادة هندسة المعنى السياسي نفسه. في الساعات الأولى لما يمكن تسميته "الفراغ السوري الكبير"، تحركت باريس بحذر حتى لا ينقلب الوضع السوري على الداخل الفرنسي. فحتى لو سبقت برلين العاصمة الفرنسية بخطوات، فإن دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الإليزيه للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانت لحظة تأسيسية لاختبار قدرة فرنسا على إنتاج سردية جديدة عن سورية.
برأي كاتبة هذه السطور، كان اللقاء في جوهره لقاءً استخبارياً قبل أي شيء آخر؛ إذ حاولت الأجهزة الفرنسية أن تعيد التعرف إلى رجل يعرف تضاريس الشمال السوري معرفة لا يملكها أحد في الغرب اليوم، ويعرف تنظيم داعش من الداخل، ويمتلك شبكة علاقات لا يستطيع أي طرف غربي الوصول إليها من دون وسيط. وفي الوقت نفسه، وفّر اللقاء مساحة لتعارف الأجهزة الاستخباراتية إلى بعضها مجدداً، ولإعادة اختبار حدود التنسيق الممكن في مرحلة سورية يعاد بناؤها على عجل.
في هذا الإطار أعتقد أن باريس لم تكن تختبر "الشرع" كشخص بقدر ما كانت تختبر إمكانية النفاذ عبره إلى بيئة خرجت من الخرائط الرسمية ودخلت في منطق الشبكات غير المرئية. هنا يظهر أثر بورديو مجدداً؛ الدولة لا تتعامل مع الفاعلين كما هم، بل تقرر كيف تعرّفهم، وكيف تصنع حولهم "حقيقة سياسية" قابلة للاستخدام. لم تكن باريس معنية بالشرع كاسم فردي، بل بالوظيفة الرمزية والسياسية التي يمكن إنتاجها منه، وبالقدرة على تحويله إلى تصنيف يساهم في إعادة بناء سرديتها عن المرحلة السورية الجديدة.
هذا التوجه لم يمر من دون ثمن؛ فالتقارب مع الشرع أحدث انقساماً في البرلمان الفرنسي، وهاجم بعض النواب وزير الخارجية جان نويل بارو، معتبرين الخطوة "مخاطرة أخلاقية وأمنية". مع ذلك لم تتراجع الأجهزة. بدا أن إيمانويل ماكرون، مدفوعاً بتقديرات استخبارية أكثر مما هو بحسابات سياسية داخلية، قرر المضي في إعادة بناء صورة الشرع عبر سلسلة اختبارات متدرجة؛ من ملف المقاتلين الأجانب في إدلب، إلى قياس قدرته على الانخراط في التحالف ضد داعش.
بهذا المعنى كان التقارب جزءاً من عملية تصنيع متعمقة لـ "فاعل سياسي" جديد يناسب إعادة بناء النفوذ الفرنسي في منطقة تتبدل هياكلها بسرعة. ورغم التوترات الداخلية التي تضعف النفوذ الفرنسي الظاهر، يبقى دور باريس الاستخباري صعب الاستغناء عنه بالنسبة إلى إسرائيل وأوروبا وشرق المتوسط. فبينما تغرق تل أبيب في وعود الذكاء الاصطناعي، تعرف أجهزتها أن لا خوارزمية تعوّض بلداً يمتلك تاريخاً طويلاً من الوصول إلى سورية ولبنان ومساحات لا تستطيع إسرائيل دخولها مباشرة. وقد لخّص إيرن ليرمان، أحد أبرز وجوه الأمن القومي الإسرائيلي، هذه الحقيقة حين اعترف بأن قدرات إسرائيل "ليست لا نهائية"، وأن فرنسا تبقى شريكاً لا يُستغنى عنه.
في النهاية تتضح حقيقة مركزية؛ معارك الشرق الأوسط تُخاض اليوم بالمعرفة قبل السلاح، وبمن يملك القدرة على صياغة الواقع قبل السيطرة عليه. هذا ما يجعل عبارة بورديو أكثر راهنية اليوم؛ فالقوة صارت في الدولة التي تعرّف ما يحدث وتفرض تعريفها على الآخرين، لا في الدولة التي تتحرك بلا لغة تشرح ما تفعل.
هكذا يعود السؤال إلى جوهره: من يملك اليوم سلطة إنتاج "حقيقة الشرق"؟ من يملك المعلومة، أم من يملك القدرة على تحويلها إلى معنى؟ في عالم يتشكل من تحت الرماد، تبدو الإجابة أبعد من أن تكون حكراً على قوة واحدة؛ بل موزعة على شبكة من الأجهزة تعيد رسم الخريطة في الظل، قبل أن تظهر الخطوط على السطح.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].