عام 2001 وعقب عرض مسرحية "المتنبي" للرحابنة، وفي لقاء تلفزيوني مع منصور الرحباني سأله المذيع ماذا كانت طائفة المتنبي؟ تردد الرحباني قليلاً ثم قال: لقد كان علوياً. عقّب المذيع ومعد البرنامج قائلا: يقال إنه كان اسماعيلياً.
عاد الرحباني وأكّد ببطء وبصوته الرخيم، قائلاً: لقد كان علوياً.
لم أجد مبرراً لهذا السؤال، فما علاقة الإبداع بالانتماء الطائفي!؟ خاصة وأنه في ذلك الحين لم تكن قد استشرت النزعات التي نعاني منها اليوم، وكان خطاب الانتماء الوطني هو السائد.
في اليوم التالي قال لي أحد زملائي مازحاً: لم أعد أحب المتنبي، تصوّر يا رجل أنه كان علوياً..
بالمقابل فاجأتني الخيبة التي اعترت أحد شعراء البحور حين عرف أن الفرزدق مدح أمراء بني أمية: سليمان بن عبد الملك والوليد بن عبد الملك بن مروان، ومدح يزيد بن عبد الملك وبشر بن مروان، حتى أنه مدح الحجاج بن يوسف الثقفي.
وقد قال بالحرف: لا بد أن القصائد منحولة، فلا يمكن لمن يمدح علي زين العابدين أن يمدح هؤلاء..
عادت إلى ذهني الحادثتان مؤخراً مع ما وصلـت إليه الحالة السورية من تداعي الانتماء الوطني وصعود الانتماء الطائفي.
من الطائفية المقنعة إلى المتفشية السافرة
على مدى سنوات طويلة كانت مقاربة الطائفية في سورية تتم بحذر ووجل، حتى الدراسات التي تتناول المسألة الديموغرافية والأنثربولوجية، والتي من المفترض أن تسمي الأشياء والأحوال بمسمياتها؛ لم تكن محبذة في الدوريات والكتب الصادرة في سورية.
ومن يفعل ذلك على الصعيد الشعبي؛ في الشارع أو في أي مكان عام، أو على الصعيد الرسمي إن كان في وظيفة أو في أي جهة عامة أخرى، كان يسارع إلى الاعتذار وإحالة الأمر إلى التندر والمزاح.
كان السؤال الأكثر انتشاراً والأكثر مباشرة وجرأة بما يخص الانتماء هو: من أين أنت؟ رغم أن الإجابة لا يمكن أن تحمل معلومة دقيقة تفيد بالانتماء الطائفي في ظل التنوع الديموغرافي الطائفي والإثني السائد في كل المناطق السورية.
يمكن القول إن التغيير في هذا الأمر بدأ يأخذ منحى آخر مع بدء الأزمة السورية، حيث بدأت المجاهرة بمسألة الانتماء الطائفي وذلك في سياق الاصطفاف السياسي الذي ساد الواقع السوري وتحوّل بسرعة إلى اصطفاف عسكري، وفي سياق هذا تم تبادل الاتهامات التي تتناول الحالة الوطنية لأطياف المجتمع السوري، فقد رأينا اتهامات تشكك بالانتماء الوطني لطائفة من قبل طائفة أخرى وبالتبادل.
بعد سقوط النظام السابق الذي كان يتظاهر أنه ليس طائفياً، وهو فعلاً لم يفضّل طائفة على أخرى إلا في سبيل مصالحه، وكان يطبّق ترويكا طائفية غير معلنة على كافة المستويات في أجهزة الدولة، طفحت الطائفية في الخطاب البيني السوري، وعلى كل السويات وفي كل المجالات؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على المستوى الشعبي والرسمي، وهذا كان متوقعاً مع وصول تيار يقوم على أيديولوجيا دينية تخص طائفة بعينها، تيّار موصوم بالتطرف، إلى السلطة، وذلك في سياق الفعل ورد الفعل، فتبني جهة ما للطائفية لا بد أن يفرز طائفية مضادة ولو بعد حين.
مثقفون في مهب التعاطي الطائفي
لم تقتصر الطائفية على الفعاليات التي ذكرناها، بل رشحت إلى الناحية الثقافية، كان ذلك مفاجئاً للبعض، والمفاجأة هنا تأتت من الحوار الذي كان يدور بين المثقفين السوريين من كافة الأطياف، ففي خضم هذا الحوار تبيّن النزوع الطائفي لكثير من المثقفين الذين كانوا يعرفون بالتنوير والعلمانية، هذا النزوع الذي تبلوّر فيما بعد في مواقف واضحة؛ وأداء وتصرفات طائفية صريحة لم تعد ترى ذلك عيباً أو خطأً ولا تخجل من ذلك.
أغلب الحوارات كانت في البداية تتسم بالعقلانية والمنطق البعيد عن الطائفية وتبني الطروحات التي تعزز الانتماء الوطني، لكنها يوماً إثر يوم بدأت تتبدّل وكأن هناك ما استيقظ في نفوس بعض المتحاورين، فالنزوع الطائفي كان موجوداً ومكبوتاً، كأنه كان نائماً فقط وأتى من يوقظه.
في تلك الحوارات والتي شاركت في بعضها، تم استحضار الحساسيات الطائفية المزمنة والاتهامات المعروفة باحتضان النظام البائد والتشكيك بمصداقية الانتماء من قبل مثقفين معروفين، ووصل الأمر بالبعض في إحدى جلسات الحوار إلى المطالبة بضرورة تفكيك الخطاب العلوي وتخليصه من خرافاته من قبل أحد مثقفي الطائفة السنية، ورد عليه مثقف علوي أن خرافات الخطاب العلوي ليست قاتلة، الأهم أن نتخلص من خرافات الخطابات القاتلة.
تصاعد التوتر الطائفي في تلك الحوارات وفي التعاطي بين المثقفين بشكل مباشر وغير مباشر، واستحضرت شخصيات تاريخية أدبية ليدور السجال على صفحات السوشال ميديا حول انتمائها الطائفي كأبي نواس وأبي فراس الحمداني والفرزدق وعلي بن الجهم وغيرهم، وفي الواقع صار الفرز الطائفي لدى الكثير من المثقفين واضحاً، وصارت أية خطوة أو إجراء يتم اتخاذه يفسّر طائفياً.
مثال ذلك، عندما قام رئيس اتحاد الكتاب العرب بفصل عدد من المنتسبين إليه، أعاد الكثيرون ذلك إلى دافع طائفي، رغم أن قائمة المفصولين كانت تضم كتابا من أطياف المجتمع السوري كافة.
لمست ذلك عقب نشري منشوراً تناولت فيه كيفية انتساب الكاتب "حسن م يوسف" للاتحاد حيث مُنح العضوية بشكل فخري من قبل رئيس الاتحاد حينها، المرحوم "نضال الصالح" وقد كنت حاضراً وشاهداً على ذلك، ورأيت أنّ ذلك "التنسيب" أثار أسئلة عدة حينها، فكيف لكاتب بحجم يوسف ألا يكون عضو اتحاد حتى ذلك الوقت؟ إمّا أنه لم يكن يرغب بذلك وإمّا أنه تقدّم ولم يقبل وهذه مفارقة، فكيف لمثله ألا يقبل؟ وكيف قبل بالعضوية الفخرية؟
سارع أحد الأصدقاء إلى الاتصال بي ولامني على ما نشرت قائلاً: حسن م يوسف فصل طائفياً وأنت بما نشرت تتفق مع ذلكّ!؟
لا بد من القول أنه إن صح أن الأمر وإن لم يصح تمّ بدافع طائفي، فرد الفعل كان طائفياً أيضاً فأغلب من تنطعوا للدفاع عن أسماء من طائفة معينة لم يذكروا أسماء المفصولين من الطوائف الأخرى.
كذلك قرأنا تصريحات تخص أعمالاً أدبية ودرامية أعيدت إلى الدافع الطائفي ومنعكسه السياسي كتصريح مدير المسارح في وزارة الثقافة والذي تناول فيه مسلسلي "ضيعة ضائعة" و"الخربة".
الاحتفاء بالآخر البعيد ورفض الآخر القريب
توضح تبني الطائفية في الوسط الثقافي في قضية ترشيح أدونيس لجائزة نوبل للآداب، فقد أثار هذا الترشيح ردود أفعال متباينة؛ القليل منها تبنى وجهة نظر قائمة على أساس أدبي، نقدي أو متعلق بالذائقة فقط، بينما رأينا تعليقات كثيرة بصبغة طائفية، و الطائفية هنا تجلت في الحكم على أدونيس بناء على منبته و انتمائه الذي لا محيد عنه حتى و لو لم يتبن هو ذلك، فأدونيس رافضي و من فئة سعى البعض لحصرها في إطار اجتماعي وسياسي معين، فهي مهزومة بنظرهم وفوز أدونيس سيشكل عاملاً لتعويمها وإكسابها سمة جديدة، ثقافياً واجتماعياً على الأقل.
في المقابل نحى مثقفون آخرون المنحى الطائفي بما يخص قضية أدونيس، وهم من طائفته بطبيعة الحال، فقد تمّ تبنيه من قبل هؤلاء ومنهم من رفضه سابقاً، وذلك بدافع إثبات وجود الطائفة ثقافياً ومعرفياً وعلى نطاق عالمي بعد محاولات طمس وجودها سياسياً وتحميلها عبء ممارسات النظام البائد، فأدونيس في رأيهم حال فوزه سيشكل رافعة للطائفة.
المؤسف أن الكثير من الآراء التي طرحت لم تقم على أساس أدبي، ولا نقصد تلك الآراء التي صدرت عمن ليس لهم علاقة بالأدب؛ بل من أدباء ونقاد معروفين.
بعد فوز الكاتب المجري "لاسلو كراسناهوركاي" تباينت الآراء بخصوص أدونيس بين الأسف والارتياح، إن لم نقل الشماتة، وكأننا هنا في مهب مقولة القريب والبعيد، لكنها هنا معكوسة فالآخر البعيد مفضّل ومحبّذ عمن يعتبر "الآخر" القريب.
من المؤسف أن يصل الاستقطاب الطائفي في الوسط الثقافي إلى هذا الحد، ألاّ نستطيع التوافق على شخصية ثقافية سورية بانتمائها وأيديولوجيتها، وهي وجه من وجوه سورية الثقافية والمعرفية عالمياً بما حققته، ونختلف أيضاً حول قضايا ثقافية وشخصيات تاريخية على أساس طائفي. في الوقت الذي كان من الممكن أن يكون المثقفون عاملاً فاعلاً في تصويب الخطاب الطائفي اللاوطني.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].