استهلال نظريّ (ممل كليًا)
بدأ الأدب الروسيّ بألكساندر پوشكن (1799-1837). هذا ما يتوافق عليه قرّاء الأدب الروسيّ ودارسوه، بل وكتّابه أيضًا. لا يعني هذا بطبيعة الحال خلّو روسيا من أعمال أدبيّة قبل پوشكن، ولكن لا بدّ لنا – كما فعلنا حيال الأدب الأميركيّ – أن نفرّق بين الأدب في روسيا وبين الأدب الروسيّ. وهنا نستحضر سؤالًا مهمًا: كيف نؤرّخ للأدب؟ لا يولد الأدب بمجرّد وجود أعمال أدبيّة متناثرة، بل يولد بولادة عباقرة يتشرّبون كلّ ما كان قبلهم ليُنتجوا أدبًا يؤسِّس لمن بعدهم. في حالة الأدب الروسيّ، يشير المؤرّخ الروسيّ دمتري س. ميرسكي، وهو أحد أهم مراجعنا في تاريخ الأدب الروسيّ، إلى أنّ عبارتَيْ «الأدب الروسيّ» و«الأدب الروسيّ الحديث» مترادفتان. صحيحٌ أنّ ثمّة كتابات متناثرة ظهرت منذ القرن الحادي عشر إلا أنّها استثناءات تؤكّد القاعدة: بدأ الأدب الروسيّ في القرن التاسع عشر. لعلّ المُراد يتّضح أكثر لو طبّقنا الأمر ذاته على الشِّعر العربيّ، إذ سنجد أنّ عموم الرّواة والنقّاد اتّفقوا على أنّ الشِّعر العربيّ بدأ بمهلهل بن ربيعة، وبالمرقّشين الأكبر والأصغر، الذين مهّدوا للبداية الفعليّة التي كانت مع امرئ القيس (وبشعراء المعلّقات، إذ لا نملك ترتيبًا كرونولوجيًا صارمًا لتلك الفترة). وبالرغم من معرفتنا استنادًا إلى مصادر عديدة بوجود عشرات الشّعراء السابقين على مهلهل والمعاصرين له، إلا أنّنا نؤرّخ للشعر به وبمن بعده. ويكمن في هذا الاختيار جانبان مهمّان: أولًا، لا يُؤرَّخ للشِّعر (والأدب) إلا بالكمّ والكيف معًا: بقصائد كاملة، لا بمجرّد أبيات مبثوثة هنا وهناك (مهلهل «أوّل من قصَّد القصائد»، أي القصائد الطوال التي قيلت من أجل الشّعر ومن أجل غايتها الوقتيّة في آن)؛ وثانيًا، يُؤرَّخ للأدب بالتّدوين، حيث نجد ذلك الحدّ الصارم بين ما هو شفاهيّ وما هو مُدوَّن، وبين ما هو مغمور وما هو مشهور. ولد الأدب بولادة التّدوين، إذ لا يعترف تاريخ الأدب بالذاكرة ولا بمجرّد وجود نظّامين قرضوا شيئًا من الشّعر أو الأناشيد. يعيننا ابن قتيبة هنا في الشعر والشعراء حين يقول: «فأمّا مَنْ خفي اسمه، وقلَّ ذِكْره، وكَسَدَ شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواصّ، فما أقلَّ مَنْ ذكرتُ من هذه الطّبقة». أثار هذا الفصل وسيثير جدالات لن تنتهي حيال ماهيّة السُّلطة التي يقع على عاتقها الانتقاء والتّدوين: لمَ فلان وليس فلان؟ هنا يأتي دور «الردّ بالكتابة»، وهو مصطلح موجودٌ منذ بدء تدوين تاريخ الأدب وليس محصورًا بدراسات التّابع أو مابعد الكولونياليّة. كلُّ مراجعةٍ لمراحل التّدوين السابقة في تاريخ الأدب ردٌّ بالكتابة على سُلطة الماضي ومحاولةٌ لإرساء سُلطة جديدة. لهذا اندلعت حرب المعلّقات: هل هي ستّ أم سبع أم عشر؟ وتلتها المفضّليّات التي سعى المفضّل الضبّيّ فيها إلى تدوين المطوّلات التي لم يكن لها – على عظمتها (وبعضها أجمل من بعض المعلّقات) - حظ الترقّي إلى مكانة المعلّقات، وتلتها الأصمعيّات التي أراد منها الأصمعيّ تدوين ما غفل عنه المفضّل، وغيرها وغيرها، وصولًا إلى التواريخ الحديثة للأدب. ولكن، بصرف النّظر عن ماهيّة السّلطة السياسيّة والاجتماعيّة التي فرضت تاريخًا شبه أوحد للأدب العربيّ، نجد أنّ المناوشات لم تَطُلْ بنية التّدوين في ذاتها، بل طالت الخيارات فقط. أي أنّ ثمة إجماعًا تأريخيًا وجماليًا على صحّة القاعدة، وترك الاختلافات للتفاصيل فقط، وكأنّ الجميع اتّفقوا ضمنًا على أنّ التّدوين يعني بالضّرورة تكريس الأعظم جماليًا وثقافيًا؛ أي أنّ الشفاهيّ غُربِل غربلةً غير مباشرة بحيث بقي منه ما يهمّ فقط، أيًا تكن المرجعيّات والسرديّات التي استند إليها الانتقاء والتّدوين. ولعلّ الأمر يصحّ حتّى على الأدب الرافديّ والإغريقيّ، ولكن هذا موضوع مستقل.
استهلال نظريّ (مملّ جزئيًا)
لو عدنا إلى الأدب الروسيّ بعد اتّفاقنا على القرن التاسع عشر، سينتأ سؤال آخر: لماذا پوشكن؟. يتّفق معظم الدّارسين على بضعة أسماء مهمة سبقت پوشكن، لا يبقى منهم بعد الغربلة الدّقيقة إلا اسمان ربّما: نيكولاي كرامزن (1766-1826)، وڨاسيلي جوكوفسكي (1783-1852). يُقصى الأول لأنّ اهتمامه الأساسيّ لم يكن الأدب بل التاريخ، وبذا فإنّ الأجدى له ولنا إدراجه ضمن قائمة المؤرّخين؛ إقصاء الثاني ليس عمليّةً بسيطة كسابقتها لأنّه شاعر مهم كرّس معظم مسيرته للأدب كتابةً وترجمةً علاوةً على كونه سبق پوشكن بعقد كامل. لا بدّ لنا هنا من مقارنةٍ فنيّةٍ صارمةٍ بينه وبين پوشكن، والفنّ في نهاية المطاف صراع داروِنيّ يكون البقاء فيه للأصلح. لم يقدّم جوكوفسكي على أهميّة نتاجه «قصيدةً روسيّة» بقدر ما منحنا نسخًا أوروبيّة مكتوبة بالروسيّة. الفارق ليس ضئيلًا، فالأدب – مرةً أخرى – يُؤرَّخ بمدى أصالة كتّابه. كان علينا أن ننتظر عقدًا أو أقل كي تظهر أولى القصائد الروسيّة الأصيلة التي كرّست الأدب الروسيّ. كان علينا أن ننتظر ألكساندر پوشكن الذي كان جوكوفسكي بالذات أوّل مَنْ أقرّ بأصالته وعبقريّته وبكونه «التّلميذ الذي هزم أستاذه». لماذا پوشكن مرة أخرى؟ فلنستعن بابن قتيبة من جديد، إذ يقول: «لم يكن لأوائل الشّعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة». لن أحاول ليّ عنق كلام ابن قتيبة لصالح «الفنّ للفنّ»، ولكنّه يشدّد صراحةً على أنّ الشِّعر (بمعزل عن قليله أو كثيره) لا يكون لمجرّد غاية وقتيّة، ينتهي بانتهائها، بل ينبغي أن يكون مستقلًا عن غايته، وأن يكون وشاعره ممّن يُعتدّ بهم و«يقع الاحتجاج بأشعارهم»، لا أن يكون محض مرحلةٍ ممهِّدةٍ لغيرها، بل أساسًا يقوم عليه كلُّ ما ومَنْ بعده. هنا بالذات نلتقط فرادة پوشكن. حسنًا، لماذا عام 1820، وپوشكن بدأ الكتابة قبلها ببضعة أعوام؟ نعود هنا أيضًا إلى مسألة الغربلة، سيّما وأنّ پوشكن أحد أكبر المغربلين في الأدب الروسيّ. نظنّ – نحن الذين لا نقرأ الروسيّة – أنّ نتاج پوشكن ضئيل، على الأخص بسبب الأعمال العديدة التي بقيت غير مكتملة. ولكنّ پوشكن شاعر قبل أن يكون قاصًا ومدوّن رحلات ومسرحيًا، وما تزال معظم أعماله الشّعريّة خارج بوصلة التّرجمة بالرغم من غزارتها المرعبة، إذ طُبعت أعماله الكاملة بالروسيّة في طبعات مختلفة تراوحت بين 6 مجلّدات و20 مجلّدًا. 20 مجلّدًا ونحن نتحدّث عن شاعر مات في السابعة والثلاثين، ولكنّ پوشكن غربل معظم تلك القصائد حين قرّر نشرها في دواوين. بل إنّه أرجأ نشر دواوين القصائد الغنائيّة القصيرة إلى نهاية عشرينيّات القرن التاسع عشر، بعد أن كان قد كتب ونشر قصائده السرديّة الطويلة التي ينبغي لنا تأريخ مسيرة پوشكن، ومسيرة الأدب الروسيّ بها. وبذا فإنّ ولادة الأدب الروسيّ كانت مع قصيدة رُسلان ولودمِلا التي نشرها عام 1820، وسأتناولها هنا بشيءٍ من التّفصيل.
أسامينا
أوّل ما يلفتنا في رُسلان ولودملا أمران متضافران: التّصنيف والعنوان. يقوم العنوان على اسمَيْ البطلين، وبذا سينحصر توقّعنا في كونها قصيدة تروي قصة حب كما اعتدنا في القصائد الرومانتيكيّة الأوروبيّة. ولكنّ أهميّة پوشكن هي في كونه «شاعرًا-خالقًا» لا يكتفي بالرّكون إلى التّصنيفات المكرّسة بل يُكرِّس بأعماله تصنيفات جديدة كما كانت عليه الحال مع أقرانه الأوروبيّين الذين تُعقَد المقارنة بينهم على الدّوام: دانتي، گوته، تشوسر. لم يكتف هؤلاء بالتأسيس لأدبٍ قوميٍّ بل أعادوا خلق لغاتهم، أو – لو شئنا الدقّة – خلقوا آدابهم حين أعادوا خلق لغاتهم، إذ لم تعد الإيطاليّة والألمانيّة والإنگليزيّة (على التّرتيب) بعدهم كما كانت قبلهم، وكذا كان الأمر بالنّسبة إلى پوشكن الذي أعاد خلق اللغة الروسيّة وحوّلها من مجرّد لغة كلام إلى لغة أدب كشفت لجميع الكتّاب اللاحقين أنّ الأصالة تعني بالضرورة الحفر الجادّ في اللغة القوميّة بغية خلق أدب جديد ينأى عن التصنيفات التي كانت اللغات الأدبيّة الأقدم قد كرّستها. وسيتّضح لنا هذا الأمر لو حاولنا تمييز تصنيف هذا العمل. نتّفق على كونها قصيدة بطبيعة الحال، ولكن أيّة قصيدة هي؟ لا تفيدنا تواريخ الأدب الروسيّ ولا حتّى الترجمات هنا، إذ قُدِّمت القصيدة بتصنيفات عديدة: ملحمة؛ قصيدة سرديّة؛ ميثولوجيا؛ خُرّافيّة (fairytale)؛ رواية شعريّة. كان پوشكن أوّل مَنْ حطّم الأجناس الأدبيّة ليمهّد الطريق أمام الكتّاب اللاحقين الذين اقتفوا خطواته، بل وتمرّدوا أحيانًا على الأجناس التي كرّسها، بحيث يمكن لنا – مقتفين كلام تولستوي – أن نُعرِّف الأدب الروسيّ بكونه أدب تحطيم الأجناس. ولو انتقلنا إلى تصنيف التّصنيف سنواجه الإشكاليّة ذاتها: هل القصيدة ذات روح رومانتيكيّة أم هي استعادة لأدب الفروسيّة (الرومانس) أم هي قصيدة «قوميّة» أم هي مزيجٌ من هذه التصنيفات كلّها؟ البطلان شابان: لودملا في السابعة عشرة ويمكن لنا تخمين أنّ رُسلان يكبرها ببضع سنوات فقط، أي نحن أمام قصة حب؛ البطلان من الطبقة الأرستقراطيّة، أي أنّنا أمام أدب رومانس؛ اسم رُسلان مُشتَقٌّ من التّركية (أرسلان أو أصلان) ويعني «الأسد»، واسم لودملا سلاڨيٌّ يعني «حبيبة النّاس» أو «حبيبة الشّعب»، وتتعرّض مدينتهما كييف إلى حصار ينجح البطل رُسلان في فكّه ودحر الأعداء، أي أنّنا أمام قصيدةٍ قوميّة. ويمكن للقارئ اكتشاف تصنيفات أخرى بنفسه مع إعادة قراءة القصيدة بكلّ تفاصيلها.
بلغني أيّها الملك السّعيد
رُسلان ولودملا تتويجٌ لمرحلة الشّباب الأول عند پوشكن. وكما أشرتُ أعلاه، إنّها عصيّة على التّصنيف لأنّ پوشكن صبَّ فيها مرجعيّاته الثقافيّة كلّها التي نهلها من القراءات المكثّفة ومن الدّراسة في ثقافة فرنسيّة. ولكن بمعزل عن المرجعيّات الواضحة من أدب الرومانس والشّعر الرومانتيكيّ، قصيدة پوشكن تسبح في بحر شرقيٍّ أثرى وأعمق من تلك المرجعيّات: بإمكاننا قراءة رُسلان ولودملا بكونها صدًى روسيًا من أصداء ألف ليلة وليلة التي انتشرت في العالم كلّه. ثمّة إشارات صريحة إلى شهرزاد بوصفها النموذج العصيّ على البلوغ من ناحية براعة الوصف وسعة الخيال إذ يُقرّ پوشكن بأنّ قصيدته، على خيالها المدهش والجامح، لن تبلغ بهاء شهرزاد ولياليها. ولكنّ الإشارات الصريحة ليست كلّ شيء، إذ لدينا أعمال لا حصر لها ظنَّ كتّابها أنّهم ينهلون من الليالي بينما هم لا يقدّمون إلا محض صورة باهتة لها. رُسلان ولودملا عمل من طبقة أخرى، لم يركن فيه پوشكن إلى السّرد الكرونولوجيّ التّقليديّ الذي يَسِم أدب الرومانس، بل أدخل في كلّ نشيدٍ من الأناشيد الستّة في القصيدة قصة منمنمة مستقلّة عن مسار السّرد الأصليّ، وشديدة الارتباط به في آن، لا تنتهي أيٌّ منها بانتهاء حدثها بل تتغلغل في جسد القصيدة الأصليّة بحيث تعمل عمل مرآة لشخصيّتَيْ رُسلان ولودملا، ولروسيا القرن التاسع عشر عمومًا. نقرأ في النّشيد الأول قصة العجوز الفنلنديّ وحبيبة صباه ناهينا التي ستتحوّل لاحقًا بحيث تمسي عدوّته الأشرس. تروي قصّتهما ازدواجية الحب والكراهية وتداخلهما وتشابكهما بالتوازي مع مرور الزّمن الذي يمثّل المحكّ الأقوى في سبر أيّة علاقة، وعلاقات الحب ضمنًا. القصة مفتوحة على تأويلات عديدة، ولا مجال فيها للتّقسيم الساذج بين الأبيض والأسود. ليس مهمًا البرهنة على مَنْ هو على حق: الفنلندي أم ناهينا. فهذا ليس من مهمّة الفنّ الذي يكتفي برسم الصور ويترك الباقي للمتلقّي ومرجعيّاته النظريّة. ولكنّ النقطة الضمنيّة التي يومئ إليها پوشكن خلف ستار المفارقات والنبرة السّاخرة التي تسم قصيدته هي استحالة نشوء صراع بين حقّين: ناهينا محقّة في غضبها والفنلنديّ محقٌّ في وهمه ولكنّ الصورة لا تكتمل إلا بوجودهما معًا بكلّ بشريّتهما المتخفّية خلف قناع السّحر. ولعلّ تلك القصة إشارة پوشكنيّة ساخرة إلى المصير الذي سيطال قصة رُسلان ولودملا حين يفارقان مرحلة الشّباب ويذوقان وطأة الزمن والعجز والضّعف، ولعلّه مصير كلّ قصة حب.
نقرأ في النشيد الثاني قصة داخليّة-خارجيّة في آن، أعني قصة روگدي الذي انتقل من كونه أحد الفرسان الثلاثة المنافسين لرُسلان ليصبح خصمًا أوحد في مبارزة من أجل شهوة الحبّ ظاهريًا، ومن أجل شهوة المجد والسُّلطة فعليًا. يؤمن روگدي عبر حدس غريب بأنّ لودملا لن تكون إلا لرُسلان، وبذا لا سبيل إلى كسر هذا القَدَر إلا بقتل رُسلان. تلفتنا هنا المفارقة المؤلمة إذ نعلم أنّ حياة پوشكن انتهت أيضًا بنزال من أجل شهوة أخرى هي شهوة الشّرف التي تحوي ضمنًا شهوة المجد والسُّلطة والحب. يروي لنا ڨلاديمر نابوكوف بسخريته اللاذعة الجميلة أنّ قاتل پوشكن، الفرنسيّ البارون دانتيس، عاش ليبلغ التّسعين، وهي سنٌّ «مذهلة وغير لازمة» لمثل هذا الرجل الذي حرم روسيا من شاعرها الأعظم. يواصل نابوكوف كلامه ليوثّق سؤالًا طرحه رحّالة روسيّ على البارون الفرنسيّ بعد سنوات طويلة من المبارزة التي انتصر فيها، إذ سأله عن إحساسه حيال قتل شاعر عظيم مثل پوشكن. ردَّ البارون بنبرة عَجَبٍ: «أنا في نهاية المطاف شخص مهم أيضًا. أنا سيناتور!» المبارزتان، التّخييليّة والواقعيّة، متماثلتان إذ حدثتا دفاعًا عن الشّرف، ورسمت مصير كلّ طرف من أطرافها في ما يخص الخلود. لن يذكر التاريخ البارون الفرنسيّ إلا بكونه قاتل پوشكن، ولكنّ پوشكن أرحم من التاريخ، إذ لم يقسُ على الطرف المهزوم في مبارزة رُسلان ولودملا بل وَهَبَ لرودگي مجدًا وخلودًا آخرَيْن حين ترك لِطَيْفه أن يبقى مرتبطًا على الدوام بنهر دنيپر حيث غرق الجسد، وكأنّها إيماءة إلى أنّ الحب الپوشكنيّ يُخلِّد منتصريه وضحاياه معًا.
ونقرأ في النّشيد الثالث قصة الرأس المقطوعة الناطقة. نعلم من الحكاية التي رواها صاحب الرأس أنّه شقيق تشيرنومر الساحر الذي اختطف لودملا، وهو – أيضًا – ضحيّة لتشيرنومر كما هي حال رُسلان ولودملا. القصة هنا قصّة علاقةٍ مشوّهة أخرى، ولكنّها ليست قصة حب بل قصّة أخوّة. غدر الأخ للأخ هو الذي تسبَّب بدمار حياة صاحب الرأس، ولكنّ هذا الدّمار سيكون مفتاح نجاة رُسلان، حين يُهديه صاحب الرأس السيف الذي سيهزم سحر تشيرنومر في النّشيد الخامس، وهذا السيف هو الذي سيمنح لكييف تحرّرها من حصار الغزاة كي يُكرّس مجد رُسلان. تشابك المصائر هذا لا يقتصر على هذه الحكاية، بل إنّ القصيدة كلّها قائمة على المصائر المتضافرة التي تُرسم باجتماعها مسار الأحداث الأساسيّ. فحكاية الفنلنديّ وناهينا متداخلة أيضًا مع الحدث الأساسيّ ومع حكاية الرأس على السواء. حين نلاحق كلّ خيطٍ فرعيّ سنصل في نهاية المطاف إلى خيطين أساسيّين، تحالفين أساسيّين: الخير والشر. ولكنّ هذا ليس النقطة الأهم، إذ لا بدّ من قبول منطق الأبيض والأسود في الخرّافيّات والحكايات الفولكلوريّة. رُسلان ولودملا أكبر من مجرّد قصيدة تُخلّد الفولكلور والميثولوجيا. إنّها عمل فنيٌّ مُركَّبٌ إلى درجةٍ مدهشة بالنّسبة إلى شاعر لم يتجاوز الحادية والعشرين حين نشرها.
غنّي يا ربّة الشِّعر
التأثير المهم الثاني في رُسلان ولودملا هو تأثير هوميروس. نجد نقاط تلاقٍ كثيرةً بين ملحمتَيْ هوميروس وقصيدة پوشكن من ناحية توظيف الاستعارات والصور وتوصيف الطّبيعة التي تكون مرآةً للأحداث. لا يعني هذا بطبيعة الحال تطابقًا أو حتّى محاولةً للتماهي؛ پوشكن أكبر من الاكتفاء بتقليدٍ ساذج لهوميروس أو لغيره، وأعظم من القناعة بتماهٍ أدبيّ حتّى لو كان المؤثِّر هو هوميروس. براعة پوشكن هي في إدراكه لمفاتيح عبقريّته ولحدود عمله. رُسلان ولودملا ليست الإلياذة. ليست قصيدةً تمجيديّةً أو شاجبةً للحرب (ليس على نحوٍ مباشر على الأقل)، إذ هي أضيق من هذا الهدف. وهي ليست الأوذيسيا. لا تنشغل قصيدة پوشكن بسردٍ تفصيليٍّ لمصائر النوستوي (العائدين من حرب طروادة)، ولا لمصائر الماضي والحاضر التي سترسم المستقبل (مرةً أخرى، ليس على نحوٍ مباشر على الأقل)، إذ هي أقرب إلى سكتش سريع يوحي ولا يُفصّل. ومع هذا، يتلاقى كلٌّ من أخيليوس وأوذيسيوس في شخصيّة رُسلان. فمن جهة، رُسلان هو أعظم الأبطال، وهذا ما يدركه خصومه قبل أصدقائه وحلفائه. هذا ما ندركه منذ النّشيد الأول، ولكن كان لا بدّ من تكريس هذه الصورة أكثر في النّشيد الأخير (السادس) الذي يُصوِّرُ بطولة رُسلان في النّصر على كلّ مَنْ عاداه، على جميع الخصوم، خصوم الماضي والحاضر على السواء. ومن جهة ثانية، رُسلان هو المنفيُّ قسرًا في رحلة البحث عن حبيبته والعودة إليها. رحلة تربط الواقعيّ بالخوارقيّ، الماضي بالحاضر، الإيروس بالپاثوس، الحرب بالسِّلم. وهذا ليس غريبًا على سليل العُرف الشعريّ البهيّ الذي يبدأ بدانتي ولا ينتهي بگوته، ويمرّ بشيكسپير ورومانتيكيّة الإنگليز، ليس غريبًا على شاعر روسيا الأكبر الذي سينقل مفاتيح عبقريّته إلى كلّ كاتب روسيّ عظيم بعده، ليس غريبًا حتّى وهو ابن العشرين.
لكلّ قارئٍ تفاصيل مفضّلة من الأعمال الكلاسيكيّة العظيمة، وسيكون لكلّ قارئٍ عربيّ تفضيلاته من قصيدة رُسلان ولودملا حين تُترجَم يومًا ما. شخصيًا، جذبتني تفاصيل كثيرة في القصيدة، ولكن لم يكن لأيٍّ منها قوّة المشهد الذي يُصوِّر الحقل القاحل الذي كان يومًا مسرح حربٍ طاحنةٍ لم يبق من جنودها إلا أسلحتهم التي كاد يلتهمها صدأ الزمن. يصل رُسلان إلى هذا الحقل بعد انتصاره على روگدي في المبارزة. يصل رُسلان المُنْهَك (من رحلة المنفى والمبارزات مع حلفاء الأمس) إلى الحقل المُنهَك (من دماء القتلى وعظامهم). المشهد أسًى خالصٌ يبدو بمثابة مرآة صغيرة للأسى الذي يطوّق روسيا كلّها، ويطوّق الحروب كلّها (مُبرَّرة وغير مُبرَّرة)، ويطوّق معنى أن تعيش في دنيا تقتات على الدم كي تنجو. يصل رُسلان وقد فقد أسلحته كلّها في تلك المبارزة، فيباغته خواء الموت:
بعينينِ أسيَّتَيْن قلَّبَ الفارسُ نظراته،
«يا حقل، يا حقلًا وحشيًّا، يا مَنْ تحملُ آثار
الذَّبْح،» قالَ بتنهيدة.
«مَنْ زرَعَكَ بالعظام ولمَ؟»
ولكنّ رُسلان ليس بطلًا رومانتيكيًا محضًا، بل يحمل بذور پراگماتيّة النّجاة. منظر الموت الجاثم أمامه مرعبٌ جتمًا، ولكنّ الموتى قد ماتوا وانتهى الأمر. ثمّة رعب أكبر هو رعب الإخفاق. الإخفاق في استرداد الحبيبة، والمجد، والشرف. ولذا يُقلّب رسلان الحقلَ بيديه هذه المرّة بعد أن قلَّبه بنظراته، لا من أجل اليأس بل من أجل النجاة، ونبش أسلحة للحاضر من قتلى الماضي. أتى الحاضر لا ليرثي الماضي بل ليكسر صمته؛ سكون الموت لحربٍ بعيدةٍ قد انتهى، وبدأ ضجيج الحرب القادمة:
«قعقعةٌ نتأتْ! صليلٌ صَدَح!
السَّهْلُ من خَدَر النّوم أفاقَ.»
ليس هذا الصّليل صليلًا للحرب الظاهريّة وحسب، بل هو صليل حرب الأزمنة. سيُبعَث الحاضر من جثّة الماضي. هذا ما تقوم عليه قصيدة رُسلان ولودملا. ولكنّ القصيدة ليست معنيّةً بما إذا كان المستقبل سيكون أفضل أم لا بقدر ما هي معنيّة بوجوب وضع نقطة النّهاية لذلك الماضي الهَرِم. ندرك مع تلاحق الأحداث والأناشيد أنّ الماضي يتلاشى شيئًا فشيئًا، فجميع العجائز قد ماتوا أو ينتظرون الموت، ليُهيّؤوا المسرح للشّباب، لروسيا جديدة بمفاصل فتيّة لا صدأ فيها. الشّباب هم الذين حرّروا كييف. لم تحرّرها أدعية الشّيوخ ولا هيبة الحاكم العجوز. الشّباب هم الذين أنهوا عصر السّحر ليُشيّدوا عصرًا واقعيًا لا يربطه بالماضي إلا الذاكرة، ذاكرة السّرد الذي سيُخلِّد ما يستحق الخلود.
زادُه الخيالُ
كرَّس پوشكن ستّة أناشيد لحكايته عن رُسلان ولودملا، ولكنّه استبقى لنفسه إهداءً ومُفتَتَحًا وخاتمةً نجد فيها جذور پوشكن الإبداعيّة كلّها. صحيحٌ أنّه يندب حظه ويدّعي متواضعًا أنّه لن يبلغ شأن من سبقوه في الإبداع، ولكنّنا لا نكترث لتواضع العباقرة، بل نكترث لنرجسيّتهم العظيمة التي منحتنا أعمالًا خالدة عنّا وعنهم وعن من سبقونا وعن من سيأتون بعدنا. نرجسيّة تُقارِع الزّمن وتنتصر عليه. ينطلق إبداع پوشكن من الحكايات الفولكلوريّة، وينشغل بها إلى حدّ الهوس، لأنّه يُدرِك أنّ الفولكلور والخرّافيّات ليست محض حكايات بسيطة، بل إنّها منبع الخيال؛ والخيال لذيذٌ إلى حدّ الألم، فهو مهرب الوحيدين وملجأ الذين ستحاول الدّنيا تحطيم أحلامهم. ليس من قبيل المصادفة أنّ ماشا في مسرحيّة الشّقيقات الثّلاث تدندن مُفتَتَح قصيدة رُسلان ولودملا وتبكي. لنا أن نلعب قليلًا ونحاول تخيُّل تشيخوف وهو يكتب ذلك المشهد الموجع، وقد قرَّر مسبقًا أنّه الدور الذي ستخلّده الممثّلة أولگا كنيپر التي ستصبح زوجته. ماشا هي تشيخوف بقدر ما هي أولگا بقدر ما هي نحن، نحن كلّنا، وقد آلمتنا الأحلام، وندرك أنّ كلّ ما تبقّى لنا هو ما تركه لنا قطُّ پوشكن: الأغاني والحكايات. هي زادُ المسافرين، وكلّنا مسافرون:
«بلّوطةٌ خضراءُ عند شاطئ البحرِ؛
قد ثُبِّتتْ في جذعها سلسلةٌ من الذهبْ:
ليلاً نهاراً حولها يدورْ
قطٌّ ذكيٌّ قيّدته السلسلةْ؛
يمشي إلى اليمين يُنشِدُ الأغاني،
يمشي يساراً يسرد الحكايا»
الإحالات:
Ruslan and Ludmila, tr. Irina Zheleznova, Moscow: Raduga Publishers, 1986
- امتنانٌ خاص للدكتور نوفل نيّوف الذي سمح لي مشكورًا باقتباس ترجمته لمُفتَتَح القصيدة.