جسدٌ هناك، تحت ظل شجرة. جثةٌ أخرى مرميةٌ على حافة الطريق الآتية من بغداد، والمؤدية، بلا عودة، إلى العدّم. رجلٌ في عقده الثالث، يرتدي قميصاً أزرق لفريق كرة قدم، مزقت صدره طعنات سكينٍ حادةٍ، ورسمت دعسةٌ بالطينِ نعل بسطالٍ على وجهه. أنفه مكسور، وعلى خده الأيسر استقر خليطٌ من الدم والطين والدموع. بجانب الجثة التي قطعت عنها الأطراف الأربعة، والملقاة على جانبها الأيمن، فردةً يسرى لنعلٍ مطاطيٍ لونه رصاصيٌ لماع، غطى الدم معظمه، وذراع تحكم قبضة يدها على صورةٍ مؤطرةٍ بإطارٍ ذهبيٍ من البلاستيك الرخيص لطفلٍ يرتدي قميصاً أبيض وفيونكة زرقاء، بدت كأنها أُخذت في يومه الدراسي الأول. في زاوية الصورة شريطٌ أسودٌ يحمل تاريخاً كتب بالأبيض، يشير إلى التاسع من أبريل لعام 2003.
أبشر أيها الشعب!
بعد 17 عاماً وقف بها منقوص ساق، والعشرات من حوادث الدهس التراجيدية التي كان آخر ضحاياها والدا الصديق الطيب أنمار، تم (وبحمده تعالى)، ضمن برنامج استعادة هيبة الدولة- المثقوبة مثل حذاءٍ قديم -وإعادة الإعمار، تمت عملية إعادة تأهيل جسرٍ للمشاة على الطريق الدولي رقم 1، المعروف بسريع أبو غريب، الذي يربط العاصمة بغداد بكل من سوريا والأردن، لينضوي الإنجاز ضمن سلسلةٍ من المشاريع الجبارة التي نفذتها وتنفذها القيادة المجيدة الساهرة على راحة المواطن وأمنه.
لكن، السؤال الذي يتبادر إلى ذهني هو: ما ذنب الأطفال الذين دُهست أجسادهم الصغيرة وهم يعبرون الطريق الدولي في طريقهم من بيوتهم في مناطق البكرية، الخضراء، والفروسية إلى مدراسهم على الضفة الثانية وسط غياب مستمر لخطط إعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية طوال السنين الماضية؟
أين العدالة من كل ما يجري في العراق اليوم؟
طفلاً كنت في السابعة، حين كان أبي يصعد بي وأخي لسطح منزلنا في بغداد لنشاهد نفاثات أمريكا وبريطانيا تعربد في سماوات المدينة في ليالي شتاء العام 1998. كنت أتتبع إطلاقات الدفاعات الجوية ترتفع سيلاً أحمر خجولاً لا يطال هدفه، وأسأل أبي: لماذا لا تسقط تلك الطائرات؟ متأملاً أن يتم اصطياد إحداها، ثم تغمرني خيبة عارمة، حين يشرح لي أن مدافع مقاومة الطائرات العراقية قديمة الطراز لا يصل مدى نيرانها للإرتفاعات الشاهقة التي تحلق فيها تلك القاصفات لتنثر حملها حمماً فوق رؤوسنا.
وقتذاك، كان الحصار الإجرامي الذي فرضته الأمم المتحدة مطلع العقد مستمراً بالفتك بالشعب العراقي، وكان الكثير من فرسان الديمقراطية الذين يسكنون اليوم قصور القائد (الأوحد) في "المنطقة الخضراء" سيئة الصيت يزينون أشجار عيد الميلاد بعيداً عن موت العراق وجوعه.
كانت عملية "ثعلب الصحراء" مواجهةً غير عادلة، ولم تبخل غاراتها بالموت على الأهداف المدنية ومنازل المواطنين العزّل. من نجى من القصف ابتلعه مرجل الموت المضطرم الذي أوقدته حرب احتلال العراق عام 2003، والتي اندلعت لنزع أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن سوى نعلٍ يلوكه بوش، وبلير والمخبرون السريون الذين ما انفكوا يفردون أستاههم للعم سام عبر الأطلسي حتى يومنا هذا.
من تراقص على وقع هطول القنابل العنقودية على حديقة منزلنا في بغداد يكتب اليوم بلغة طائفية عن العراق وشبابه المطحون. فالعراق، أصبح وظيفة لكثير من "العراقيين" الذين عاشوا سنين طويلةً يتملصون من هويتهم، قبل أن يكتشفوا أن التباكي والمتاجرة بمعاناة العراقيين في أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج فرصةً ذهبيةً تفتح أمامهم أبواب الشهرة والنجاح المهني وتعود عليهم بمردودٍ ماديٍ لم يحلموا به من قبل.
بعض هؤلاء سال لعابهم حين فتح التقديم على مناصب في الدولة العراقية على شبكة الإنترنت قبل سنتين- كحضانة أطفال بحاجة إلى معلمةٍ جديدة -، واليوم يلهثون خلف مناصب سياسية في بلدان أخرى. البعض الآخر، عراقيون وأجانب، يحتكرالرواية والسرد العراقي بما يتناسب مع ما يأمر مالكو وممولو المؤسسات التي يعملون بها، بينما يحرص الفريقان على طمر أي صوتٍ مستقلٍ وإلغاءه للتخلص من المنافسة وضمان ديمومة تصدرهم للمشهد الإعلامي.
تفشل كثير من التقارير الصحفية التي يطيب لكتابها وصف الاحتلال بـ "التغيير" وعادةً ما تُدس بين سطورها مُفردات تُديم الطرح الطائفي عن ذكر أن بعض هتافات ثوار تشرين كانت موجهةً ضد أمريكا وعملائها كما إيران وأربائها في العراق. لا يعزز هذا الخطاب رواية "المحرر" الأمريكي فحسب، بل يعرض حياة المدنيين للخطر في وقت تستمر فيه ميليشيات سائبة بإتهام المتظاهرين بالعمالة لسفارة واشنطن وإسكات أي صوتٍ رافضٍ للوضع الراهن. وزير خارجية البيت الأبيض مارك بومبيو كان أحد الذين ركبوا على ظهر الإنتفاضة. حيث نشر مقطع فيديو على حسابه في موقع "تويتر" يظهر فيه مجموعةٌ من الشبان يحتفلون في نفق السعدون بُعيد الغارة الجوية التي قتلت سليماني والمهندس ولم تثر إنتهازيته الخطيرة حفيظة "المؤثرين" العراقيين بل هم في الصف الأول من المصفقين للأسياد البيض.
في الأسابيع الأولى من انتفاضة تشرين، كانت شوارع العاصمة شبه خالية من أسراب المشردين والباعة المتجولين الذين يطوفون على السيارات الحديثة المصطفة في ازدحامات المدينة الخانقة لبيع ما بحوزتهم من سجائر، بطاقات تعبئة خطوط الهاتف الجوال وأقراص مدمجة لآخر ما "يغني" مطربو العراق الجديد من نعيق يصم الأذن.
كان هؤلاء، خريجو جامعات وأطفال ضحايا لاستغلال أهاليهم وشبكات الإتجار بالبشر، في الصفوف الأمامية لما وصفه الكثير من الصحفيين السواح الذين تقاطروا إلى بغداد بـ "الإشتباكات" على جسري الجمهورية والسنك في وسط المدينة.
فالإنتفاضة قادها الفقراء المعدمون من حمّالين وشباب عاطلين عن العمل سحقتهم ماكنة الدولة القمعية وسرعان ما انقضّت أحزاب النظام لتدس مرتزقتها في سوح التظاهرلـ "تتناطح مع المجموعات المناوئة، وتستهدف أي حراك شبابي حقيقي، تضعفه وتخترقه، وتكسر قوة الاحتجاج وتحط من سمعته، وتوفر فرشة معلوماتية، تستثمر لتفكيك النشطاء وتصفيتهم، وهو ما حصل وسيحصل" كما يشرح الزميل صفاء خلف.
يكثر اليوم الحديث عن العدالة الموعودة التي ستحققها الحكومة الجديدة التي نُصّبت على الشعب بإقصائه من القرار كما جرت العادة في العملية السياسية "الديمقراطية" التي ولّدها احتلال أمريكا وحلفاؤها للعراق. ويبدو أن بعض المحررين والمحللين الذين يحلو لهم التغزّل بشخص رئيس الوزراء الكاظمي على موعد للاحتفال بيوم الـ 28 من نيسان/أبريل القادم لكن مع صورة رئيس الوزراء الحالي بدل ابتسامة المجيد على الكعكة. أمام هذه الحملة الدعائية يستشري الوباء والجوع وتستقر رصاصات المسلحين "المجهولين" في أجساد الشباب المنهكة ويستمر قصف ما يسمى بـ "المنطقة الخضراء" المُصادرة من الشعب بترهيب المواطنين وتعميق معاناتهم النفسية مع صور الحرب وتبعاتها.
تتسم الكثير من المقالات والتحليلات الإخبارية عن العراق بالسذاجة وقصر النظر، خصوصاً فيما يتعلق بما يمكن أن تنجزه الحكومة الحالية قبل الإنتخابات المقبلة (إن جرت). فبالرغم من أن خطاب الضد من السلاح المنفلت مرحب به من قبل المواطنين، إلا أن التفكير بعواقب التحرك الجدي (إن وجدت النية له في الأساس) وردود الفعل الحتمية من المجاميع المسلحة المخضرمة يحول وعود حصر السلاح بيد الدولة إلى عباراتٍ طوباويةٍ الهدف منها كسب التعاطف وتخدير الشعب لا أكثر.