لورا جوتسدينرLaura Gottesdiener
[هجوم كيميائي: الطائرات الأميركية ترش العامل البرتقالي فوق منطقة كثيفة الأشجار والنباتات في فيتنام الجنوبية سنة 1966.]
بعد أكثر من عقد من وضع العاني لسجل الولادات المشوهة تبقى مسألة التشوهات الخلقية مثيرة للجدل سياسياً وعلمياً. وكما يرى أطباء الفلوجة المسألة، في جانب من الجدل هناك العاني وزملاؤها وأطباء من مختلف أنحاء العراق، وخاصة من النجف والناصرية والبصرة، الذين يقولون إنهم يواجهون أزمة تشوهات خلقية، وفي الجانب الآخر هناك أقوى المؤسسات العسكرية والطبية في العالم، منظمة الصحة العالمية والبنتاغون. أكدت العاني وزملاؤها أن انتشار التشوهات الخلقية في الفلوجة ارتفع على نحو مقلق في أعقاب غزو 2003. ولإثبات أن هذا أكثر من مجرد قصة للسرد، انطلقت في 2009 كي تتعقب جميع التشوهات الخلقية التي أحيلت إلى واحدة من عيادات طب الأطفال الثلاث في المستشفى العام للفلوجة في 11 شهراً. اكتشفت دراستها التي نُشرت في مجلة الجمعية الطبية الإسلامية في أميركا الشمالية أن ما يقدر ب 14٪ من الأطفال المولودين في المستشفى كانوا مصابين بالتشوهات الخلقية، وهذا العدد أعلى بمرتين من المعدل العالمي. وصارت هذه إحدى دراسات العاني الأكثر ذكراً على نطاق واسع رغم قلة المعطيات. وكما أقرت في الدراسة، كانت تفتقر إلى المعلومات الدقيقة عن عدد الحالات المحالة إلى العيادة، مما أجبرها على التقدير. وقالت برناديت موديل، الأستاذة الفخرية لعلم وراثة المجتمع في جامعة لندن والباحثة لوقت طويل في منظمة الصحة العالمية إن دراسة العاني تعاني من مشكلة تواجه كثيراً من الأطباء العياديين الذين يعملون في خلفيات ذات موارد محدودة أو تشهد صراعات: الافتقار إلى معطيات وبائية موثوقة. أضافت موديل: "هذا جهد مخلص، لكنه لا يقدم دليلاً كافياً". لكن مكتشفات العاني دُعمت بدراسات قصيرة أخرى قام بها زملاؤها وبينها دراسة قامت بها علواني. وقال وزراء سابقون في الحكومة العراقية ومسؤولون كبار في الصحة والبيئة لمجلة "ذ نيشن" إن الفلوجة شهدت ازدياداً مقلقاً في انتشار التشوهات الخلقية منذ الغزو الأميركي (رغم أنهم لم يقدموا دراسات حكومية تدعم تصريحاتهم). وفي 2013 توصل مسح شمل البلاد كلها قامت به وزارة الصحة العراقية ودعمته منظمة الصحة العالمية إلى نتيجة مختلفة جداً عما توصل إليه أطباء الفلوجة. استناداً إلى مقابلات مع مقيمين في 18 قضاء من أقضية العراق التي يبلغ عددها أكثر من مائة، توصل المسح إلى أن: "نسب الإجهاض التلقائي والمواليد الموتى الموجودة في الدراسة تنسجم مع التقديرات العالمية أو أقل منها". وأضافت أن الانتشار في الفلوجة نصف ما هو عليه في البلدان الغنية. أثار التناقض بين مكتشفات العاني والمسح الذي أجرته منظمة الصحة العالمية والمدعوم من وزارة الصحة عاصفة نارية علمية ما تزال تواصل الاشتعال. وقالت موديل إنها تعتقد أن دراسة سنة 2013 جيدة، رغم التحديات التي تعرقل القيام بدراسات وبائية على نطاق واسع في مناطق الصراع. وأضافت: "أعتقد أن المنهجية جيدة جداً". لكن خبراء آخرين (عراقيون وعالميون) انتقدوا المسح لأنه يحتوي على عدد من العيوب، وبينها الخلل في التذكر، بما أنه يستند إلى ذكريات أولياء الأمور عن وفيات الولادة والإجهاضات والتشوهات الخلقية، بدلاً من سجلات المستشفيات. (أقرت الدراسة ب"احتمال وجود خطأ في التذكر" وأن هذا يعتبر عيباً منهجياً). وعقّب جون بيديرسين، وهو محام مستقل عمل في مسوحات وفيات الأطفال لدى الأمم المتحدة ووكالات دولية أخرى، وخاصة في الشرق الأوسط: "لا بد أن هناك نقصاً في الإبلاغ عن الحالات. هذا واضح". (شارك موديل وبيديرسين في اجتماع عقد في 2013 مع مسؤولين عراقيين في جنيف لمراجعة المعطيات قبل نشر التقرير).
حَميَ الجدل وامتد إلى صفحات مجلة لانسيت، وهي إحدى المجلات الطبية المرموقة، وانتقد عدد من الأطباء ومن بينهم العاني الدراسة في كل شيء بما فيه منهجها ومدى فشلها في أن تفي بمعايير مراجعة الأقران، أو زملاء المهنة. وكان الجدل حول السياسة بقدر ما هو حول العلم. وحين شككت العاني وأطباء آخرون في المستشفى في الفلوجة بمنهج الدراسة قبل النشر، قالت العاني، إنهم اتُهموا من قبل أعضاء الحكومة العراقية المدعومة من أميركا بالتلاعب بالطب لتوليد مشاعر معادية لأمريكا. بدورهم، زعم أطباء المدينة وعدد من مسؤولي الحكومة الوطنية المحليين أن وزارة الصحة العراقية زورت المسح وحرفت البيانات في محاولة لتملق واشنطن.
وقال الدكتور جاسب علي، الذي كان مسؤولاً رفيعاً في وزارة الصحة العراقية في الوقت الذي أُجريَ فيه الاستطلاع المدعوم من منظمة الصحة العالمية: "أنا متأكد إما أن العمل غير دقيق أو مورس ضغط لتغيير الأرقام. ما أنا واثق منه هو أن المعطيات غير صحيحة". (لم تستجب وزارة الصحة العراقية لطلبات التعليق على مزاعم الدكتور علي). وسأل عدد من الأعضاء السابقين في منظمة الصحة العالمية إن كان بوسع الوكالة (العالقة بين مسؤولياتها لخدمة الصحة العامة وخدمة دولها الأعضاء) أن تكون طرفاً محايداً. وصرّح الدكتور كيث بيفرستوك، الرئيس السابق لبرنامج الحماية من الإشعاع في مكتب المنظمة في أوربا: "إن منظمة الصحة العالمية منظمة بيروقراطية، وخاضعة لنفوذ الدول الأعضاء". ورفضت منظمة الصحة العالمية التعليق على هذه القصة. وفي 2013 رد الرئيس السابق لمهمة منظمة الصحة العالمية في العراق، جعفر حسين، في مجلة لانسيت على نقاد دراسته قائلاً إن الخبراء الدوليين "راجعوا بدقة" معطياتها وإن منهجها يستند إلى ممارسات "مشهورة على نطاق عالمي".
[مدينة تحت الحصار: غارة جوية أميركية تدمر الأبنية أثناء معركة الفلوجة الثانية، 10 تشزرين الثاني، 2004.]
فيما كان الجدل الطبي يتواصل عمّق لغزٌ آخر اللغزَ الذي يحيط بأطفال الفلوجة: ما السبب المحتمل لفيض التشوهات الخلقية؟ كان هذا السؤال دوماً محكوماً بأن يكون مشحوناً، وما جعله هكذا بصورة خاصة، هو إرث استخدام الولايات المتحدة لليورانيوم المنضب أثناء حَربيها في العراق. إن اليورانيوم المنضب معدن ثقيل وكثيف جداً وإشعاعي على نحو خفيف، واستُخدم لأول مرة في حرب الخليج سنة 1991، حين أطلق الجيش الأمريكي مليون قذيفة يورانيوم منضب تقريباً في أنحاء العراق. وبينما يُستخدم اليورانيوم المنضب بصورة رئيسية لتدعيم تصفيح الدبابات ومنح الرصاص قدرة إضافية على اختراق الدروع، فإنه معروف بشكل أفضل بسبب الأذى الذي يخشى بعض الناس من أنه يسببه بعد المعركة: السرطانات وأمراض الكلية والاضطرابات العصبية والتشوهات الخلقية. كررت البنتاغون مراراً أن اليورانيوم المنضب لا يسبب مشاكل صحية خطيرة إلا أن القلق من هذه الأضرار تصاعد تقريباً حالما انتهت حرب الخليج. وبينما بدأ الأطباء في المنطقة يبلّغون عن ارتفاعات صادمة في نسب التشوهات الخلقية والسرطانات، عزا بعض الأخصائيين العراقيين هذا الارتفاع إلى تعرض المدنيين لليورانيوم المنضب، فيما أشار آخرون داخل البلاد وخارجها إلى عوامل إضافية، مثل زواج الأقارب الشائع في بعض أنحاء العراق والتحسن في تشخيص ورصد التشوهات الخلقية. ورفض البيت الأبيض بشكل قاطع احتمال وجود صلة بين الأمراض وأسلحته لكن بعض أبحاث البنتاغون في التسعينيات أشارت إلى وجود صلات بين اليورانيوم المنضب والسرطان والتشوهات الخلقية. وفي الحقيقة، قبل حرب الخليج حذر تقرير للجيش الأمريكي من "أخطار صحية على السكان الأصليين والجنود" من اليورانيوم المنضب، وبينها "تأثيرات إشعاعية وسمّية محتملة". وفي الأعوام التي تلتْ ازداد التركيز على اليورانيوم المنضب، وفي التسعينيات بثت الحكومة العراقية صوراً لأطفال بتشوهات خلقية على الشاشة الوطنية وفي صحف رئيسية وقالت إن سبب التشوهات هو استخدام الجيش الأمريكي لليورانيوم المنضب. وذكرت إحدى المقالات الصحفية التي رافقتها صورة طفل مشوه بشكل مرعب: "انظروا ماذا فعلت قنابلهم بأطفال العراق! لقد حولوا أطفال العراق إلى أهداف لأسلحتهم التي تستخدم اليورانيوم المنضب!!". في الوقت نفسه، حين أصيب متطوعو حرب الخليج بمجموعة من السرطانات والأمراض غير القابلة للتفسير التي سُميت متلازمة حرب الخليج (8)، بدأ البعض في الولايات المتحدة يشيرون بإصبعهم إلى اليورانيوم المنضب أيضاً. وعلى المسرح الدولي، نظم الناشطون والخبراء المنتديات وطالبوا بالتحقيقات ودعوا إلى حظر المعدن المشتبه به. وبين هذه الدعوات، أجرى المجتمع العلمي عدداً من الدراسات كي يحاول أن يحدد درجة سمية اليورانيوم المنضب. وبقي هذا سؤالاً مفتوحاً مثيراً للجدل. وقالت البنتاغون إن مراقبتها المتواصلة لمتطوعي حرب الخليج الذين تعرضوا لليورانيوم المنضب لم تعثر على "تأثيرات عيادية سلبية" في الجنود السابقين ولا على تشوهات خلقية في أطفالهم. واستنتجت وكالة الطاقة الذرية أيضاً أن المعدن يشكل تهديداً خفيفاً إذا كانت كمياته قليلة. لكن دراسات أخرى واصلت إثارة الذعر، واكتشف بعضها أن التعرض المخبري لليورانيوم المنضب يمكن أن يسبب ضرراً وراثياً أو تشوهات. (قيلَ إن السمية التي تسبب الأذى في المعدن كيميائية وليست إشعاعية). وأسهمت الدراسات المتنافسة في خلق جو يشي بالمؤامرة. وفي أواخر عقد الألفية حين بدأت العاني وأطباء عراقيون آخرون يلاحظون التشوهات الخلقية كان اليورانيوم المنضب قد أصبح إحدى المواد الأكثر إثارة للجدل على وجه الأرض. وبلغت شهرته حداً جعل كثيرين في العراق وعلى الصعيد الدولي يسرعون لمراجعة التشوهات الخلقية كدليل على أن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت اليورانيوم المنضب في الفلوجة أثناء الغزو الأمريكي وبعده. وكان التحدي لدارسي هذه المسألة هو أن الجيش الأمريكي رفض أن يكشف المعلومات عن أين وكم من اليورانيوم المنضب استخدم أثناء الحرب. وسُحبت هذه التفاصيل حتى حين أصبح بعض الأشخاص في وزارة الدفاع واعين للعاصفة النارية المتنامية وحذروا من أخطار الامتناع عن الاستجابة. وكما حذرت مذكرة للبنتاغون حصلت عليها مجلة "ذ نيشن": "لم تقر وزارة الدفاع بعد أو تنشر أية معلومات حول كمية ومواقع استخدام اليورانيوم المنضب أثناء عملية حرية العراق. هذا يعمل ضدنا بطريقة ما". ولم تجب وزارة الدفاع على سؤال لماذا لم تنشر هذه المادة علناً. لكن النقاد قالوا إن صمت واشنطن زاد من التكهنات، وعمّق يأس الأطباء العراقيين الذين يقومون بالبحث لمساعدة مرضاهم الصغار". وفي 2013 سافرت العاني رغم يأسها إلى مقر الأمم المتحدة، وحضرت مؤتمراً نظمه مركز كارتر في ولاية جورجيا. وتوسلت قائلة: "باسم نساء الفلوجة أدعو حكومتيْ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى كشف المعلومات حول أنواع الأسلحة المستخدمة أثناء الاحتلال واتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية حق الحياة والصحة للسكان المحليين إذا أشير إلى مشكلة تلوث".
[المعدن الثقيل: وصف لاستخدامات اليورانيوم المنضب من وثيقة لسينتكوم]
لم ترد حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا أبداً على العاني. ولكن في الأعوام القليلة التالية، قدمت البنتاغون أجوبة غير وافية لويم زويجنبيرغ، وهو مدير مشروع في مجموعة السلم الهولندية باكس، والذي أمضى تقريباً عقداً وهو يحقق في استخدام الجيش الأمريكي لليورانيوم المنضب. وفي 2014 انضم لمركز الحقوق الدستورية الذي مقره نيويورك وطالب عشر وكالات حكومية أميركية استناداً إلى قانون حق الحصول على المعلومات بأن تقدم معلومات حول استخدام بلاده للمعدن أثناء حرب العراق. لم ترد معظم الوكالات، وبعضها قال إن السبب أنها لا تملك وثائق كهذه، وأخرى لأسباب غير معلنة. لكن بمساعدة وثائق أفرجت عنها القوات الجوية في 2015، بالإضافة إلى وثائق قدمها أرشيف الأمن الوطني تمكن من أن يكوّن صورة عن أين أطلق اليورانيوم المنضب. ثم في حزيران 2019، حصل زويجنينبرغ ومركز الحقوق الدستورية على مجموعة من الوثائق من القيادة المركزية للولايات المتحدة الأمريكية ساعدت في تلوين الصورة. إن وثائق سينتكوم(9) التي قدمها مركز الحقوق الدستورية وزويجنينبرغ حصرياً إلى مجلة "ذ نيشن"، والتي صادقت عليها وزارة الدفاع تقدم صورة جوهرية، ولو لم تكن نهائية، حول مدى ونطاق استخدام اليورانيوم المنضب أثناء الحربين في العراق. تتألف الوثائق من 200 صفحة من المذكرات والتقارير مع خرائط تُظهر أين أُطلقت ذخائر اليورانيوم المنضب وكذلك كمياتها. هناك 28 صفحة مفقودة من الوثائق حُذفت أو سُحبت لأسباب تتعلق بالأمن القومي. فضلاً عن ذلك، تقر الوثائق نفسها أنه من الصعب "تحديد كمية اليورانيوم المنضب الدقيقة المستخدمة أو المواقع التي استُخدمت فيها" لكن الكشف الذي تحتوي عليه مهم، ويتحدى فرضيات سادت لوقت طويل كما أنها تثير أسئلة جديدة. إن ما تكشف عنه الوثائق جوهرياً هو أن الولايات المتحدة استخدمت كمية من قذائف اليورانيوم المنضب في الفلوجة وحولها أقل من التي استخدمتها في مناطق أخرى من البلاد.
[شريحة من وثائق سينتكوم تظهر استخدام اليورانيوم المنضب في جنوب العرق أثناء حرب الخليج، الأجزاء الحمراء تظهر المناطق التقريبية حيث أطلقت قذائف اليورانيوم المنضب من الطائرات والمواقع الصفراء تظهر ساحات المعارك حيث أطلقت.]
[ترجمة: أسامة إسبر. المصدر The Nation . يمكن قراءة الجزء الأول هنا]
لورا جوتسدينر مراسلة لرويترز مقيمة في المكسيك.
8- متلازمة حرب الخليج، نمط من الأعراض المحيرة التي أبلغ عنها بعض الجنود الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية عام 1991. وتشمل هذه الأعراض الإعياء والصداع والطفح الجلدي والاضطرابات الهضمية وآلام العضلات والمفاصل. كما أبلغ الجنود أيضاً عن أعراض أخرى مثل الضغط النفسي والاكتئاب والأرق وصعوبة التذكر أو التركيز.
9- القيادة المركزية الأميركية والمعروفة اختصاراً ب"سينتكوم هي الإدارة المسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط ومصر.