أطفال الفلوجة: اللغز الطبي في قلب حرب العراق (٣ من ٣)

أطفال الفلوجة: اللغز الطبي في قلب حرب العراق (٣ من ٣)

أطفال الفلوجة: اللغز الطبي في قلب حرب العراق (٣ من ٣)

By : Arabic Editors

لورا جوتسدينرLaura Gottesdiener

وتكشف هذه الوثائق على نحو محدد أنه في آذار ونيسان 2003، أطلق الجيش الأمريكي حوالى أربعة آلاف قذيفة عيار 30 ملم أو 1،3 طن من ذخائر اليورانيوم المنضب في الفلوجة، وهو جزء صغير فحسب من 69 طناً أطلقتها الولايات المتحدة في أنحاء العراق في ذلك العام. وأطلقت معظم كمية ال 1،3 طن خارج المناطق السكنية في الفلوجة. تقر الوثائق أيضاً أنه بعد نيسان 2003، لم يستخدم الجيش الأمريكي أي يورانيوم منضب في العراق وأن اليورانيوم المنضب لم يُستخدم أثناء المعركة الأشرس في الفلوجة في 2004. وتقول الوثائق أيضاً إن الجيش الأميركي لم يستخدم أي يورانيوم منضب في الفلوجة أثناء حرب الخليج في 1991، حين أطلق 322 طناً من الذخائر التي تحتوي عليه في أنحاء العراق. بالنسبة لزويجنينبرغ، الناقد العلني لاستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب، تقدم الوثائق قضية مشجعة ضد النظرية القائلة إن المعدن يجب أن يُلام على أزمة أطفال الفلوجة. قال إن ما يستحق الانتباه هو أن المناطق التي شهدت تعرضاً أكبر لم يكن فيها عدد كبير مبلغ عنه من التشوهات الخلقية. أضاف: "آخذين بعين الاعتبار الاستخدام المحدود، أجد صعوبة في ربط اليورانيوم المنضب بالتشوهات الخلقية في الفلوجة حالياً". وتوصل دوغلاس براج، رئيس قسم علوم الصحة العامة في جامعة كونيكتيكت وخبير الصحة البيئية، إلى نتائج مشابهة حتى حين حذر أن الوثائق لا تستطيع كشف الصورة كلها. (أعلن أنه من أجل هذا نحتاج إلى دراسة حالة). قال: "فيما يتعلق بالفلوجة على نحو خاص، إن كمية قذائف اليورانيوم المنضب التي أُطلقت وانفجرت فعلاً تبدو متواضعة بالنسبة لي". وأضاف، مشيراً إلى إشعاعية المعدن: "مهما كانت ضعيفة نركز فقط على اليورانيوم المنضب لأنه مرتبط بشيء ما مغر ومخيف جداً. لكنني سأفاجأ إذا كان التعرض الأكثر انتشاراً وسمية في حرب كهذه". أضاف زوينجنينبرغ أن هذه المعلومات الجديدة ليست نهاية القصة بل بداية لغز أكثر تعقيداً، وأن عدم استخدام كميات ضخمة من اليورانيوم المنضب لا يبرئ الولايات المتحدة أو أي فاعلين عسكريين من أدوارهم المحتملة في أزمة صحية في الفلوجة. أضاف: "بدلاً من ذلك، إن غياب الشفافية زاد من المخاوف من مادة محددة، مما أبعدنا عن الحاجة لتحقيق علمي أوسع يشمل عَقْداً. نحن بحاجة لتركيز أكبر على البقايا السامة للحرب وليس على الذخائر فحسب من أجل فهم المجازفة الصحية البيئية". وفي مقابلات مع مجلة "ذ نيشن" اتفق عدد كبير من العلماء والأطباء والناشطين المعارضين لاستخدام اليورانيوم المنضب مع زويجنينبرع قائلين إن قصر التركيز على المعدن أعاق تحليلا للصحة العامة ككل وللتأثيرات البيئية للمعارك في الفلوجة وكيف يمكن أن تُربط بالتشوهات الخلقية. وعبرت علواني، المتخصصة في الأجنة، والتي بدأت بتصوير وتسجيل الحالات مع العاني، عن هذا القلق قائلة: "أعرف جميع الصحفيين الذين يركزون على هذه النقطة والتي هي الأسلحة. الأسلحة ليست مسألتي. إن المشكلة أكبر من هذا".

في عشية غزو 2003، كان العراق يعاني من أزمة صحة عامة. واجتمعت الصراعات العسكرية للعقدين السابقين مع العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن الدولي لإحداث الخراب في بيئة البلاد وبنيتها التحتية. وأثناء الحرب الإيرانية- العراقية في الثمانينيات، صنعت الحكومة العراقية ونشرت الأسلحة الكيماوية، وعرّضت العمال في المصانع العسكرية وبعض مدنييها لغازات سامة. ودمرت الهجمات الجوية في 1991 التي شنها التحالف بقيادة الولايات المتحدة أنظمة الطاقة وأنظمة الصرف الصحي. وعرقلت العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، المفروضة في 1990، إعادة بناء مصانع كهربائية جوهرية ومنشآت لمعالجة الصرف الصحي. وجعل الحظر على استيراد الكلورين تنقية المياه مستحيلة.  

دمرت العقوبات أيضاً نظام الرعاية الصحية في البلاد، الذي اعتبر بين الأفضل في المنطقة. وانخفضت ميزانية النظام 90٪ في التسعينيات حين شلَّ الحصار الاقتصاد. ورغم أن الدواء كان معفى ظاهرياً من الحظر، غمرت الأدوية منتهية الصلاحية أو غير المختبرة السوق السوداء. وبعد أن أصبح الطعام نادراً انخفض ما يتناوله الفرد العراقي من السعرات الحرارية إلى 1،093، بحسب تقرير لليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، مما قاد منظمة الصحة للقول في تقرير سنة 1996:"إن غالبية سكان البلاد كانوا خاضعين لنظام غذائي يقارب الجوع لسنوات".

 

[شريحة من سينتكوم ترصد موقع وعدد قذائف اليورانيوم المنضب التي أطلقت على الفلوجة أثناء الحرب في العراق.]

وصرحت منظمة الصحة العالمية: "عادت الرعاية الصحية في العراق إلى الوراء خمسين سنة، بسبب حرب 1991 التي استمرت ستة أسابيع والعقوبات اللاحقة المفروضة على البلاد". وشهد الطبيب والأنثروبولوجي العراقي عمر ديوچي الذي كان يوثق التأثيرات الصحية للصراع في البلاد لعقود، تأثيرات العقوبات حين كان يعمل في مستشفى عام في بغداد سنة 1997. قال ديوچي: "كانت لدينا حالات أعلى من سوء التغذية، والذي استؤصل في الستينيات"، ورصد كتابه “حياة غير قابلة للحكم” تاريخ نظام الرعاية الصحية في العراق. ومنع نظام ترشيد الطعام الذي اعتمدته الحكومة، وفرضته كرد على العقوبات، مجاعة محتملة لكنه سبب بين الناس نقصاً في فيتامينات ومعادن عديدة، وبينها العناصر الغذائية الأساسية لتطور الأجنة. وقال تقرير لمنظمة الصحة العالمية يعود إلى 1996 إن توفر حمض الفوليك، والذي يساعد على منع تشوهات خلقية خطيرة تُعرف باسم "عيوب الأنبوب العصبي"(10)، تناقص بنسبة أكثر من 77٪. وخفض الترشيد الغذائي إلى أكثر من النصف توفر الزنك وفيتامين الريبوفلافين، واللذين يسبب نقصهما تشوهات خلقية، وكذلك الثيامين الذي يمكن أن يزيد نقصه خطر وفاة المواليد. وفي 2003 قالت اليونيسيف إن 60٪ من سكان العراق تقريباً كانوا يعتمدون بصورة رئيسية على الحصص الغذائية مما يعني أن النقص الغذائي أثر على أكثر من نصف السكان. وسجلت وزارة الصحة ارتفاعاً في أمراض القلب الخلقية في البلاد، وهي أحد أنواع التشوهات الخلقية الأكثر انتشاراً، بين 1991 و1998. وأضاف ديوچي: "من المعروف أن العوامل الغذائية تسبب شذوذات وتشوهات خلقية، وهذا موضوع لم يخضع للدراسة لمعرفة أسباب التشوهات الخلقية في العراق".

ودمرت الهجمات الجوية في 1991 التي شنها التحالف بقيادة الولايات المتحدة أنظمة الطاقة وأنظمة الصرف الصحي. وعرقلت العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، المفروضة في 1990، إعادة بناء مصانع كهربائية جوهرية ومنشآت لمعالجة الصرف الصحي. وجعل الحظر على استيراد الكلورين تنقية المياه مستحيلة.

فاقم الغزو الأمريكي للفلوجة وما أعقبه هذه المشاكل الصحية والبيئية. وفي 2004 صارت المدينة ساحة للمعارك الأشد عنفاً ودموية في الحرب العراقية. وفي تشرين الثاني وكانون الأول، قامت عشر كتائب من الجيش والبحرية الأميركية بالهجوم على الفلوجة، ودمرت أو خربت عشرات آلاف المنازل، ومنشآت عديدة لمعالجة المياه والمحطات الكهربائية، ونظام الصرف الصحي للمدينة. وقتلت المعركة آلاف العراقيين و82 أميركياً.  وفاضت مياه الصرف الصحي في الشوارع. وكانت الكلاب تنهش الجثث المتناثرة على الطرقات. واستخدمت القوات الأميركية الفوسفور الأبيض، وهو سلاح كيماوي قادر على حرق الجلد والعضلات حتى العظم.  وخاضت القوات الأميركية المعركة بروح انتقامية لأن الفلوجة، كما قال وزير الدفاع دونالد رمسفيلد وقادة كبار آخرون، "أصبحت رمزاً للمقاومة" ضد الاحتلال الأميركي للعراق. وتحدثت لقاء وردي، النائب السابق من الفلوجة، عن زوجها المهندس، الذي طار إلى المدينة في مروحية عسكرية، في مهمة لمسح الدمار في أعقاب الحصار: "أخبرني أن المياه تطوف في المدينة، والجثث متناثرة في جميع الأمكنة، وثمة الكثير من العوائق والتحديات أمام إعادة البناء". وفي الأشهر اللاحقة، عادت العائلات المشردة (وبينها العاني وعائلتها) إلى الفلوجة وشرعت بإعادة بناء مدينتها لكن الوضع الأمني المتقلقل في ذلك الوقت جعل من المستحيل على أعضاء وزارة البيئة أو برنامج الأمم المتحدة البيئي دراسة الأضرار مباشرة. ذلك أن عدداً كبيراً من المصانع والمستودعات الكيماوية وأبنية الصناعة العسكرية داخل وحول الفلوجة شكلوا خطراً على المقيمين القريبين. وألقى برنامج الأمم المتحدة للبيئة الضوء على هذه المواقع في ثلاثة تقارير نُشرت بين 2003 و2005. ويقع أحد أكبر مستودعات المواد الكيماوية في خان ضاري، على بعد عشرين ميلاً من الفلوجة قرب أبو غريب وقد نُهب في أعقاب الغزو. (لا يحدد التقرير أية أطراف نهبت وأحرقت أجزاء من المجمع). وأهدرت مئات الأطنان من المواد الخطيرة في هذه المستودعات وأحرقت، أو سُرقت وبينها مواد كيماوية عالية السمية مثل رباعي إيثيل الرصاص والفورفورال والكيتون الإيثيلي المثيلي وهيدروكسيد الصوديوم. ثمة مواقع أخرى لم تُدمر لكنها تهدد بأخطار التلوث. وهناك موقع صناعي عسكري قرب الفلوجة يحتوي على السيانيد والمعادن الثقيلة، ومعمل إسمنت يقذفان التلوث، الذي من المحتمل أنه يحتوي الزرنيخ والديوكسين (مادة كيميائية في العامل البرتقالي)، وكلاهما رُبط بالتشوهات الخلقية. (لم تجب وزارة الدفاع على أسئلة حول هذه التقارير عن التلوث البيئي واسع النطاق). ومن المحتمل أن جميع هذه المواد الكيماوية اختلطت مع ملوثات بقيت من صراعات سابقة. وفي 1991 و1998، مثلاً، قصفت الولايات المتحدة مجمعاً لمصانع إنتاج الأسلحة الكيماوية والمبيدات الزراعية في المنطقة، تُعرف جماعياً باسم فلوجة 1 و2 و3، ولوثت التربة في الموقع. وفي الثمانينيات، من المحتمل أن سكان الفلوجة تعرضوا لمواد سامة خطيرة من خلال الخدمة في الجيش العراقي أو العمل في المصانع العسكرية حيث كانت إجراءات الصحة والأمان هزيلة. ولم يكن تلوثاً كهذا مقتصراً على الفلوجة. ففي 2005 قدرت الأمم المتحدة أن العراق يحتوي على آلاف المواقع الملوثة. وبعد خمس سنوات، كشف تحقيق أجرته "تايمز أوف لندن" أن الجيش الأميركي خلّف وراءه أكثر من 10 ملايين رطل من النفايات السامة وترك مواد خطيرة في مكبات على طول الطرق الرئيسية. وفي العام نفسه، اكتشفت دراسة للحكومة العراقية قامت بها وزارات البيئة والصحة والعلوم أكثر من 40 موقعاً في أنحاء العراق، وبينها موقع واحد على الأقل في الفلوجة، ملوثة بالإشعاعات أو الديوكسين. وكان حسن برتو مدير برنامج فرع إدارة الأزمات في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، مشاركاً في فريق التقييم البيئي في أعقاب الغزو. قال لمجلة "ذ نيشن": "إن التلوث البيئي في العراق هو إحدى حالات تلوث الصراع الأكثر خطراً التي حقق فيها البرنامج". وأشار إلى "أسباب للتلوث واسعة الانتشار ومتعددة ومزمنة". لكن حتى وسط أزمة بيئية شاملة للوطن، برز إرث السموم في الفلوجة. فقد صرح عبد الكريم السامرائي، وزير التكنولوجيا والعلوم في العراق من 2010 إلى 2014: لمجلة "ذ نيشن": "إن مدينة الفلوجة في العراق هي الأعلى في التلوث.  مصاباً بالذعر من تقارير ارتفاع نسب التشوهات الخلقية والسرطانات في الفلوجة، قال إنه سعى إلى إنشاء مراكز محلية لدراسة الأمراض والتلوث أثناء الفترة التي عمل فيها وزيراً، لكن المبادرات لم تنجز أبداً. وأضاف أن التمويل المرتبط بالصحة كان دوماً يختفي بسبب الفساد أو يُحول إلى الميزانية العسكرية. ولم تجب الحكومة العراقية على سؤال لماذا لم تُنجز مراكز البحوث التي تهدف إلى دراسة التشوهات الخلقية والسرطانات في الفلوجة أبداً. على أي حال، جاسم عبد العزيز الحماد الفلاحي، وكيل وزارة الصحة والبيئة العراقي قال في مقابلة إن سنوات الصراع بعامة، بما فيه حرب 2014- 2017 ضد تنظيم الدولة الإسلامية، أجبرت الحكومة على تحويل الموارد وإبعادها عن البرامج الاجتماعية. وأضاف الفلاحي أن الزيادة المزعومة في التشوهات الخلقية في الفلوجة يمكن أن تربط بهذه الأزمة البيئية الأوسع، رغم أنه كان حذراً وابتعد عن ذكر أسباب محددة.  كرر مثل المسؤولين الآخرين أن التحسينات في نظام التسجيل والتشخيص للشذوذات الخلقية يفسر جزءاً من الارتفاع المبلغ عنه. "لكن أحياناً يمكن (ونلح على يمكن) أن نربطه بتلوث الهواء والماء والتربة والمعادن الثقيلة والإشعاع، لأننا، كما قلت، نواجه عقوداً من الحرب".

أضاف الديوچي أن التحدي الذي يواجه دراسة التشوهات الخلقية في الفلوجة وفي أنحاء العراق يصل إلى هذه الحقيقة: لا يمكن إرجاع التشوهات بسهولة إلى سبب واحد. عقّب: "أنت تتعامل مع نظام بيئي معقد من السموم والتفاعلات. وأعتقد أن هناك نوعاً من الهوس للعثور على طلقة سحرية لشرح التشوهات الخلقية في العراق. كان الناس يحاولون إرجاعها إلى سلاح معين كاليورانيوم المنضب (الجميع يريدون أن يكون اليورانيوم المنضب هو المذنب) وأشعر أن البحث عن المذنب هو الذي خلط الأمور. نحن نفتقد إلى الصورة الكاملة حول كيف، على مدى عقود، حدث إنتاج منهجي للسموم في الحياة اليومية للعراقيين". 

لا تقصي هذه الصورة الكبيرة مسألة المسؤولية بالنسبة لديواشي وآخرين، لكنها تفعل ذلك على الأقل في حالة الفلوجة، مما يجبر المرء على أن يفكر بالبحث عن مادة سامة واحدة ويفهم بدلاً من ذلك أن الحرب الحضرية في القرن الواحد والعشرين، في حد ذاتها، يمكن أن تطلق ضرراً عابراً للأجيال بدأنا نفهمه الآن فحسب. أضاف:"هذا جزء من اللغز غير المحلول لهذه التشوهات الخلقية. ويجعلنا نتساءل: كيف ننطلق إلى الأمام؟ كيف يمكن في الحقيقة أن نفكر بالمسؤولية حيال هذه المسائل؟"

 

[غذاء رئيسي: فتاة في الثانية من عمرها تنتظر مع أعضاء أسرتها كي تتلقى الحصص في مركز لتوزيع الطعام في بغداد في  2003.]

 بعد سبع عشرة سنة من غزو الولايات المتحدة لبلادهم، ما تزال العاني وزملاؤها يجهلون كيف أو حتى إذا كان الصراع له علاقة بالتشوهات الخلقية التي تقول إنها تشهدها في المستشفى يومياً. في صباح يوم آخر حار من أيام أيلول العام الماضي، جلست في مكتبها الصغير ذي الإضاءة الباهتة قبل جولاتها في جناح التوليد. كانت غاضبة من مواصلات الصباح، وبدت متعبة. على مر الأعوام، ألّفت أو شاركت في تأليف أكثر من 12 دراسة، وتحدت منظمة الصحة العالمية وسافرت إلى الولايات المتحدة كي تناشد الرئيس السابق جيمي كارتر من أجل معلومات عن المعارك التي تقودها الولايات المتحدة في مدينتها. نجت من الغارات الجوية واحتلالين عسكريين خارجيين. وفقد أفراد من عائلتها أطفالاً أصيبوا بالتشوهات الخلقية التي تسعى إلى علاجها.  أخرجت نسخة من رسالة قالت إن المستشفى يرسلها إلى وزارة الصحة في بغداد كل شهر لطلب أجهزة جديدة، بما فيه جهاز لتشعيع الدم يعمل بأشعة غاما، وجهاز كوباست إي 41 للهرمونات، ومحلل لاختبارات التشخيص المخبري، ونظام لفحص حديثي الولادة لتحديد اضطرابات جينية وأخرى تتعلق بالتمثيل الغذائي.  قالت: حتى الآن لم تصل الأجهزة، ولكنها تنوي طلبها من جديد. عقّبتْ: "نحن نتطلع للعثور على حلول لهذه العائلات". وحين استعدت العاني لعيادة مرضاها دخلت علواني إلى المكتب. تذكرتا المرضى حين بدأتا تسجلان الحالات منذ عقد تقريباً، وكانت العلواني تلتقط الصور بالكاميرا لأنه لم يكن لديهما هواتف ذكية بعد. قالت العلواني إنها لم ترد أبداً أن تُستخدم الصور كرموز سياسية. أضافت: "لا أحب أن أبث مآسي الناس، كنت أفكر بحل المشكلة، لا أن أسبّب مشكلة". مع مرور الوقت، تحولت صور الأطفال الموتى والمشوهين خلقياً في الفلوجة إلى رموز لنتائج الحرب الشنيعة طويلة الأمد. ألصقت الصور على ألواح الإعلانات ونُشرت على المواقع المضادة للحرب، وصارت رموزاً لتأثيرات الحرب غير القابلة للعكس والعابرة للأجيال التي يدعوها جميع الأميركيين الآن خطأ. لكن أطفال المدينة، كما قالت العاني وعلواني، ما يزالون يعانون بعيداً عن الأضواء. وبعد بضعة أسابيع، نشرت العاني دراسة حالة أخرى في المجلة الآسيوية لتقارير الحالة في الطب والصحة. وفي هذا البحث الذي راجعه زملاؤها في المهنة، حللت توأمين ولدا في مشفى الفلوجة بمرضين حادين مختلفين.  كتبت أن الطفل الثاني، والذي كان ذكراً، وُلد ميتاً وشرايينه الزرقاء تنتأ من بطنه. دخل الطفل الأول العالم حياً. لكنه لم يعش طويلاً، كما عرفتْ العاني، فقد كانت ساقاه الصغيرتين مندمجتين معاً. ذكرها الطفلان بتشوهات أخرى رأتها وشاهدتها وسجلتها في المستشفى، لكنها لم تشاهد أبداً من قبل المتلازمتين النادرتين في الحمل نفسه. اختتمت العاني دراسة حالتها بملاحظة جافة: "إن الانتشار المرتفع للتشوهات الخلقية في الفلوجة يعيق صحة السكان وقدرتهم على العناية بالأطفال الناجين"... أضافت أن المشكلات تفاقمت بسبب العناية المحدودة قبل الولادة والافتقار لدعم العائلات التي لديها تشوهات خلقية، "وغياب خطط مستقبلية جدية واضحة لتحسين النظام الصحي أو القيام بإجراءات جدية لتنظيف البيئة الملوثة في فترة ما بعد الحرب".

ما لم تكتب عنه هو كيف أُصيب والد التوأمين بالهستيريا بعد الإنجاب ورفض أن يسمح لها بالقيام بتصويرهما بأشعة إكس أو بالموجات فوق الصوتية. أخرج الطفل الأول من المستشفى كي يموت في البيت، تاركاً العاني كي تدون المعلومات القليلة التي تمكنت من جمعها، آملة أن السجل، سيفيد يوماً ما، مريضها حتى لو كان ناقصاً.

[ترجمة: أسامة إسبر. المصدر The Nation  يمكن قراءة الجزء الأول هنا والثاني هنا]

لورا جوتسدينر مراسلة لرويترز مقيمة في المكسيك.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬