غادر بيمبو بغداد إذًا مبحرًا في دجلة مارًّا بنهر ديالى، وبعد بضعة أيام مر بالعمارة التي يصفها بأنها بلدة كبيرة يدفع المسافرون رسومًا عند العبور بها، ثم في الثاني من آذار سنة ١٦٧٢م:
(توجد على الضفة اليسرى بلدة كبيرة مبنية بالطابوق تُدعى بالعزير. يوجد في أولها جامعٌ من مرمر وضريح لأحد أنبيائهم. يحكمها بيك تحت إمرته ثلاثون إنكشاريًا. في البلدة ستة آلاف مسلح من العرب، الذين توحدوا مع أولئك الذين في البصرة حين أُخِذَت من الترك الذين استعادوها منذ خمس سنوات.
بما أن المدينة كانت سابقًا بيد الفرس، فإن كثيرًا من السكان يحتفظون بعادات قديمة. لاحظتُ بأن النهر يدمر البلدة، رغم أنهم وضعوا سدودًا عديدة ليدافعوا بها عن أنفسهم. غادرنا من هناك في الساعة الثانية والعشرين، فدفع مالك السفينة سبعة ريالات كرسوم. بعد حوالي ميل واحد نزولاً في النهر رأينا بلدة مدمرة كانت تُسمى (ميل) (٢). بدأنا نشعرُ بالحر في ذلك اليوم، مصحوبًا بأسوأ أنواع الذباب، ما ضاعف الإزعاج الحاصل من بطء الرحلة بسبب الإنحناءات الكثيرة في النهر. كما تعين علينا طوال الليل أن نبقي أسلحتنا جاهزة مخافة العرب الذين يعيشون في بيوت من قش وسط الأحراش، وكلهم هناك يستخدمون القربينات (٣). وصلنا حوالي الساعة الثانية ليلاً إلى بلدة واسط. رآنا الحراس بأسلحتنا من على بعد ونادوا علينا بالتوقف لكي يتمكنوا من أخذ بعض الرسوم. فتظاهر أحد الترك بأنه آغا وتظاهر غابريل المسيحي بأنه إنكشاري، وذهبا إلى آغا البلدة متظاهرين بأنهما مرسلان من قبل آغا السفينة. ولكن حين أتى الموظفون إلى السفينة وتبينوا من لهجة الآغا بأنه ليس من القسطنطينية، طالبوا بستة ريالات كرسوم. أخذ هذا كله منا ساعتين، واصلنا بعدها رحلتنا مستعدين بأسلحتنا دائمًا، بما أن النهر كان ضيقًا وعلى الضفتين بلدات للعرب.)
ثم في فجر الرابع من آذار:
(مررنا قبالة بلدة أبو سدير، حيث تؤخذ الرسوم عادةً، لكن سفينتنا استثنيت من الرسوم لأن اليوم كان ملبدًا بالغيوم. سكان البلدة من العرب الذي يكنون كراهيةً شديدة لأتراك القسطنطينية وسرعان ما يثورون على السلطان. سافرنا طويلاً برياحٍ مواتية وتوقفنا قليلاً على الضفة اليمنى لجمع الحطب. رأيتُ حوالي منتصف النهار بلدةً مبنية بالقصب وسط سهلٍ عظيم، تدعى بالإمام عبد الله، وهو أحد أنبيائهم. وجدنا قبل غروب الشمس نهر العجم الذي يتحد بدجلة من ناحية اليسار. رأينا بعدها بقليل على نفس الجهة، بلدة من قصب بقرب بقايا قلعةٍ تسمى القادر. توقفنا بعدها بقليل على الضفة اليمنى، عند بلدةٍ محاطة بأسوار مزودة بأبراج تُدعى بالإسحاقية، حيث دفعنا أربعة ريالات وزوجين من النعال كرسوم. تظاهر غابريل بأنه آغا، ما كان مصدر تسليةٍ لنا، إذ قبل بتلك الصفة. حين غادرنا من هناك رأينا بلدة تُدعى بالمحمدية، بعدها بقليل يشعرُ المبحرُ في النهر بأمواج البحر كل ست ساعات. رأينا ساعة الغروب بلدة الجساير، وأيضًا أهوارًا كثيرة يصنعها المد. توقفنا منتصف الليل على الضفة اليمنى لدى القلعة التي تُدعى بالقرنة، وبقينا هناك في السفينة حتى صباح الخامس من آذار. لاحظتُ بأن موقع القلعة في منتصف المدينة التي تُدعى أيضًا بالقرنة، وهي محاطة بأسوار مجهزة ببعض التحصينات. تقع المدينة بين النهرين دجلة والفرات، حيث يتصلُ فرع من دجلة بالفرات مسافةَ بضعة أميال صعودًا في النهر. يقع مكتب الجمارك على بعد رمية مسدس من المدينة في النقطة التي يلتقي فيها النهران العظيمان.)
يأخذ بيمبو هنا بالحديث عن نهري دجلة والفرات ومنابعهما وروافدهما وبعض المدن التي يمران بها حتى يعود إلى مدينة القرنة ثانيةً، فيقول:
(مدينة القرنة، التي يُدافَع بها عن بغداد، إذ تستطيع السفن الحربية أن تصلها، يحرسها ألف وثمانمائة إنكشاري وألف جندي. وهي تحت إمرة آغا مستقل عن باشا البصرة، ويوجد فيها قاضٍ، بالإضافة إلى آغا الإنكشارية وآغا الجمارك.
جاء الرجل الثاني في مكتب الجمارك إلى سفينتنا حوالي منتصف النهار، ليرى فيما إذا كان بحوزتنا بضائع. فجعله غابريل يعتقد بأنه إبن أخي المونسيور بارون، صديقه، كما دعاني. أعطيته بعض الحلويات ومربى الخوخ التي جئت بها من البندقية، كما أعطيته بعضًا من القهوة والشربت. بالمقابل، أرسلَ بعض السمك الطازج، وجعل تفتيش السفينة يسير مصحوبًا بالمجاملات اللائقة. فإنه ينبغي دفع الضرائب عن البضائع التي تعبر من هناك.
غادرنا في الخامس من آذار في الساعة الرابعة فجرًا. رأينا إلى يميننا قوارب صيد عديدة مصنوعة من القصب حيث يضعون السمك. بعد مضي ساعة من الزمن، رأينا إلى يسارنا نهرًا يُدعى عجم صو، يستطيع المرء أن يسلك فيه إلى بلاد فارس. توجد على مصبه قلعة نصف مدمرة اسمها سويب، يحكمها أخو قاضي بغداد، الذي كان بصحبتنا. كان النهرُ عميقًا مياهه رائقة، وعرضه أكثر من ميل واحد.
عند غروب الشمس رأينا إلى يميننا مكاناً يُسمى (الدير). كان النهرُ بطيئًا ساعتها وأصبح عرضه ميلين تقريبًا. سافرنا بالأشرعة طوال الليل، وفي فجر السادس من آذار وصلنا إلى البصرة. وهي مدينة تقع على مسطح مائي صغير يخرج من النهر إلى جهة اليمين، ويتجه إلى الداخل أربعة أو خمسة أميال، وعرضه رميتا رمح تقريبًا، يكبر ويصغر وأحيانًا يجف. دخلنا في ذلك المسطح المائي عند الفجر. بعدها بقليل جاء موظفو الجمارك ليفتشوا عن بضائع. أعطيناهم ريالاً فغضوا النظر عن أمتعتنا.
حين سمع الرهبان الكرمليون بوصول بعض الأجانب، جاؤوا لمقابلتنا من فورهم في قارب صغير. ولقد عرفوا من قبل بمجيئي إلى هذه الأنحاء، برسالةٍ أُرسِلَت إليهم من قبل القنصل الإنجليزي في حلب. أصروا بأن أصحبهم إلى منزلهم، الذي لا يبعد كثيرًا عن النهر، وعاملوني بمنتهى اللطف.
تقع البصرة على جانبي المسطح المائي الذي ذكرتهُ آنفًا. كانت مساحتها سابقًا ثلاثة أضعاف مساحة بغداد، لكنها الآن نصف مدمرة. هنالك بساتين نخيل كثيرة قرب النهر بالإضافة إلى بيوت طينية كانت ضمن المدينة في أزمنتها القديمة. بنيت المدينة قبل مائتي عام، وهي تبعد خمسين فرسخًا عن الخليج الفارسي وثمانية فراسخ عن البصرة القديمة التي بنيت في عهد علي، على يد عتبة بن غزوان. [...]
في البصرة بزاراتٌ كثيرة تتميز بالوفرة أكثر منها بالجمال، والسبب يعود إلى كثرة البضائع الواردة من الهند إليها، لا تأتي البضائع بواسطة التجار الوثنيين فقط، بل بأيدي الفرنسيين والإنجليز والبرتغاليين والهولنديين، الذين يأتون بسفنهم كل عام محملةً بالتوابل والجواهر. تُرسَل هذه البضائع عبر أنحاء تركيا، ومن هناك يذهبون ببعضها إلى حلب ومنها أيضًا إلى البندقية.
كل السفن القادمة من الهند تصل في شهر تموز وتغادر على أبعد تقدير في تشرين الثاني لكي تصل إلى الهند قبل حلول الشتاء، الذي يبدأ في شهر أيار وينتهي في أيلول. الرياح ليست مواتية، وفي فصل الصيف تهب العواصف الرملية باستمرار بحيث لا تُرى الشمس لعدة أيام. وتكون هذه العواصف في غاية القوة بحيث يكون على الإنسان أن يلتزم غرفته لأن العاصفة ترهق الناس كثيرًا. هذه العواصف تهب بالرياح المحملة برمال الصحراء.
المدينة مزودة جيدًا بالطعام، لكن في بعض الأحيان يكون السمك الطازج شحيحًا ولذا يُحفَظ بإضافة الملح إليه، ويدفعون عنه الضرائب. أما الماء فليس بصحي بل هو مالحٌ تقريبًا. لا يوجد النبيذ بوفرة، ولا يدوم لأكثر من أربعة أشهر. وهو يُصنَع في تموز لكي لا يصيبُ العفنُ العنبَ بسبب الحر الشديد. ولدى الآباء بعض النبيذ المرسل من شيراز لإحياء القداس. ويصنعون أيضًا نبيذ الزبيب وهو ليس بسيئ، كما يشربون البراندي المصنوع من التمر بالإضافة إلى جوزة الطيب والقرنفل والقرفة وتوابل أخرى. ولديهم أيضًا نوعية جيدة من خل التمر.
نخيل التمر موجود بكثرة على الضفاف وفي الريف، وهم يرسلون التمر إلى أنحاء تركيا والهند، ويُحفَظ في سلال مصنوعة من سعف النخيل نفسه. كما يجففون بعضًا منه، ويدخلوه في الفرن فيبقى قويًا جدًا. تُجمَع ثمار هذه الفاكهة في تشرين الثاني وكانون الأول. ويجني الباشا حينئذ عائدًا معتبرًا، إذ يحصل على صاع من ثمار كل نخلة، ما يساوي جزءً واحدًا من أربعٍ وعشرين جزء من الريال. ومن بعض النخلات الأكبر حجمًا يحصل على نصف ريال.
بعد وصولي بقليل إلى منزل الآباء الكرمليين، جاء رجلٌ فرنسي لزيارتي، كان يرتدي أزياء بني قومه، وبعد الغداء جاء المبعوث الهولندي، الذي هو بمثابة القنصل يقيم هناك لرعاية مصالح بلاده. لاحظتُ بأنهم يلبسون مختلف الألوان بكل حرية، حتى اللون الأخضر، وهو ما يسمح به الباشا خوفًا من الشركات التي تصل إلى هناك كل عام.
صباح السابع من آذار حضرتُ قداسًا في كنيسة الآباء الكرمليين، ولم يكن سريًا، ما لم أجده في أي مدينة عثمانية أخرى. كان هناك اثنان فقط من رجال الدين: الرئيس وهو من أصل بولندي واسمه جيروم، وآخر فرنسي اسمه توسيان، كان واحدًا من الأربعة الذين كانوا على سفينتنا. يقيم المسيحيون الأرمن قداسهم في الكنيسة نفسها، وهم لا يزيدون عن خمسين شخص ممن يعيشون في هذه المدينة، وبعضهم يأتون مع القوافل. لدى هؤلاء الآباء منزل جيد يسر الناظرين، سيعيدون بناءه نظرًا لما أصابه من خراب في حرب الترك الأخيرة على العرب. الأب الرئيس يرعى مصالح الإنجليز والفرنسيين أيضًا.
في الثامن من آذار ذهبتُ لأرى البازارات المليئة ببضائع الهند. فيها العديد من الوثنيين ممن يبيعون هناك. بعضهم يتحدث البرتغالية، فمن هذا المكان وصولاً إلى الهند هنالك دائمًا من يجيد تلك اللغة، كما وجدتُ الكثيرين ممن يتحدثون الإيطالية من حلب وصولاً إلى هنا.
في العاشر من آذار دعيت إلى منزل تاجر تركي، أخذني إلى غرفة مليئة بعقود اللؤلؤ، وأراني بعضًا من اللؤلؤ الجميل والكبير جدًا، جُلِبَ إلى هناك من الأماكن التي يجمعوه منها في البحر. حوالي الساعة الحادية والعشرين استأذنتُ من الآباء وجازيتهم خير جزاء نظير لطفهم معي.
ركبتُ قاربًا صغيرًا في الفرع الأصغر من النهر الذي منه دخلت إلى المدينة، ومن هناك خرجتُ إلى الفرع الأكبر من النهر، الذي وجدتُ إلى يساره ثلاثة قصور بهيئة قلاع، بناها باشا من العائلة المالكة، كان لديه ثلاثة أبناء أعطى لكلٍ منهم قصرًا.
لم نغادر تلك الليلة، ولا في صباح الحادي عشر من آذار، لأن أشرعة السفينة لم تزل لدى مكتب الجمارك، نظرًا لأن الموظفين لم يفتشوا السفينة بعد لفحص محتوياتها من البضائع. جرت العادة بأن يحتفظوا بأشرعة كل السفن كضمان، ثم يعيدونها حين يقضي مأمور الضرائب بذلك.
بعد الظهر جاء المبعوث الهولندي ليراني، في قارب صغير ونظيف، مغطى بقطعة قماش صغيرة وجميلة للحماية من الشمس. أخذني بقاربه الصغير إلى فرع صغير يصدر من الجهة اليمنى من النهر. يمتد ذلك الفرع من النهر مسافة فرسخين داخل المدينة، وعلى الجانبين بساتين النخيل والبرتقال وفواكه أخرى. في تلك الأرض المنبسطة اثنتا عشرة قناة مائية، قريبات من بعضهن وشبيهات ببعضهن، وكم هن ساحرات لما يسقين من بساتين كثيرة. نزلنا إحداهن لنأكل، وأثناء الوجبة شربنا أنخابًا كثيرة، كما هي العادة في ذلك البلد، وفي غياب النبيذ شربنا البراندي. وجدنا الفرنسي الذي ذكرته آنفًا في قارب صغير آخر، فتجولنا معه على طول تلك القنوات حتى المساء. ثم عاد إلى المدينة وعدتُ إلى سفينتي.
حوالي منتصف نهار الثاني عشر من آذار جلبوا الأشرعة، ورغم أننا أعطيناهم نصف قرش، شرع هؤلاء الموظفون بتفتيش أمتعتنا وبعثروها بفضاضة. غادرنا أخيرًا تلك الليلة. جاء الآباء والفرنسي لرؤيتي بعد الغداء، وذهبتُ معهم عبر تلك القنوات للاستمتاع بها. عدتُ إلى السفينة ساعة الغروب وقد بدأت الإبحار مع الموج. ولكن لأن الريح لم تكن مواتية ولأن المد عاد مجددًا، فلقد أرسوا السفينة منتصف النهر، الذي كان عرضه ستة أميال تقريبًا. حين أخذ المد بالخروج إلى البحر ثانيةً حوالي منتصف الليل، غادرنا بصحبة ثلاث سفن أخرى.)
وهكذا ركب بيمبو البحر من البصرة متجهًا إلى الهند، ومنها إلى بلاد فارس، ثم في طريق العودة التحقَ بقافلة متجهة إلى بغداد، فكان أول ما لاقاه من المدن العراقية مكانٌ:
(كبير يُسمى مندلي، وسط بساتين نخيل كثيرة، وهذه علامة على الوصول إلى منطقة بغداد. أكلتُ تلك التمرات اللذيذات الطازجات، رغم أن موسم جنيها يكون في تشرين الثاني وكانون الأول. هنالك قلعة قديمة محاطة بخندق، يُدخَلُ إليها بواسطة جسر ذي قوس وحيد، مبني بالطابوق. أسوار المدينة من طين مزودة بثمانية أبراج. كانت في زمن الفرس مغطاة بحجارة ملونة، فهم الذين بنوها، حيث أن مندلي كانت مدينة كبيرة يعيش فيها خان.
في الوقت الحاضر، يعيش الآغا في القلعة، وهو يحكم البلدة. مرؤوسوه هم القاضي وآغا الجمارك وآغا الانكشارية، بالإضافة إلى بعض الجنود، بما أنها مدينة حدودية. أقمنا في خان مماثل من حيث الشكل لخانات بلاد فارس، لكنه مختلفٌ عنها جدًا في الواقع، لأنه لم يكن سوى فضاءً واسعًا مسقفًا محاطًا بسور من الطين. ارتاحت القافلةُ هناك لثلاثة أيام تقريبًا، فذهبتُ لرؤية البلدة، حيث يعيش أتراك عديدون على شيءٍ من الكياسة. هنالك مقهى جيد، وبخلاف معظم الأماكن في تركيا، هنالك خبز ولحم جيدان. غير أن دخولي هذا إلى تركيا، أشعرني بغرابةٍ بالغة بعد أن كنتُ في بلاد فارس، التي وجدتُ فيها أينما ذهبتُ، مقامًا طيبًا وطعامًا وفيرًا بأسعارٍ جيدة جدًا، وأضحيتُ فيها بمأمنٍ من قطاع الطرق والقتلة. بالإضافة إلى الإعفاء من الضرائب والرسوم، ما خلا تلك المنطقية جدًا التي تُدفَع عن البضائع. [...]
في صباح الخامس والعشرين، وصلت من بغداد قافلةٌ كانت في طريقها إلى همدان، محملةً بكثير من البضائع، وفيها العديد من الأرمن، الذين أخبرونا بأن الطريق غدت آمنة من خطر العرب، أُمِّنَت بجنودٍ من قبل باشا بغداد. بعد سماعنا تلك الأخبار الجيدة، نهضنا بمزيدٍ من الشجاعة في الساعة الثالثة قبل فجر السادس والعشرين. ولم يكن البرد شديدًا كما وجدناه في جبال فارس، بل إن الطقس أصبح على شيء من الحر ما أن أشرقت الشمس.
كانت رحلتنا في سهل فسيح امتد على مرمى البصر، وعلى مبعدة منا إلى اليمين كنا نرى جبال فارس. سافرنا حتى الساعة الخامسة في أرض جرداء غير مزروعة، ولم نرَ أي ماءٍ سوى جدول موحل صغير. توقفنا في بلدة (الإمام الأصغر) التي سميت بنبي لهم دُفِنَ هناك، وفيها بضعة بيوت وبساتين، لكن لم يكن هناك مكان لنصب الخيام، فتعين علينا أن نبقى تحت الشمس غير مرتاحين. استراحت القافلة قرب نهر يسميه السكان مورس ويسميه الآخرون ديالى. غالب الظن أن هذا فرع من النهر الذي يصب فيه على مسيرة يومين، ويصبان معًا في دجلة. رأيتُ هناك بعضًا من العملات النحاسية الأوربية الصغيرة، عليها شعار السويد، وهو حزمة من القمح. تساوي الواحدة منها هناك أربعة أسبريات، ويسمونها فلوس، جلبتُ معي بعضًا منها.
في صباح السابع والعشرين أخذنا معنا رجلاً من البلدة، لأن الوحل جعل تتبع الطريق صعبًا. غادرنا قبل ساعتين من الشروق، أكملنا طريقنا في ذلك السهل الفسيح، وكله بلا خضرة باستثناء بعض بساتين النخيل. في منتصف النهار، رأينا على مسافةٍ منا حوالي عشرين فارسًا برماحهم، ظنناهم من لصوص العرب، غير أنهم غيروا وجهتهم حين رأوا القافلة.
توقفنا ساعة الغروب في بهرز، التي يجري في وسطها جدول صغير يسمونه خريسان، وهو على كل حال فرع من نهر ديالى. في اليوم التالي، الثامن والعشرين، عبرنا نهر ديالى الذي يقع خارج البلدة مباشرةً وهو على شيءٍ من السعة. يجري في الريف ويصب في دجلة أسفل بغداد، كما لاحظتُ حين غادرتُ بغداد إلى البصرة. قضينا معظم اليوم في عبور النهر، إذ لم يكن هناك سوى قارب واحد يتسع لستة حيوانات في النقلة الواحدة. يسحبونه بجهدٍ يسير بواسطة الحبال من ضفة إلى أخرى. كما هو مبين في الرسم الذي صنعتُه، فإن هذه عملية تفتقر إلى البراعة، وتشبه نوعًا ما ما وصفتُه في مدينة بيره جك (٤). لقاء العبور بذلك المركب يتلقى الترك محموديًا واحدًا لكل حيوان، بينما يحصل المراكبي على غازيين. قضينا بقية اليوم على ضفة النهر مقابل البلدة، وأكمل بعض الذين كانوا في القافلة ممن كانت لديهم أحصنتهم فقط طريقهم إلى بغداد.)
ثم كان الوصول الثاني إلى بغداد في تشرين الأول ١٦٧٤م:
(وصلنا أخيرًا إلى أسوار بغداد وقت الغروب، هذه الأسوار ليست في غاية الكبر، وكان بإمكاننا أن نرى من مسافة امتدادها كاملاً. لدى الأسوار وجدنا خيمًا عديدة لبعض أتباع الباشا (٥) الذي جاء لكي يحكم المكان، بينما كان بعض جنوده في خيم أسفل القلعة. بعد أن انتظرنا لأكثر من ساعة لنحصل على الإذن من آغا الجمارك، دخلنا من البوابة المجاورة للقلعة. بما أن الوقت كان متأخرًا، أرادنا أن ننتظر إلى اليوم التالي.
[مشهد بانورامي لبغداد]
رأيتُ لدى دخولي إلى المدينة، كرة كبيرة من حجر المريون معلقة على الباب، وأخرى من الحديد. يحرس هذه البوابة بعض الإنكشاريين، يدفع لهم المرء نصف عباسي على الرأس وعباسيًا كاملًا على كل أربعٍ من دواب الحمل. أخذونا جميعًا إلى دار الجمارك بجوار النهر. وهذه بناية قديمة مبنية بحجارة جيدة، بناها الفرس، كحال أفضل البازارات، لكنها الآن نصف مهدمة، ولقد رقعها الترك بفظاظة بالألواح. على كل حال، لقد بنوا بعد مغادرتي بازارًا جديدًا من حجر، لبيع الأقمشة المستوردة من الهند.)
في الأول من تشرين الثاني وصل مرسال إلى بيمبو من عمه القنصل في حلب، يخبره بضرورة القدوم إليه لأجل العودة إلى البندقية، فقرر بيمبو أن يسلك طريق البادية برفقة المرسال نفسه واتفقا على مبلغ ثلاثين ريال، ثم في صباح الرابع من تشرين الثاني:
(ذهبتُ إلى ساحة القلعة لشراء بعض الخيول. تلقيتُ المساعدة من بعض الأرمن من أصدقاء الآباء. في نفس اليوم أُخِذتُ إلى بيت تاجر أرمني ثري، كان مؤثثًا ببذخ. قدم لي أطعمة شهية عديدة، بالإضافة إلى الكثير من النبيذ والبراندي. تعلمتُ عاداتهم في شرب الأنخاب، فهم يعطون الضيف بعض النبيذ، فلا يشربه عن آخره، بل يترك شيئًا منه في القدح ويعيده إلى المُضيف. هنا يعطي المُضيف شيئًا من الخبز لضيفه فيأكله، ويملأ المُضيف قدح النبيذ من جديد ويعيده إلى الضيف. في نهاية زيارتي أعطاني شيئًا من ماء الورد للحيتي التي أصبحت كثةً الآن حتى ظن الناس بأني في الأربعين من عمري.)
وهكذا غادر بيمبو في السادس من تشرين الثاني بغدادَ، وفي الثامن منه وصل إلى:
(قلعة تُدعى هيت، تقع على تل بقرب النهر. حولها توجد بقايا أحواض جيدة وأطلال عديدة توحي بأنها كانت مكانًا مهمًا في زمن ما. لكنها ليست مبنية بواسطة الترك، الذين يشغلون القلعة نصف المهدمة والمبنية بحجارة خشنة، كما هو حال البيوت المنخفضة نوعًا ما.)
ثم أكمل طريقه إلى أن وصل إلى جويبة، حيث:
(البيوت من حجارة، لكنها خشنة، وليس فيها شبابيك، بل فجوات صغيرة تسمح بمرور الهواء والضوء. السكان جميعًا من فقراء العرب.)
وفي مساء اليوم نفسه وصل إلى موقع يطل على النهر وعانة:
(على طول الطريق على جانبي النهر أطلال أماكن وبنايات قديمة، توحي بأنها كانت يومًا مدينة كبيرة وجميلة بموقعها وبناياتها. رغم أن طولها اليوم لا يزيد على ميل واحد، كانت تمتد إلى حوالي خمسة أميال فيما سبق. يقسمها النهر إلى نصفين، فنصف في وادي الرافدين ونصف في العربية، ويرتبط الجانبان ببعض القوارب الصغيرة. هنالك في منتصف النهر جزيرة صغيرة عليها بيوت عديدة وقلعة نصف مهدمة لا يمكن الدفاع عنها، لأن تلالًا صغيرة تطل عليها من أحد جوانب المدينة. هذه التلال تمنع الدخول إلى المدينة إلا عن طريق النهر. المدينة طويلة وضيقة، بشارع واحد على كل جانب. كل البيوت تقريبًا على النهر ومبنية بحجارة خشنة، جُمعَت بالطين والرماد. كلها تقريبًا متساوية في الحجم بطوابق وغرف عديدة. يبنون شرفًا على السطوح بدلًا من القرميد، لكن هذه محاطة بجدران عالية. البيوت بلا شبابيك لكن فيها فتحات عديدة. خلفها حدائق معتنى بها نوعًا ما. لم أتمكن من رسم المكان لأن البغّال أصر على أن نبقى في الداخل طوال الوقت، لكي نتجنب إهانات أمير العرب الذي كان في البلدة. المدينة تابعة لباشا بغداد، الذي يرسل إليها متسلمًا وآغا وقاضٍ وصوباشي. السكان جميعًا من العرب، من سكان المكان الأصليين وهم ليسوا كثرًا، وهنالك أيضًا حوالي أربعين يهوديًا يعملون كجواسيس. أقمنا في بيت صديق عربي للبغّال، استقبلنا بترحاب. بما أنه كان يوم السبت لم نأكل جيدًا، لكننا ارتحنا جيدًا)
وفي اليوم التالي قابل بيمبو أميرَ العرب (محمد شديد) الذي وصفه بأنه سيد الصحراء والأماكن القريبة:
(هو حاكم مطلق ومستقل عن العثمانيين، لكنه الآن على علاقة طيبة بهم، طالما أنه يمنع أتباعه من السلب، بما أن القوافل التي تمر بالصحراء تؤدي إليه رسومًا. حين وصلتُ خارج مقره رأيتُ على الأرض رمحًا طويلًا، كنتُ قد رأيتُ أمثاله في كل القرى العربية أمام بيوت زعمائها. كان هنالك أيضًا العديد من الجنود كحراس شخصيين.
دخلتُ إلى غرفة كبيرة في الطابق الأرضي، كانت مظلمة إلى حدٍ ما، وكان هنالك العديد من العرب بقرب الباب. في الداخل ولكن على ارتفاع، كان العديد من الآخرين يجلسون على مؤخراتهم ويستندون إلى الجدار. كانت لديهم أسلحة فهم من المحاربين، لكن ملابسهم بائسة ورؤوسهم ملفوفة بأوشحة سوداء التفت أيضًا حول أعناقهم وتدلت بين أكتافهم. كانت وجوههم قاسية وجافة، ولحاهم طويلة وخشنة. عيونهم مخيفة، وهناك في الظلمة بدوا كالأرواح المنتقمة.
في نهاية نفس الغرفة إلى يسار المدخل، كان الأمير يجلس على وسائد وأقمشة حريرية، لكنه كان يرتدي الملابس المعتادة. كان بهي الطلعة، طويلًا وأسمر بملامح نبيلة ووجه لطيف. كانت لحيته سوداء طويلة. رأسه ورقبته مغطيان بوشاح أسود. كان يرتدي قميصًا أبيض طويلًا وسروالًا أبيض طويلًا فقط. بقربه نار. أرادوا منا أن ندفع رسومًا عديدة، وبعد نقاش طويل كان علي أن أدفع أكثر مما يجب، فسُمِحَ لنا بالمغادرة.)
قبل شروق شمس الثالث عشر من تشرين الثاني سنة ١٦٧٤م، غادر بيمبو عانة وسط ضباب كثيف، سالكًا طريق البادية متجنبًا البدو حتى دخل الأراضي السورية عائدًا إلى حلب ومنها إلى البندقية.
هوامش
(٢) لم أعثر على بلدة أو مدينة في العراق بهذا الاسم.
(٣) نوع من البنادق القصيرة.
(٤) مدينة على الفرات، جنوب شرق تركيا الحالية.
(٥) هو عبد الرحمن باشا، كان آغا الإنكشارية ثم أصبح وزيرًا، وجاء خلفًا لحسين باشا السلحدار على ولاية بغداد.
[لقراءة الجزء الأول انقر/ي هنا]