في العام ٢٠٢٠، شهدت مدينة القدس ٤٣٠ عملية فدائية، بحسب تقرير الشاباك، تنوعت ما بين عمليات الدهس والطعن، وإطلاق النار، والاشتباك المسلح مع الجنود، وتفجير العبوات الناسفة المصنعة محلياً، والاقتحام المسلح للمستوطنات، واستهداف الحافلات والمنشآت، كما في خط القطار السريع في شعفاط القريبة. شكلت هذه العمليات معضلة أمنية لمنظومة الكيان الأمنية، إذ أثبتت ضعف أجهزته الاستخباراتية، التقنية والبشرية، على رصد هذه العمليات أو كشفها بشكل مسبق، أو حتى توقع حدوثها؛ كما في عملية الشهيدين أبناء الجبارين، التي أثبتت قدرة المقاومين الاستراتيجية والذكية على اختراق منظومة الكيان الأمنية، وفجرت هبّة باب الأسباط. وعلى عكس عمليات المقاومة المنظمة، التي كانت تُحبط نتيجة الاختراق والتنسيق الأمني، فان هذه العمليات الفردية كانت في الغالب في فكر منفذها فقط، ووليدة اللحظة أو الحدث، وبالتالي، عجزت المنظومة الأمنية عن منع وقوعها؛ كما في عملية عمر العبد حين جاهر برغبته في الثأر للمسجد الأقصى عبر منشور على الفيسبوك، وتمكن بعد ساعتين من النشر من اقتحام مستوطنة "حلاميش"، ونفذ فيها عملية طعن، وانسحب بعدها بسلام، على الرغم من وجود مئات المختصين في مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي الفلسطيني. زعزعت هذه العمليات من قناعة الكيان بإحكام قبضته الأمنية على القدس ونجاحه في ضبط المشهد، ما أدى إلى توالد حالات الرعب داخل المجتمع الإسرائيلي.
لنتخيل المشهد: أجساد في كل أرض فلسطين تضيق بها المساحات المزدحمة، والأقفاص الضيقة التي حددها لهم الكيان؛ تعيش في غور عزلة مأهولة بالرغبات والنزعات والأفكار والأخبار المتناقضة، وبالذكريات والعلاقات والحركات واللقاءات المعقدة والمحرمة؛ تجترح منسرباً من سياسات القمع والعزل والفصل والمحو والتغييب والتهميش والإقصاء، وآليات المراقبة والضبط والتحكم والاخضاع؛ تخط في صمت، وخفية عن النظر مسارات الترحال، وممرات التنقل، وخطوط الهروب؛ تتحدى خطوط التماس والحدود والتخوم الداخلية، التي تفترس أرض فلسطين، وتنهش مدنها، وتكرس عزلة شعبها، ومعهم كل الاتفاقيات والمفاوضات؛ تطور مهارات الاختراق والتسلل والتخفي؛ تتمدد وتنفلت من بين الحواجز ونقاط التفتيش والمعابر والجدار والأبواب والمستوطنات والطرق الالتفافية، ومن تحت عين الجنود وأبراج المراقبة وكاميرات المراقبة؛ تنبثق على أرض القدس بلا سابق انذار، في دقة عمليات منفردة، وتقريباً عفوية، وغير متجانسة ومتمايزة نوعياً في الشكل، والإيقاع، والسرعة. فكيف لا تكون إلا ظاهرياً منفصلة، ولكنها في أرض الواقع متجاورة ومترابطة ومتداخلة جذمورياً، بحسب تعبير دولوز وغوتاري.
والجذمور هو نبتة تتكاثر عبر شبكة سيقان وامتدادات جذيرية أفقية في باطن الأرض، تنتشر في ترحال دائم باتجاه المساحات المتاحة ونحو مسافات جديدة عبر الحواشي والشقوق والثغرات. تتوفر فقط على امتدادات تتشعب وتتواصل داخل نسيجها القابل دوماً للتواصل والتقاطع على مستوى كل أبعادها، وبالتالي ليس لها محور واحد، بل تعدديات مستوية تتضمن أبعاداً وتركيبات وتحديدات وأحجام متنامية نسبة لتعدد الترابطات القائمة، والتي بمقتضاها تتبدل طبيعتها عند ارتباطها بتعدديات أخرى. التعدديات تكون دائمة قابلة للوصل والتكيف مع ترابطاتها الجديدة، وحتى حين تتكسر أو تتمزق أو تنقطع أو تتصدع في محل معين، إلا انها لا بد أن تستمر متتبعة الامتدادات التي لا تنتهي وتتشكل معها من جديد. لا يمكننا تحديد مستوى تماسك التعدديات إلا بواسطة الحدث، خطوط الهروب والترحال والاختراق، التي تجعلها تنبثق على سطح الأرض الخارجي، تماماً كنبتة الصبار التي تعاود الظهور على أراضي القرى الفلسطينية التي تم تهجيرها أو إبادتها لتكون الشاهدة في الزمان والمكان على زمكان آخر.[1] والجذمور هو مفهوم فلسفي محوري عند دولوز وغوتاري في رفض منطق الثنائيات الذي يغذي الواحدية والهرمية، مقابل التعددية التي تغدي الاختلاف، الذي لا أهمية فيه للتصنيفات والتراتب الهيراركي، بل للروابط والعلاقات والتشابكات والتركيبات، وللممكنات اللانهائية للانتشارات، وخط خطوط الهروب والانفلات، واقتدار ممارسات وأفعال وتحرير طاقات في كل الاتجاهات. انطلاقًا من هذا المفهوم الفلسفي، يرسم دولوز وغوتاري صورة المقاومة كممارسات جذمورية، متعددة ومختلفة، متقاطعة ومتشابكة أحياناً، ومتعارضة وغير متشابهة أحياناً أخر، متحركة ومتغيرة كل الوقت وليست ثابتة، تجمع ولا تجزئ إلى طبقات متفرقة، وتنتج فعاليتها في تشعباتها وترابطاتها وتركيباتها الخلاقة، كل تشعب ينتج ويتلاقى مع تشعبات جديدة لينتج ظواهر جديدة وانفتاحات مختلفة.
المقاومة عند دولوز وغوتاري، كما عند فوكو وكرستيڤا، تنبع من السياسات الصغرى، الجسد والسياسات المحلية واليومية، ولكنه الجسد الذي يمارس النقد والابداع، والفردية التي تخترق الطبقات والمكونات المجتمعية والدينية والسياسية وكل مناطق الجسم الاجتماعي، والمحلية التي تنفذ إلى الجيو ـ سياسية/اجتماعية /اقتصادية؛ فالحرية، لنخلط بين فوكو ودولوز وغوتاري، توجد فقط حين تُمارس جذمورياً. نحن هنا بصدد مقاومة تفرض حضورها حين لا تنتج نموذج السلطة التي تكافح ضده، كما في خطاب أوسلو للسلطة الفلسطينية الذي يستطبن في ذاته ديناميات الجغرافيا التخيلية الصهيونية ومنظومتها السلطوية، الذي يدعي مواجهتها في حين يعتمد عليها عضوياً في بناء خطابه، وبالتالي لا يمكنه أن يقاوم الصهيونية وسلطتها ومنظومتها ونظامها، بل وللأسف يضمن لها الاستمرارية في حبس الأجساد الفلسطينية داخل طوطم منظومتها السلطوية. نحن هنا في صدد مقاومة تنتج أجساد تتمرد مكانياً، وتثور، وترفض، وتفكك، وتقوض الجغرافيا التخيلية الصهيونية ومنظومتها السلطوية، وتكشف هشاشتها ونقاط الضعف فيها، ومع كل خط هروب، ومع كل عملية فدائية، ترسم بدمها من جديد حدود القدس التاريخية وفلسطين التاريخية، وتعيد انتاجهم في المخيلة الفلسطينية الجماعية في عود أبدي للذاكرة الفلسطينية الجمعية وسرديتها الثقافية التحررية؛ فلا غرب القدس "يهودياً"، ولا "قدس كبرى" مرتبطة "إسرائيليا" بالداخل الفلسطيني، ومعزولة زمكانياً عن الضفة الغربية المعزولة عن غزة، ولا قدس غربية ولا شرقية، بل فلسطين من نهرها إلى بحرها، وحتى آخر شبر فيها.
الثقافة: ميدان صراع وأداة مقاومة:
تشتد هجمة الكيان الصهيوني على الثقافة الفلسطينية ضمن عملية استراتيجية للاستيلاء على فلسطين، على تاريخها وتراثها وهويتها ومعتقداتها وقيمها ومفاهيمها ومعارفها وروايتها، كما تفريغ الانسان الفلسطيني من هذه المكونات، وإخضاع وعيه وإرادته ونمط تفكيره وسلوكه وحقائقه وحواضنه. في القدس، تتعدد وتتنوع الاستراتيجيات والهدف واحد: اجتثاث الفلسطيني من مقومات البقاء والصمود والحضور والتأثير، واستلابه للهيمنة الثقافية الصهيونية. وتحت عنوان الـ "مشروع فني"، نفذت "بلدية" القدس في ٢٠٠٧ مع «صندوق أورشليم القدس»، إحدى أكبر مؤسسات التمويل الإسرائيلية في القدس، تعليق لافتات لمقتطفات من قصائد شعراء إسرائيليين مترجمة إلى العربية في شوارع شرقي القدس الأساسية، كشارع صلاح الدين والسلطان سليمان، ومقتطفات من قصائد كلها بالعبرية وزعتها على محطات الباص، والمقاهي، وأعمدة الكهرباء في غربي القدس. وفي وقت لاحق، أضاف المشروع مقتطفات من بعض القصائد لشعراء فلسطينيين، منهم سميح القاسم وطه محمد علي وميشيل حداد، ممزوجة مع قصائد لشعراء إسرائيليين، وعلقتها في شوارع شرقي القدس فقط، في إسقاط لاعتبارها من "الشعر العربي الإسرائيلي". وتحت مسوغ «تذليل العوائق الثقافية» والفن كـ «وسيلة للتعايش الإسرائيلي ـ الفلسطيني» في القدس،[2] يحيل هذا الـمشروع في الواقع إلى توظيف الفن في استراتيجية ومشروع "القدس الكبرى"؛ فكما يهدف مشروع "القدس الكبرى" إلى ضم أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية مع أقل عدد من الفلسطينيين، يضم الـ "مشروع فني" الشعر الفلسطيني إلى كتاب الشعر الإسرائيلي ضمن مشروع تطبيع ثقافي يهدف إلى تطويع الرواية الفلسطينية للرواية الصهيونية وأيديولوجيتها عن الصراع. يتكثف هذا التوظيف في بجاحة المعرض الإسرائيلي في صالة 1:1 في "تل أبيب" لأعمال فنية مصورة عبر الڤيديو لعدة فنانين عرب وفلسطينيين، منهم وائل شوقي وأكرم زعتري ووليد رعد، دون نسبها إليهم ودون موافقتهم. وتحت عنوان "فن عربي مسروق"، أكد بيان القائمين على المعرض على أنهم «مدركين تمامًا لهذا التصرف كـنوع من أداء فني بحد ذاته، يطرح أسئلة عميقة عن علاقة الفني بالسياسي... وكرد على المناخات السياسية والقوانين وحملات المقاطعة، التي لا تسمح بهامش واسع للحركة في هذا الشأن... وان الفن بحاجة إلى طريقة لكسر هذه الحواجز».[3] هذه السرقة العلنية للأعمال الفنية داخل الكيان ليست ظاهرة معزولة، بقدر ما هي جزء من سياق ثقافي قائم على مبدأ سرقة الحق والحقوق لمصلحة مشروع احلالي ديدنه إلغاء الفلسطيني الآخر وتطبيعه.
يحضر مشروع «ع السطوح» للفنان المقدسي محمد جولاني الذي يوظف الفن التشكيلي في ترميم أسطح ٢٥ منزل في البلدة القديمة وتجميلهم.[4] بضربات فرشاة أنيقة، وألوان متناغمة، يحول الجولاني فضاءات الأسطح إلى جداريات فنية، تتخللها جداريات أغصان الزيتون. يخرج المشروع من ضيق صالات العرض وشوارع البلدة القديمة، التي يحاصر فيها سكانها وتتكاثر فيها البؤر الاستيطانية وجور قوانين الضرائب والترميم والبناء، في تجربة استثنائية من القفز من الشارع إلى سماء القدس. يخط الجولاني أغصان الزيتون وأوراقها في مسارات وامتدادات أفقية شبكية عشوائية تعكس رفض "بلدية" القدس أن ترخص له عملية الترميم والتجميل، فخاض الجولاني حربه السرية الخاصة في مراوغة "البلدية" بأخذ الأذن من أصحاب بيوت لم تكن متجاورة.
يحول الجولاني بعثرة المواقع إلى أبرز ملامح الجداريات: حركة جذمورية من الاتصالات والترابطات والانفصالات والانقطاعات الغير متوقعة، لا بداية ولا نهاية لها. في لغة فنية تبحث على الدوام عن الحركة والمراوغة بين المساحات والحدود، وتخط خطوط الخروج والانفلات والاختراق والهروب، كما خطوط الدخول والتقوقع والتواري، وإعادة تأليف الحركة من جديد، تتشعب غصون الزيتون كأعضاء بلا جسد، بلا جذع عامودي ولا جذر ضارب في الأعماق، وكأن بالجولاني يتحدى بهذا تطبيع الطبيعة، التي لم تسلم من الهمجية الصهيونية في اقتلاع أشجار الزيتون، وكأن به يحول حتى الجذر الشجري إلى جذير من خلال تجسده في المادة، وإعادة تشكيله من خلال فعل الحركة المتصورة، فيتحول الفن في يد الجولاني إلى وسيط بديل في مسائلة الممارسات المكانية الاستعمارية الصهيونية، وممارسة نقدية لها عبر الانفتاح على أولويات مغايرة في معالجة المكان.
يشكل مشروع «ع السطوح» أرضية لممارسات مغايرة تحمل قيماً نقدية، ومادة سردية وشاعرية بامتياز. يوظف الجولاني السؤال الجمالي في ممارسات أشبه ما تكون بالنضال الاجتماعي السياسي، وفي ميل ملحوظ إلى فهم القدس كبناء مادي وهيكل معرفي وثقافي وإنساني، قادر على أن يوظف التعبير الفني الفلسطيني، وأثره كمولد لشبكة من الأفكار والقيم والعلاقات والممارسات المكانية الخلاقة، وسلسلة من المتغيرات والمتحركات دائمة التشكل في مسارات متداخلة لحكاية واحدة متصلة، يصح أن نتعامل معها كجغرافيا ثقافية ندية، وكعنصر محدد في إثراء وإنتاج تمثيل ذاتي وموضوعي لمواطن الأصالة العربية الفلسطينية في القدس واستعادتها على مستوى الوعي، والهوية، والذاكرة، والاستخدام البشري للمكان، والتجربة الفردية والجمعية. مع الجولاني، يتحول الفن إلى ثقافة صادحة، لا تقتصر على الأسلوب والموضوع والمواد والتقنية، بل ما يألف في جماليات الفن علاقات جدلية وحوار مفتوح في سجال سردي وتمارسي لا يخشى فيه الفنان اشهار سيف ديموقليس فوق رأس الكيان واستراتيجيته في شطب الذاكرة وتزوير الحقائق والتاريخ.
نحو جغرافية ثقافية مقاومة:
بعد استظهاره منظومة السلطة/المعرفة في الجغرافيا التخيلية وتفكيك الابتناء الاستعماري لفضاء الآخر المكاني، ينصب جهد إدوارد سعيد على تبيان الثقافة كـ «أداة للمقاومة» وما تتيحه من إمكانات لمقاومة السلطة وتحديها، ونزع سلاحها، وحل أفكارها ومفاهيمها وتصانيفها وتراكيبها المبنية على العنف: فـ «عندما يتعلق الأمر بالهوية السياسية عندما تكون عرضة للتهديد، فان الثقافة تمثل أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء. إن المقاومة شكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان».[5] يتتبع سعيد إحالات فرانز فانون لثقافة ثورية مستقلة وحرة، تزكيها الصراعات اليومية للناس، وتتخذ شكلها الجوهري حول نضالاتهم، وتساهم في تقدم مقاومتهم، وتعزز المعارضة والنقد في مظاهر نضالهم. في كتابه معذبو الأرض، يذكرنا فانون أن الثقافة الثورية «ليست مجرد فولكلور، أو شعبوية مجردة تعتقد أن بإمكانها اكتشاف الطبيعة الحقيقية للناس. هي لا تتكون من رواسب جامدة ناتجة عن تصرفات غير مبررة، أي الإجراءات التي تكون أقل ارتباطاً بالواقع الحالي للشعب... إن الثقافة... تتخذ شكلها الجوهري حول نضالات الشعوب».[6]
كان فانون يؤمن كما غسان كنفاني أن الوطن ليس «هو الماضي فقط...]انما[ هو المستقبل»،[7] وأن السردية الوطنية التحررية لا تنبغي أن تكون بعيدة عن واقع الناس اليومي، وعن التصدي لقضاياهم وحمولتهم الوجودية، ولا لصالح خطاب آخروي خلاصي؛ فالتحرير والتحرر لا يأتي كهبة، ولكن تنتزعه الجماهير انتزاعاً. ما يؤكد عليه فانون هو ضرورة إطلاق العنان لثقافة ثورية نظيرة للعنف الثوري في مقاومة الهيمنة والتغلغل الاستعماري. هذا ما نراه اليوم في هبات أبواب وأحياء القدس والعمليات الفدائية فيها، وهذا بالذات ما يتطلب منا دعم توليده وتكثيفه بإنتاج جغرافية ثقافية مقاومة تعكس صمود الناس، وتبني مقومات الحفاظ على وجودهم وتواجدهم، وتواجه الاستلاب من خلال المساءلة النقدية والقدرة على التحليل، وتعمق وتصوب الوعي الذاتي والجماهيري في ممارسات كفاحية لا تقتصر على مجال بعينه، وتتطلب اكتشاف الذات في حرية الابتكار والخلق، وتعثر على وسائل إعادة تنظيمهم، في خضم أسوأ الكوارث، من خلال متعة المغامرة، والالتزام الحر المقاوم للغباء، والفقر الفكري والروحي، وعقلية القطيع، وكل ما يمكن أن تنجزه السلطة في المراقبة والسيطرة، وتتحول فيها ومن خلالها الأجساد إلى نصوص حية تتثاقف فيما بينها، وتعيد انتاج الروابط والقيم الوطنية الجامعة؛ وتحاول البحث عن البديل في عصف ذهني، وذكاء، وتكتيك استراتيجي للانتقال من الوعي الوطني إلى الوعي السياسي والاجتماعي في سبيل خلق «أرواح جديدة»، بتوصيف إيمي سيزير.
والسؤال الذي يستوقفنا هنا هو كيف تنتج هذه الجغرافية تحقيق تأثيراتها في السياسة الفلسطينية وتنشيطها باتجاه القدس التاريخية، واستجابتها لتحدي ومطالب الحاضر في حسم المعركة على القدس، جغرافياً وتاريخياً وديموغرافياً؟ أعود مرة أخيرة إلى جوليا كريستيڤا التي تجد في الأدب والفن إمكانات تفكيكية وممارسات اختلافية وخلاقة تفتح منفذاً لانبجاس أو محايثة السيميائي في الرمزي، وعلى الانزلاق واختراق الحدود من أجل انكشافها في السياسة، وبما يثري تجربة السياسة ويسحبها بعيداً عن الخطابة والبلاغات المفرغة المضمون نحو ممارسات توسع آفاقها، وحيويتها، وديناميكيتها. هذا التصور لا يستعيد القطيعة الأنطولوجية التقليدية في ثنائية الثقافة والسياسة، حيث تنحصر الثقافة في المحسوس، وملكية المخيلة، والعاطفة والميول والرؤية الفردية والرغبات والانفعالات، وتحقيق المتعة الجمالية في الشكل والمضمون والغاية والوسيلة، وفي تضاد مع السياسة كبراديغم عقلي وأداة ووسيلة لتحقيق الأهداف الجماعية؛ بل تتجاوزها في مواجهة «تنظر للجمال بوصفه إعادة لفتح الأفق، وتوسيعاً لمجالات الرؤية، وهذه الإمكانات الأخرى للأفق والتاريخ هي في صلبها جمالية»، بتوصيف خالد عودة الله.[8] يتعلق الأمر إذاً بمقاربة تقدم رؤية مغايرة للثقافة والسياسة، وما يقوم بينهما من علاقات مركبة ومربكة، متناغمة تارة ومتنافرة طوراً، والتي تشهد على التوتر وبسط دورة تولدها المعاودة من الثقافة كسياسة إلى السياسة بما هي ثقافة: الإثراء المتبادل بين الثقافة والسياسة في قراءة تؤسس لأوليات مغايرة تمكن الثقافة من حقها في استشكال الأسئلة الاجتماعية السياسية والقضايا التاريخية، كما استكشاف البعد الأخلاقي والجمالي للثقافة على مستويات الفكر والموقف والفعل السياسي، والديموقراطية التي تكفل الاختلاف والتعددية والديناميكية والصيرورة وحرية التعبير والحق في الحرية بإطلاق، وحتى لا تكون السياسة مجرد «احتجاج يستغني بلعن الظلام عن إضاءة الشموع».[9]
[لقراءة الجزئين الأول والثاني. اضغط/ي هنا]
هوامش
[1] المصدر السابق.
[2] نجوان درويش، «إسرائيل تهيمن (شعرياً) على القدس». جريدة الأخبار (٢٠٠٧)، في الرابط الالكتروني التالي.
[3] سعيد محمد. «غاليري إسرائيلية «تحتل» الفن العربي». جريدة الأخبار (٢٠١٨)، في الرابط الالكتروني التالي.
[4] درس الجولاني الفنون الجميلة في جامعة القدس وتخرج منها عام ٢٠٠٩. تابع دراساته العليا في الفن المعاص في أكاديمية بيالسل، وأصبح بعدها محاضراً في جامعة القدس، ومعلماً للفنون في بعض المدارس، كما مدرباً في ورش مختلفة نظمتها مؤسسات ثقافية في فلسطين. أقام فترة في باريس في عام ٢٠١٥ مشاركاً في أحد البرامج الفنية، وكذلك في الصين عام ٢٠١٨، ومثل فلسطين في بينالي الفنانين الشباب في ألبانيا في ٢٠١٧. في العام ٢٠١٦، جاء في المركز الثاني في جائزة إسماعيل شموط. بعد صراع مع مرض السرطان استمر لسنوات، توفي الجولاتي في القدس في ٣ تشرين الأول، ٢٠٢٠.
[5] إدوارد سعيد. الثقافة والمقاومة. إدوارد سعيد. الثقافة والمقاومة. حوار ديفيد بارساميان. ترجمة علاء الدين أبو زينة. (بيروت: دار الآداب، ٢٠٠٣)، صـ ١٤٣.
[6] New York: Penguin, 1976), pp. 188-9.) Franz Fanon. The Wretched of the Earth.
[7] غسان كنفاني. عائد إلى حيفا. (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ٢٠٠٤)، صـ ٧١.
[8] طارق خميس. «قصص خالد عودة الله ونقد خطاب الأمر الواقع في الأدب الفلسطيني». صحيفة العرب (٢٠١٤)، في الرابط الالكتروني التالي.
[9] سامي غابري. تفكيك الميتافيزيقا وبناء الإتيقيا في فلسفة جاك دريدا. (عمان: داو الخليج، ٢.١٧)، صـ ١٧١.