كان أبو رضا في عقده السابع حين كان مثابر شابًّا يافعًا في الصف السادس الابتدائي. كان أبو رضا يجلس في نفس المكان من مقهى هاشم عبيد حيث يحتل الركن الأيسر من آخر تخت وظهره إلى الحائط دائمًا. قال علي، صديق مثابر الذي يكبره سنًّا بثلاث سنوات، إن المطلوبين دائمًا يجلسون هكذا لكي لا ينكشف ظهرهم لمهاجم محتمل ولكي يراقبوا الداخل والخارج. كان أبو رضا يمشي بخطوات قصيرة وقد تعثر أكثر من مرة وسقط وجرح أنفه في إحدى السقطات. لا حركة في وجهه كأنه يرتدي قناعًا. لم أره مبتسمًا. يداه كانتا ترتجفان حتى أثناء السكون. وجهه مطلي بطبقة دهنية رقيقة. قال علي: في أحد الأيام سُرقَ بيت أحد الجيران. مجوهرات الزواج اختفت من البيت ولا أثر لكسر باب أو شباك إلا أن صاحب الدار لاحظ آثار أقدام على سطح الدار انتهت عند جدار بيت أبو رضا. قال الجار لنفسه: ربي اغفر لي. إن بعض الظن إثم. ولكن لا بد وأن السرقة ارتكبها شخص من نفس المحلة. أفضت استشارات مع كبار القرية إلى اتفاق بأن يؤجر الجار سيارة تورن على حسابه ويجمع الجيران لكي يقسم كل منهم على براءته من السرقة أو عدم علمه بهوية السارق. الاقتراح أن تكون السفرة إلى حضرة الإمام السيد محمد في سامراء. تحمّس أبو رضا للفكرة ولكن إمام المسجد نصح بالعباس: "هذه سرقة كبيرة ولم تحدث من قبل ولا بد من «إمام يشوّر»". تقرر الذهاب إلى كربلاء والحلف في حضرة العباس أبو راس الحار. أبو رضا كان مهمومًا طول الطريق. كان يعرف أن أبو غضب هو السارق حيث أصيب ابنه الوحيد بالسرطان ولم يكن له بيت ملك لكي يبيعه لدفع أجور السفر والإقامة في بغداد رغم أن العلاج مجاني. طالما انتحب أبو غضب أمام أبو رضا طالبًا المساعدة. أبو غضب يعمل بإعمار البساتين بأجر يومي بالكاد يسد رمق العائلة. منذ يوم السرقة لم يشكُ أبو غضب عن حاله. أبو رضا قال في نفسه: هل أعترف على صديق فقير لا خيار له غير فقدان ابنه الوحيد أو السرقة؟ وهل سيعذرني العباس؟ أبو غضب كان من الجالسين أيضًا وكان يعتقد أن العباس لا بد وأن يعلم عن حال ابنه وقد نذر أن يذبح خروفًا في حضرته إن نجا ابنه ويوزعه على المحتاجين إن تبقى له مال من المسروقات بعد علاج ابنه. لقد تخيل أن جاره الغني سوف لن يموت أو يجوع بسبب فقدان المجوهرات. كلما اقترب الباص من كربلاء كلما اشتد خوف أبو رضا. انبلج الصباح وبانت منارتا الحسين والعباس وصاح أحدهم: السلام عليك يا أبا الفضل والآخر: السلام عليك يا سبط الرسول (الإمام الحسين). اقترب الباص وتباطأ وسط الزحام. توجه الجميع إلى المغاسل للوضوء ثم إلى الصحن الشريف للصلاة ومن ثم إلى أحد السدنة لتوجيه عملية الحلف (القسم). الجميع أنكر. في طريق العودة لم يهدأ أبو رضا ولم يتناول الغداء. في اليوم الثاني أصيب بارتجاف اليدين وصعوبة المشي. شك الجميع بعلاقته بالسرقة مما زاد من انعزاله وهمومه. لقد راجع أحسن أطباء العصبية في بغداد: الدكتور عز الدين شكارة والذي شخصه بمرض باركنسون (الشلل الرعاش) إلا أنه لم يستجب للعلاج.
وهو يستمع إلى علي بانتباه تذكر مثابر أن والدته هددته يومًا حين كذب عليها وأجبرته أن يحلف بالعباس ألا يكذب أبدًا. قالت: العباس مو لعبة والله يشور بيك. قال مثابر: يعني شسوي؟ قالت: خل آخذك وياية للزيارة حتى تشوف بعينك الزبد وعليه أصابع المرة. تعجب مثابر: أصابع منو؟ قالت: هناك امرأة عانس نذرت بأن تجمع زبدة شهر وتهديها للعباس إذا تزوجت. بعد أسبوع تقدم لها عريس وتزوجت. لقد اكتملت الزبدة. في أحد الأيام احتاجت قليلًا من الزبد للطبخ فمدت يدها إلى القالب و"خمطت" أقل من حفنة يد. في اليوم الثاني طار ما تبقى من الزبد وحط في حضرة الإمام ليكون درسًا للشكاكين مثلك. ثم أردفت: آني شفته بعيني. خاف مثابر ولم يكذب بعدها حتى كذبًا أبيض.
قال مثابر لصديقه علي: لماذا لم يصب أبو غضب بشيء؟ قال علي: لربما أن العباس قد تفهم قضيته. قال مثابر: لماذا لم يتفهم الإمام إخلاص أبو رضا لصديقه المحتاج؟ قال علي: الله أعلم. كان مثابر يفكر بالأمر كلما شاهد أبو رضا في المقهى شبه كسيح. قال لنفسه: هل لخوف أبو رضا وقلقه علاقة بما أصابه؟ طيب الباركنسون مرض عضوي غير نفسي. كيف يمكن أن يسببه القلق؟ أو حتى "صواب" الإمام؟ ثم لماذا لا يشفى أبو رضا بفعل الارتياح النفسي لعدم وشايته بصديقه؟
كميلة فتاة في الخامسة عشر ذات عينين عسليتين وأنف صغير. أسنانها بارزة بعض الشيء ولذلك تتجنب الضحك لكيلا تبرز كشرتها وتفسد جمالها. شعرها طويل وطولها معتدل. كانت ترتدي العباءة عند الذهاب إلى المدرسة وحين تمر في سوق القرية في طريقها إلى المدرسة كانت كالعادة تسحب نهايات العباية الأمامية لتغطي الواجهة الأمامية من جسدها. عندئذ كان يتبين عجزها البارز. كان مثابر يتخيلها بدون عباءة ترتدي قميصًا أبيض يبرز حجم نهديها الناتئين وشقهما وتنورة قصيرة تبرز سيقانها وتكوير عجزها المغطى بشعرها الطويل الأسود وهي تضحك بخجل محاولة إخفاء كشرتها وتقول: أحبك. ثم تذوب في أحضانه. كميلة أكبر أخواتها السبع ولها أخ مدلل طالما يتشبه بالنساء لكثرتهن حوله. تقدم أحد ملاكي القرية بطلب زواج إلى أبيها. يبدو أنه كان يراقبها أثناء الذهاب إلى المدرسة. الحاج جواد قال: أبو علي مرتي كبرت وجاي أطلب بنتك على سنة الله ورسوله. كان أبو علي يحب كميلة أكثر من أخواتها لتفوقها في الدراسة ولاهتمامها به إذ تخلع حذاءه وتغسل قدميه حين يعود من الحقل وتخدر له الشاي. لم يعد كدح أبو علي يكفي لتلبية احتياجات العائلة. لم يكن من واجب أو عادات أبو علي أن يستشير أحدًا، ولكن هذه المرة تحدث مع كميلة برفق: بنتي هم تسدين حاجتنا وهم ترضين الله ورسوله. قالت: يابا ودراستي؟ بل هي كانت تفكر بمن أحبته بصمت وتعرف أنه أحبها: جارهم حسين الذي كان ينتظرها على سطح بيتهم المجاور حين تنشر الملابس ظهرًا كل يوم ولم يتجرأ أن يفعل شيئًا سوى مرة واحدة في الأسبوع الماضي حين استجمع قواه واحمر وجهه وارتجفت شفتاه حين قال على عجل: كميلة أحبج. ثم انصرف لكي لا يسمع ما قد يخجله أكثر. ارتجف قلبها لتلك الكلمتين وراحت تفكر بأنها كبرت ونضجت وهناك من يحبها. قال أبو علي: شبيج سكتّي كميلة؟ توردت وجنتاها من الخجل وقالت: إلي إنت تشوفه بوية بس خل يوافق على إكمال دراستي. لم تكن قادرة على رد طلب لأبيها وهي تعرف كم مضنك هو حال العائلة.
في اليوم الثاني لم تخرج كميلة إلى المدرسة على غير عادتها. لم تنم تلك الليلة. كانت تتخيل نفسها ممرضة وحسين معلم وهما متزوجان ولديهم خمسة أطفال الأكبر اسمه جعفر على اسم أبيها. عيناها تورمتا من البكاء ولا حلول بزغت في أفق تفكيرها كالهروب أو الانتحار. دخلت الأم إلى غرفتها: كميلة وقت المدرسة فات. حاولت كميلة الوقوف فسقطت على الأرض. حاولت الأم مساعدتها فإذا بنصفها الأيسر مشلول. طلبت العون من أخيها. أنهضوها وأجلسوها على الفراش فتيقنوا أن الشلل حقيقة. عرضت حالتها على أكثر من طبيب. كافة الفحوصات، حتى الأشعة المحورية للدماغ، طبيعية. نقص وزنها وشحبت. العلاج الطبيعي لم يفد. العام الدراسي انتهى بدونها. الخبر وصل للخاطب فألغى فكرة الزواج. لم تنفع الرقية الشرعية ولا التمائم. العلوية (الوالدة) نصحت بزيارة الإمام علي فهو حلال المشاكل ومشفي العلل. قالت العلوية: لقد شاهدت أعمى استرجع بصره بعد أن انتخى الإمام وهز أقفال المزار وبكى في حضرته ثم انشمر إلى الأعلى مرتين. وافقت والدة كميلة والتمست العلوية أن ترافقهما. كميلة كانت فتاة تصلي وتصوم وتثق أن الإمام سوف لن يرد لها طلبًا. انطلق [باص] الكوستر بعد منتصف الليل إلى النجف. تخيلت كميلة أن حسين معهم في الباص يلامس جسدها ويخفف عنها ويبدي حبه رغم مرضها وتصاعد صدى كلماته: "كميلة أحبج" في مخيلتها حتى صارت تقول: آني هم والله. أمها كانت شبه نائمة استيقظت على همسها: كميلة تردين شي يمة؟ لم تنم كميلة بل كانت سارحة في أحلامها وسعيدة بفسخ الخطوبة. انبلج الصباح عن القبب الذهبية للإمام فصاحت العلوية: السلام عليك يا أمير المؤمنين. يا داحي باب خيبر أريدك تشفي هالمسكينة. توجه الجميع إلى الحضرة وكميلة على الكرسي تدفعها العلوية. تدافعوا حتى وصلوا المرقد المهيب والمحاط بقفص ذهبي ولم يكن بينهم وبينه سوى جنازة محمولة مع حشد من المرافقين يرددون: لا إله إلا الله. بعد مرور الجنازة دفعت العلوية كميلة لتلامس أقفال الذهب واستدعت سيدًا كان قيد الإشارة لكي يساعدها في طلبها. بدأ بالدعاء بعد أن وضع يده اليمنى على رأسها وبعد عشرة دقائق طلب من العلوية أن تساعدها على الوقوف مستعينة وممسكة بالقفل الذي كان يسمح بتحريكه يمينًا وشمالًا. انتحبت كميلة وصاحت بأعلى صوت: دخيلك يا أمير المؤمنين ما عندي غيرك! وبكت وراودها صوت حسين: كميلة أحبج. كانت تهز القفل كما يهز سجين قفل باب السجن محاولًا الهرب وهي تحاول أن تهرب من شللها لكي تطلق العنان لجسمها اليافع وعجزها البارز وضحكتها الخجولة وهي تتغنج أمام حسين المكتوي بنيران نظراتها. كانت العلوية تسند جسدها النحيل ونصفها المشلول. لاحظت العلوية أن كميلة أمسكت بالقفل بكلتا يديها. هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها حركة للذراع الأيسر منذ أن أصيبت كميلة بالشلل. ثم ارتجفت رجل كميلة اليسرى وهي تنتحب وتناجي الإمام وعينها تصوب نحو القبر من خلال الثقوب. ارتفع جسمها في الهواء ولم تعد بحاجة إلى إسناد ثم ارتجف جسمها بعنف وارتفع فوق سطح بساط الكاشان الإيراني الملون والمزخرف بقدم وهي تصيح وتمسك بالقفل ثم سقطت على الأرض مغشيًّا عليها. ارتجفت مرتين ثم أخذت تئن وتتفوه بكلمات غير مفهومة ثم نامت. واصلت العلوية وأمها قراءة الأدعية فوق رأسها والصلاة. بعد عشرة دقائق فتحت كميلة عينيها بعد أن سمعت صوت ارتطام شابة أخرى مصابة بالخرس في الأرض. قالت أريد ماء. أجلستها العلوية فمسكت كأس الماء بكلتا يديها. صاحت العلوي: اللهم صلّ على محمد وآل محمد. تعاونت العلوية وأمها على مساعدة كميلة على الوقوف فوقفت دون حاجة إلى كرسي. الصلوات مرة أخرى. غصّت أم كميلة بالبكاء وهي تقبل وجه كميلة وتقبل الشباك مرة أخرى.