نموذج كوريدا
يذهب البعض لتشبيه أسلوب كوريدا لأسلوب أحد آباء السينما اليابانية: ياسوجيرو أوزو. وبرأيي، فإنه رغم بعض التشابه في زوايا الكاميرا وأحجام اللقطات ومواضيع الدراما الإنسانية والاجتماعية، يذهب كوريدا لصناعة أسلوبه الخاص، فغالبًا ما نرى طاولة طعام أو مكان تجتمع فيه العائلة، ومساحات ضيقة ومليئة بالأثاث، بالإضافة إلى كيفية ترتيب الممثلين داخل الصورة، ناهيك عن تناول الكثير الطعام، وبشراهة أحيانًا.
[الصور من فيلم "Tokyo story" للمخرج ياسوجيرو أوزو.]
يعتمد كوريدا كذلك على الجانب البصري كبديل للنص؛ نرى أكثر مما نسمع. في واحد من المشاهد في رحلة إعادة الطفلة لمنزل عائلتها في فيلم "سارقو المحلات"، نسمع من داخل منزلها شجارًا حولها بين أمها وأبيها. بينما يقف الرجل والمرأة مع الطفلة النائمة، يراقبون ما يحدث ويبحثون عن الطريقة الأنسب لإعادتها، يقول الرجل مع ارتفاع صوت الشجار "هذه هي فرصتنا" ويقترب لأخذها، فتجلس المرأة على الأرض في مكانها، بدون أن يقول أي كلمة إضافية يجلس الرجل بجانبها. في اليوم التالي يستيقظ الولد على الفتاة وما زالت في المنزل معه. رأينا ما حدث ونعلم الأسباب التي أدت لذلك دون الحاجة لحوار. وللألوان دور مهم في صورة الفيلم كذلك، إذ غالبًا ما تطغى ألوان حزينة وباردة على اللقطات، وأشياء صغيرة مثل رحلة للبحر تؤثر في الجو العام للفيلم وتجعل الألوان أكثر حيوية ولو لوقت قصير.
من حرص كوريدا على جودة الصورة والقصة في أفلامه، فإنه يخرج ويكتب ويمنتج أفلامه بنفسه كذلك. هكذا يستطيع أن يتأكد من أن الفيلم بكافة جوانبه مطابق لأسلوبه.
الروابط الأسرية ثيمة متكررة في أفلام كوريدا، إذ طرح في هذا الفيلم أفكارًا حول صناعة عائلات جديدة ودور العائلة في حياة الأفراد. كذلك تحدى الحدود التي قد تصاحب مصطلح العائلة؛ صلات القرابة والعلاقات بين الأجيال. أما علاقة الأب بالابن بالتحديد هي شيء بارز كذلك حتى إن لم تكن محور الفيلم الأساسي؛ كيف يتفاعل الأبناء مع آبائهم، كيف ينقل الآباء عاداتهم وصفاتهم للأبناء، وهل يمكن خلق هذه العلاقة دون وجود صلة الدم، الأمر الذي يظهر في فيلمه "Still Walking" الذي يتناول في قصته علاقة أب بابنه وتأثير هذه العلاقة على نوع الرابطة التي يحاول بناءها الابن مع ابن زوجته، وإمكانية أن يكون له والدًا أفضل من والده.
كل شخصية في أفلامه هي شخصية مدروسة بعناية وتعقيد، لا تشبه أي شخصية أخرى، ولا يستهين كوريدا بصناعة هذه الشخصيات، حتى وإن كان عددها قليلًا في الفيلم، إذ عُرف عنه أنه يعطي النص للممثلين بدون حوارات وإنما بإرشادات عامة عن الأحداث، فيتركهم ليملأوا النص ويضيفوا إليه من وجهة نظر جديدة. فتكون كتاباته تفاعلية وهذا ينعكس بالتأكيد على أصالة الأفلام والشعور بحقيقتها وواقعيتها.
قد تحمل كثير من أفلام كوريدا تشابهات عدة، إلا أن كل فيلم يروي قصة شخصيات لسنا معتادين على رؤيتها في الأفلام، حتى وإن لم تكن قصصهم تحمل الكثير من الإثارة والحركة، فإنها حين تصل ذروتها وتُحَلّ أمامنا عقدها تبقينا على اتصال بالفيلم حتى بعد انتهائه، ويتركنا المخرج مع شخصيات لا يمكن نسيانها.
في فيلم "Nobody knows"، من إنتاج 2004، يصوّر كوريدا قصة جميلة وغريبة من طوكيو. تبدو العائلة سعيدة، إذ تنتقل الأم العزباء مع ابنها الأكبر الذي يبلغ من العمر 12 عامًا إلى منزل جديد، ويصل طفلان آخران مع الأثاث مختبئين في حقائب سفر، وقبل أن يجلسوا إلى الطاولة كعائلة سعيدة تصل أختٌ إضافية متسللة ليلًا بعد أن جاءت بالقطار. تقع سعادة العائلة وحياة الأطفال المكتملة تحت الاختبار بعد أن يتحتم على الطفل المراهق أن يعتني بإخوته الصغار بعد أن تتركهم أمهم بلا عودة. لا يتشارك أي من الأطفال والده، والمعلومات التي يمتلكها الأطفال عن آبائهم قليلة، حالها حال والدتهم كذلك. يُترك الأطفال ليواجهوا تحديات الحياة دون أن يعتني بهم أحد، في مدينة مزدحمة، مليئة بالصعوبات. لكنهم يراقبون الشارع والمدينة بصمت ولا يستطيعون تغيير شيءٍ من حولهم. هذه التركيبة الغريبة، تجعل الأطفال أكثر صلابة، وتقرّبهم من بعضهم البعض.
يبدو المنزل لطيفًا وجميلًا في البداية، إلا أنه ومع مرور الوقت تتراكم فيه الأشياء ويكبر الأطفال فيه ويزداد ضيقًا. رمزية موائد الطعام حاضرة هنا كذلك، فعندما نراهم أسرة سعيدة يتم تحضير العشاء بخضرواتٍ طازجة والعائلة حول المادة، وعندما يشعرون بالضيق يتناولون طعامًا جاهزًا لم يُستمثَر فيه جهد أو مال لإضافة الحب إليه أو جعله أكثر رومانسية، وبعد ذلك لا نراهم يجلسون إلى طاولة الطعام أصلًا.
ألوان الفيلم كئيبة، باردة وداكنة، رغم أن الطبيعة الخضراء جميلة في الخارج، لكن ليس للأطفال منها إلا لمحات قليلة. ويبدو وقع الفيلم بطيئًا للغاية، وهو كذلك، ولكن ما يجعله أكثر بطئًا هو أننا نعيشه من وجهة نظر الأطفال. الفيلم طويل ومليء بالأحداث، التي غالبًا ما كانت حزينة ولكن مؤثرة للغاية وصادقة. تروي ظروف الأطفال من وجهة نظرهم، وتُشعِر المشاهد بالضيق معهم. لديهم طاقة وأفكار ولكن لا مساحة لهم في هذا العالم.
أما فيلم "Still Walking"، من إنتاج 2008، يحكي قصة عائلة خسرت ابنها قبل 12 عامًا ويبدو أن الأم والأب لم يتجاوزوا هذه الخسارة فلم يغيروا شيئًا في غرفته. نراهم على طاولة الطعام، يجتمعون سويًّا كل عام لتخليد ذكرى خسارة ابنهم، تنضم لهم ابنتهم وزوجها وأطفالها، تريد أن ينتقل الأم والأب للعيش معها ولكن من الواضح أنهما غير مقتنعين بحاجتهما لها، أما ابنهم الثاني، نعلم أنه يعتقد بأنهم خسروا ابنهم المفضل وهو بمثابة خيبة أمل لهم بعد أن درس "ترميم أعمال فنية" بدلًا من الطب مثل والده، وهو الآن يبحث عن وظيفة لقلة الفرص في مجاله. تنضم له زوجته، الأرملة وابنها، واللذان لا يحظيان بتقبّل العائلة رغم محاولاتها لكسب رضاهم. في صراع واضح، يحاول الابن أن يقنع والديه بعائلته الجديدة، لكن الأب وهو جد الآن يخبر ابنه أنه لن يكون أبًا حقيقيًّا لابن زوجته لأنه ليس ابنه، ولكن لاحقًا نشاهد شجارًا يجعلهم يبدون كأي عائلة "طبيعية"، يشرح الجد لحفيده عن مهنة الطب، ويتدخل الابن ليخبره أن ابنه ليس مجبرًا على دراسة الطب.
نرى ديناميكية معقدة في علاقات الأفراد في هذه الأسرة، وصناعة الأسر وكتابة شخصياتها بهذه العفوية والأصالة لا بد أن تكون من أبرز سمات كوريدا. في إضاءة خافتة وتصوير داخل منزل تقليدي ضيق تتفكك هذه القصة. مرة ثانية نرى الطعام الياباني وتحضيره، ونراهم يأكلون ويتحدثون ويلعبون على طاولة الطعام. كذلك هناك تشديد على الطقوس، من عاداتٍ وتقاليد إلى أمورٍ بدأتها هذه العائلة، ففي كل عام وفي نفس موعد اجتماع العائلة، يدعون الفتى الذي حاول إنقاذ ابنهم الميت، وكأنهم يودون أن يتأكدوا من امتنانه على أنه حي في كل عام، وربما لتحميله ذنب موت ابنهم.
الموت حاضر دائمًا
بما أننا لاحظنا أهمية العلاقات والروابط في أفلام كوريدا، من المهم أن نلاحظ أن الموت في أفلامه إما يقطع أو يقرب علاقة شخصياته ببعضها. في كل من الأفلام التي ذكرناها، هنالك ميت تدور حوله القصة، أو ميت يغير مسار القصة. وفي كل فيلم نجد طقوس تكريم الموتى، ففي اليابان من الضروري احترام الميت والتعامل معه وكأنه موجود، وهذا ما يجل نسيان الميت أو تركه وحيدًا ذنبًا. لقطات زيارة المقابر أو العناية في "الشراينات" تتكرر ودائمًا ما تكشف شيئًا جديدًا عن الأحداث وطبيعة العلاقات بين الشخصيات.
هناك توق شديد وواضح لدى كوريدا لتكوين العائلة، لا بشكلها المعتاد ولكن بدورها كنظام للدعم والحماية. أفلامه ذات الإيقاع البطيء لا تغفل عن تصوير ضجة العالم على حقيقتها، إذ غالبًا ما تدور القصص في أحد أحياء طوكيو المتواضعة، حيث لدى جميع العائلات مشاكل مادية، وكأن كوريدا يعتقد أن العالم لا يتسع لشخصياته، وهو أسرع دائمًا من إيقاع حياتهم؛ سنجلس معهم على طاولة عشاء ونسمع منهم أحاديثهم الجانبية، نفسهم الأخير قبل أن ينقلب عليهم العالم. يحُل كوريدا العقد ويصنع نهايات جميلة للغاية، ولكنها ليست سعيدة طوال الوقت، أحيانًا تتركنا مع أفكار مؤرقة، أطفالٌ يعيشون لوحدهم ويموتون لوحدهم، ألم الفقدان الذي لا يمكن تجاوزه لكن يمكن توريثه.
بالنسبة لي، أفلام كوريدا عبارة عن فسحة لأخذ نفسٍ طويل من السينما الصاخبة والمؤثرات البصرية والشخصيات الكبيرة التي تدور حول نفسها.
[يمكنكم قراءة الجزء الأول من هذه المقالة من هنا].